خاص- ثقافات
*عمر ح الدريسي
أرسطو يقول: إذا أردت الواقع فالتاريخ يقدمه لك”، و الشاعر عنترة بن شداد، بسبب ما لاقاه من مُعاناة بين قومه وقتها، قال: “هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ (خُفُوت)..”،ويقول الشاعر محمود درويش: “لدي ما يكفي من الماضي و ينقصني غد.. وعلمني الشعر…قد تحتاج بنت ما إلى أغنية لبعيدها… وعلمني الشعر.. فلست أنت من ينتظر.. و مثلما سار المسيح في البحيرة سرت أنا في رُأْيَايْ..”.
و يظل أهم الفلاسفة هم من توسموا قوة الشعر في الوجدان الإنساني رغم قلتهم، و منهم الفيلسوف الفرنسي، غاستون باشلار، الذي اعتبر الشعر: “مَخْلوقا لَيُدْرَك إلا من عملية الخَلْق” وَوَضَعَهُ في مرتبةٍ أسمى من التأريخ والفلسفة بكثير. و يُضيف أحد الباحثين: “الشعر هو الكشف عن عالم، و لكن هذا العالم يظل في حاجة إلى الكشف”.
الفيلسوف يفكر و يخلص إلى فكر أو نظرية، و يعتبر نفسه هو الأحق بالسؤال، ثم يبحث عن اللغة التي تسعفه في نسج الأسلوب الذي يمكنه من طرح السؤال، و توصيل أفكاره إلى المجتمع، و الكاتب المفكر يبحث عن الكلمات و التعابير و الجمل التي تُسعفه، لوهج أفكاره، أما الشاعر غير الأول و لا الثاني، بل الشاعر هو روح سؤال الفيلسوف و جوهر فكر الكاتب: الشعر معنًى عميق، يتجاوز المَرْئِي إلى ما لا يُرَى، يتجاوز المنطق العقلي الآني إلى المُرتقب.. !!
تعتبر الموسيقى هي لغة الطبيعية، و الإنسان طبيعي، و من طبيعته أن يعشق الطبيعة، فكان عشقه للموسيقى عشقا أخاذا حتى اتخذ من أصواتها لغته الأولى و الأساسية، وعليه تعتبر الموسيقى لغةً إنسانية بامتياز. والشعر ما هو إلا توصيف إيقاعي منظم لهذه اللغة، حيث الإنسان كائن و مخلوق طبيعي يعشق الفن و الجمال و الحياة بالسليقة، و حاجته للتعبير جعلته يطور ملكته العقلية و اللغوية، و إنْ لازالت قاصرة، لتستجيب بقدر ما: لحاجاته النفسية، الروحية و المادية و الحياتية من خطاب و تواصل لفك شفرات العلاقات و الحب و المعادلة الصعبة لـ “غريزة البقاء” لديه التي يحقق عبرها ذاته مُحاولا تفكيك الغاز الكينونة و الوجود و الخلق و الإبداع… مُستقصيا التراث والتاريخ البعيد مُعايشا بكل عُمق إنساني ووعي ثقافي وفكري للحاضر، كاشفا سابرا للبواطن، مُستشرفا بكل حذاقة ونباهة واستلهام، للغائب الآتي، مُشخصا للبديل الروحي الجمالي والواقعي، عارضا على الملأ، “الحقيقة” كما تعرض الزهور ألوانها على كل ناظر، بداية الربيع، وتُبدي الوردة جمالها لكل وارد، وتفوح حين نُضجها الكامل بعبق عطرها لكل مُجاور، تحت شمس الضحى فجر أولي أيام المصيف، غير آبهة ممن يعرضون، وهم من أغوتهم لذة لحظة ظل جافة عابرة، حرمتهم من دسم رطب طيب وردٍ يسلك فجاج الأنفاس ليبعث الحياة في المسام المنسية والخلايا الخالية ويبعث بنور الشمس الساطعة لتسطع بهجة وضياءا ودفئا وحيوية، كل الأماكن في جسم الإنسان وأعضائه، وما يريده له، الخفي منه، الباطن والظاهر.
الشعر كان و لا زال أرقى فَن يُسعف الإنسان وقت اللجوء إليه عندما يضيق عليه الوجود، ليشكي معاناته و همومه وأحزانه، ليفصح به عن ضيق الحال و سواد المآل، ليشكي به ألم الروح، ليهرب به من جموح بني النوع، ومن جشع السلالة، ومن كيد الأهل، إلى مشاتل الأصل، و ضفاف عين النبع الصافي، يتأمل الخلق، و يتضرع بنجوى الروح، حبا و غيثا من الخالق، بصدق و استشراف، سبيله في ذالك، العلم و المعرفة و اللغة و التعبير الشعري و النفس الشاعرية الأصيلة…
الشاعر اليمني، أبي رواحة الموري، يقول:
الشِّعـرُ صِنْـوُ الرُّوح إلا أنَّـه **متَحـدِّث عنهـا وفيهـا راكضُ
الشِّعـرُ ديوانُ الحيـاةِ ورسْمُـها ** يحكي صـداها بالمعـاني نابِـضُ
و الدكتور عبد الوهاب الفيلالي، عرف الشعر في أحد محاضراته كالتالي: “الشعر كشف للمتحجب عن الرؤية من خلال اختراق الواقع القائم بكل تشكلاته و مظاهره العيانية و تناقضاته، و النفاذ إلى دواخل الأشياء و الموجودات، و بناء الوجود المتناغم و المنسجم بفضل ملكة الخيال” و “النص الإبداعي مختلفات تأتلف”.
