صحيح أن اللغة بأشكالها الأبجدية تكاد تستهلك مساحة واسعة من الفضاء الإنساني، وتتحلق حولها دراسات الألسنيين والنقاد وتأملات الفلاسفة، ومنحتها حركات معروفة معاصرة، مثل البنيوية وما بعد – البنيوية، والحداثة وما بعد – الحداثة، والتفكيكية وما إلى ذلك، مكانة مركزية، دارت حولها ولا تزال تدور، ولكن المنطلق يظل واحداً هو أن كلمات اللغة لاتمتلك معاني متأصلة فيها، بل هي علامات اعتباطية لا تكتسب معانيها إلاّ في سياق بنية لغة قوم من الأقوام. ويأتي بعد ذلك وضع طبيعة العلاقة بين الواقع واللغة والتاريخ والذات الإنسانية موضع تساؤل، ويصل الأمر بزعيم التفكيك الفرنسي «جاك ديريدا» (1930- 2004) إلى التصريح بأن لا شيء خارج اللغة ذاتها، أي لاصلة للعالم خارج النص بالمعاني فيه حيث تلعب اللغة لعبتها، ولا شيء غير اللغة، وبالتالي وضع موضع تساؤل شرعية مفاهيم مثل «الحقيقة» و «المعرفة» والهوية». وتكمل ما بعد – الحداثة تفريغ الحدث اللغوي من أي علاقة بواقع وإنسان حتى، وتهجم هجوماً واسعاً على ما تسميه مزاعم التنوير بامتلاك الحقيقة، وتتعامل مع اللغة بوصفها أداة غير دقيقة للتعبير عن أي واقع من أي نوع.
ما لدينا «ألعاب لغة» حسب توصيف النمساوي «فتجنشتاين» (1889-1951)، وواقع «مفرط»، شبه واقع تخلقه اللغة كما يرى الفرنسي «جان بودريار» (1929-2007) صاحب فكرة أن ما يشهده الإنسان ويعيشه بتأثير الألعاب اللغوية ليس «واقعاً» بل «شبه واقع» في الحقيقة حل محل الواقع الفعلي ومحاه. ثم يأتي من يخترق كل هذا الدوران بأطروحة «الحداثة المتجاوزة»، باستدارة اجتماعية/ سياسية/ فكرية إلى التاريخ المجسد كوقائع وأحداث وليس كألعاب لغات. نشأت هذه الحركة على يد علماء اجتماع وفلاسفة من أمريكا اللاتينية، أشهرهم «إنريكي دوسل» (1934) و«والتر مينيولو» (1941)، وبدأت بوضع تراث ما تسمى النهضة الأوروبية، وهي تعني في معناها الفرنسي الأصلي «الانبعاث الأوروبي»، موضع تساؤل، وأضافت إليه ما تسمى «الحداثة»، وكشفت عن أشد وجوه هذا الانبعاث وحداثته عتمة؛ ليس وجه الاستعمار وعصوره المنسية فيما يتعلق باستعمار أمريكا اللاتينية وبقية العالم فقط، بل وجه ما تسميه «المنطق الاستعماري» بشكله المهيمن المشهور باسم مركزية أوروبا، سواء تجلت في دراسة اللغة أو الفلسفة أو التاريخ.. إلخ، الذي جعل معيار كل شيء أوروبياً صرفاً.
* * *
ثقافة الصورة التي يكثر الحديث عنها بمناسبة التقانة المعاصرة، تقانة وسائل التواصل الحديثة والثورة المعلوماتية، ليست حديثة بالمطلق، بل هي قديمة، بل وغارقة في القدم، وهي مصدر الفعالية الفنية والفكرية وأداة التواصل الأكثر استنارة، حتى مع هيمنة «اللغة» وما تفرع عنها من مفاهيم مثل مفهوم «العلامة» و«الرمز» و«الإشارة». وكلها لو دققنا، تعبر عن توق من طرف خفي إلى إزاحة لعبة الأصوات والأشكال الأبجدية، والالتفات إلى الصورة كما تظهر في الفنون التشكيلية والمعمارية والنحتية، ومن ثم استثارة طاقة المخيلة بأقصى قدر ممكن من الفعالية.
في رواية «مدن غير مرئية» للإيطالي «إيتالو كالفينو» (1923-1985)، يصل «ماركو بولو» الشاب ويمثل في حضرة «قبلاي خان» صاحب الإمبراطورية الشاسعة، ويقدم تقريره عن رحلته التي كلف بها للتعرف إلى المدن التي غزتها واستولت عليها جيوش الإمبراطور المغولي. فماذا يقدم؟.
إنه يتحدث عن ما شاهده وسمعه بالطريقة التالية: يخرج من متاعه طبلاً وساعة رملية وسمكاً مملحاً وقلائد من خرز وسهام وأصداف سلاحف بحرية، وينشرها أمام الإمبراطور، مرفقاً عملية نشر هذه المواد بإشارات وقفزات وصيحات إعجاب أو رعب، مقلداً تارة عواء ذئب أو نعيب بوم، بل وحتى زقزقة عصفور.
بالطبع لم تكن الروابط بين عناصر قصصه التي يسردها بهذه الطريقة، واضحة دائماً بالنسبة للإمبراطور. هذه الأشياء، وما يرافقها من إيماءات وصرخات، يمكن أن تكون لها معانٍ متنوعة. مثلا قد تدلّ جعبة سهام على حرب أو على صيد وفير أو مخزن عتاد، وقد تعني ساعة رملية أن الوقت يمرّ، أو الرمل تحديداً فقط، أو المكان الذي تصنع فيه هذه الآلة.