بلغة الموسيقى، الشعر وتر حساس، و المجتمع هو الآلة و الشاعر هو العازف و القطعة الموسيقية، هي ما يعبر عن رقي هذا الثلاثي العجيب، و من هنا تأتي أزمة الشعر في عالم راهن على تهميش العازف وقتل الموسيقى، وتحنيط الآلة الموسيقية، عبر التسويق للترهات والتبليد والعنترية “الدنكيشوتية” و تيئيس الخلق والإبداع والفن الهادف أمام جبروت أوهام المادة، وجهل “الشعبوية”، وصلف “طواحين الهواء”، يقول محمد مصطفى هدارة في تعريفه للإبداع: “استبطان منظم لتجربة روحية تستهدف بلوغ الحقيقة، بعيدا عن الوجود الفعلي للأشياء”. فحسب الفيلسوف الروماني، لوسيان بلاغا، الشعر هو من يجعلنا أمام الواقع بتقاطعاته الدائمة المبهمة ما بين الموت و الحياة، هو الجزء الخارق فينا، اي حسب باشلار، “الشعر هو ذاك الصوت الذي حدث منذ الأزل ما بين النار و الماء، الشعر هو قوة الخيال المتحقق..”، وهذا ما جعل هيدغر يدعو الى عودة الفلاسفة للشعراء او الى قراءة الشعر.
الشاعر هو من له قدرة اكتشاف أسرار الكون التي توجد بين السماء و الأرض، و الشاعر الحقيقي هو من له القدرة على سبر أغوار النفس الإنسانية لإظهارها عن طريق اللغة والمصطلحات الدلالية و الصور التعبيرية الرمزية، تقديم ذالك العالم الخفي بعبارات الجمال و كلمات الخلود و بهارات عزيز الألوان، بنظم عقد خوالج الصفاء و الحقيقة الناصعة قدر الإمكان…
إذا كان ‘أفلاطون’ يبخس الخيال حقه و يرى القصيدة لعب “بالكلمات التي لاتحمل معنى” فإن أرسطو اعتبر:”الشعر تجلي للمجهول بفعل الخيال، مُبْدِع الصور”، و الفرنسي جون بول سارتر اعتبر “الشعر أقصى درجات الحرية” و الأمريكي ‘لورنس فرلينغيتي’، يعرف الشعر على أنه: ” الشِّعر هو الحقيقة التي تكشف كلّ الأكاذيب، وهو الوجه بلا مساحيق” و يضيف: ” … الشِّعر هو الذاكرة العظمى… هو عين القَلْب، وهو صميم الرُّوح… الشِّعر، صرخة القلب التي تُوقظ الملائكة وتقتل الأبالسة.”
القصيدة الشعرية الصادقة رصاصة يقتل بها الشاعر أحداث كادت تقتل الحياة عنده أو من حوله، ليبعث بها أمل حياة جديدة، و لهذا غالبا ما نحب شاعرا و لو بقصيدة واحدة أو كاتبا و لو بمقال و حيد، لأنهم و بكل بساطة قتلوا ما يؤرقنا، و بعثوا الحياة فيما نريده لنا، الكُتاب و الشعراء و الكتب و الدواوين كثيرة، لكن الكتب والأفكار و الدواوين والقصائد والشذرات والأبيات الخالدة قليلة جدا، غير أنه يبقى صدق القصيدة الإنساني مِنّا، بمنزلة الشَّغاف، هي في القلب شجن، وتبقى القصيدة ملاذنا الآمن، “الشعر قد يكون الكلأ في مَرْج الأدب الذي يعيدنا إلى الجذور… !”.
الفيلسوف و الشاعر الألماني، فريديريك نتشه، لا يعتبر الشعر إلا ما كتب بدم الشاعر، يقول: “من كل ما كتب.. لا أحب إلا ما كتبه المرء بدمه، اكتب بدمك.. !“، إلا أن الدم الذي يعنيه نتشه يتضّح من سياق شعره، أنه هو “الروح”، حيث كتب تحت عنوان “الساحرة”:
“هل أسأنا الظن ببعضنا
كنا بعيدين عن بعضنا
لكننا الان في هذا السجن الضيّق
مكبلين بنفس القدر،
فكيف نقدر على البقاء أعداء
أليس علينا ان نحب بعضنا
حين لا نستطيع الهروب ؟”
وأخيرا وليس آخرا، لابد من الاعتراف بما للشعر من حياة من أجل الحياة، بحب في الحياة وهو الأنفع ولو كان حتى بحنين، فهو أفيد لبعث الروح فيها من جديد، لتكون العبارة الشعرية كالمصل الذي يزيح السم في العسل، الشعر ترياق للمحبة ضد الجفاء والبرودة والصلف، الشعر بعث لروح الأمل ولو تكرر كل مرة ومن جديد، اقول:
“ ولنا في الحنين أنين
ولنا في عُمق البحر
وفي السّر
وفي الصّمت
كما في البُعد،
عُمْر من الحريق
ألتقط شظاياه،
جُرحًا وحرفًا
كلمةً وشذرةً..
أُودِعُهم في صدر الصّدى
أُرمِّم بهم أنفاس الغريب
وأقوّم بهم الصّدر المُهترئ
وأبعث الروح من جديد
في كل نبض؛
نبض القلب المُحترق ..“
!!..
عمر ح الدريسي
drissi-omar1@live.fr