حسب تفكير «كالفينو»، الفراغ الذي يظل حول هذه الأشياء ويكتنفها هو ما يؤكد لقبلاي خان، كل حدث أو نبأ ينقله إليه مخبره الذي لم يتعلم لغة إمبراطوره بعد، متجنباً ملأه بالكلمات. وبهذا تظل لوصف ماركو بولو للمدن التي زارها هذه الميزة: «يمكنك التجول فيها فكرياً، يمكنك أن تضيع في دروبها، أو تهرب منها، أو تقف مستمتعاً بهبوب النسيم».
هذه أفكار أدبية وفنية عن أقدم وسيلة بشرية للتواصل، وأعتقد أن «كالفينو» لم يكن بعيداً، وهو يكتب، عن تذكر المناسبات التي كانت فيها الشعوب وليس الأفراد فقط، تتواصل بالأشياء، قبل أن تولد الأبجدية، وحتى بعد ولادتها. فحين كان الرمز الصوتي المكتوب غائباً، كانت وظيفة الخطاب والاتصال والتواصل تعتمد على الأشياء، أي على ما هو جسدي ملموس. ولعل الحرية التي تتيحها الأشياء والفراغ المحيط بها لمخيلة الإنسان، وفعالية قدراته بالتالي، هو ما اجتذب كالفينو، ويمكن أن تكون جاذبية التعامل مع أخبار ما يمكن أن نسميه «لعبة الأشياء» مقابل «لعبة الكلمات» التي مارستها الشعوب القديمة هي مصدر الإيحاء.
* * *
من هذه الأخبار ما رواه المؤرخ اليوناني «هيرودوتس» عن حملة الملك «داريوش» الفارسي في بلاد الصقالبة. بدا وضع داريوش صعباً في مواجهة ملوك الصقالبة، فأرسلوا إليه رسولاً يحمل هدايا هي عبارة عن «عصفور» و«فأر» و«ضفدعة» و«خمسة سهام»، فطلب الفرس من الرسول إيضاح معنى هذه الهدايا، فرد عليهم بأنه أمر بتسليم الهدايا فقط، والعودة على الفور، وطلب منهم أن يفسروا معنى الهدايا التي تسلموها إذا كانوا أذكياء فعلاً.
غادر الرسول، فتشاور الفرس. وقال داريوش، إن الصقالبة يستسلمون له ويسلمون أراضيهم وماءهم، وتوصل إلى هذا الاستنتاج على أساس أن «الفأر» يعيش في الأرض، وغذاؤه ثمار الأرض نفسها التي يتغذى بها الإنسان، و«الضفدعة» التي تعيش في الماء، أما «العصفور» فيرمز إلى الفرس أنفسهم، أما «السهام» فالصقالبة يعبرون بوساطتها عن شجاعتهم في القتال.
هكذا كان تفسير داريوش، ولكن أحد حكمائه عارضه، وقرأ رسالة الهدايا على النحو التالي: «إذا كنتم أيها الفرس لن تطيروا في السماء كالعصافير، ولن تختبئوا في الأرض كالفئران، ولن تقفزوا في البحيرات كالضفادع، فلن تعودوا إلى بلادكم، بل ستسقطون صرعى بهذه السهام». وكانت «قراءة» الحكيم صحيحة، وهي القراءة التي اضطر ملكه إلى الاعتراف بها لاحقاً.
وستشهد هذه الرسائل تطوراً، فيبدأ الإنسان بنقش صور الأشياء بدل أن يحضرها بذاتها. وسيطلق على هذه الصور اسم «الكتابة التصويرية»، الفكرة + صورة، والعلاقة بينها وبين ما يجاورها معنى. والطريف أن من يطّلع على طرق ومناهج كتابة اللغات القديمة سيعرف أن الكتابة التصويرية لا تزال تستعمل في الحياة اليومية، وخاصة في المدن الكبرى، ويصادفها الإنسان في كل خطوة. علامات المرور (التحذير من منعطف أو تقاطع أو ممر قطار.. إلخ) هي أكثر النماذج شيوعاًَ بالطبع، إلاّ أن هذه كتابات تصويرية مجردة، هي صور أشياء، أما العلامات التي تحظر حركة السيارات مثلاً فهي فكر+ صورة.
وبالعودة إلى كالفينو ورؤيته، نجد أن مسألة الصورة، سواء كانت مرسومة أو مرموزاً لها بحروف أبجدية، لا تزال هي الميراث المتحدر من العصر الحجري إلى العصور الحديثة، إلى الحد الذي يصعب فيه فهم لغة الفن التشكيلي المعاصر، أو لغة الشعر والمعمار الحداثي، من دون معرفة ولو أولية بكيفية التعبير بالصورة، الذي مارسه الإنسان منذ عصوره الغابرة، قبل أن يضع المنظرون علاقة «اللغة» بالواقع موضع تساؤل، وقبل أن يخرج من يقول عن النص الإنساني «لا شيء خارج النص»، أي قبل أن تظهر الحداثة، وما بعدها من تفكيك والعيش في عالم الأشباه، وما إلى ذلك وجهها المعتم في قطع صلة توق الإنسان وأشواقه بالعالم المحيط به.
__________
*الخليج الثقافي