جوزبّه كاتوتسيلا: الحكاية في زمن الصمت

*ترجمة: جهاد الشبيني

الروائي الإيطالي جوزبّه كاتوتسيلا ضيف شرف ملتقى الحكايا والحكائين 2018

طُلِبَ إليَّ بوصفي كاتبًا غربيًّا من أوروبا، وتحديدًا من إيطاليا، أن أتحدث عن الحكايات، وهذا ما سأفعله.

الحقيقة أنني وجدت أننا نعيش في زمن الصمت، وليس في زمن القصص.

زمن الصمت

لكن كيف هذا؟

إننا لم نشهد زمنًا أكثر صخبًا من هذا، فأينما نولِّي وجوهنا نسمع شخصًا يتحدث: في التليفزيون، في الراديو، في الصحف، في الإنترنت. لقد أصبح بإمكاننا جميعًا الآن التحدثَ بصوتٍ مسموعٍ من شبكة اجتماعية. نعم، كلُّ هذا صحيح، لكنه دائمًا ما يكون صوتنا نحن الغربيين. في زمنٍ مثل هذا الزمنِ الذي يشهد امتزاجًا كبيرًا جدًّا بين عالمي الغرب والشرق، إن هذا أمر مجحف. لقد شرح إدوارد سعيد، الكاتبُ الفلسطيني-الأمريكي والأستاذ في جامعة كولومبيا، هذا الأمرَ جيدًا، في رائعته “الاستشراق”، إذ قال: “الاستشراقُ هو مجموع الهيئاتِ التي أنشأها العالم الغربي من أجل تسيير علاقاته مع الشرقِ، ويتضمن هذا القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية، ومع ذلك فإن العاملَ الثقافيَّ أيضًا مطلوب”. نعم، إن جميعَ العواملِ الثقافية: التليفزيون، الراديو، الأخبار، الإنترنت، الروايات، الأفلام، إلخ، تتحدث بصوتٍ غربي. ولهذا، تتكون لدينا صورةً عن العالم بأسره، مصحوبةً بشعورٍ بأن شيئًا ما مفقودٌ.

وفي الواقع، فإنَّ كلَّ هذا يأتي في مواجهة الحقيقةِ الصاعقة: أن ما لا نسمعه هو صوت من يخيفنا. وأقصد بذلك من يقول عنهم السياسيون والإعلامُ إنهم يغزون بلادنا ومن نحن في حربٍ معهم، أي: الأغراب. الأشخاصُ الذين يقولون إنهم يأتون سعيًا وراءوظائِفِنا، تأمينِنا الاجتماعي، هدوئِنا، وكذلك بلدنا: الأرضِ ومعالمِها الجميلة.

لماذا بدأتُ بالتركيزِ في قضيةِ الهجرة؟ لماذا؟ هل هي مسألةٌ بهذه الأهمية حتى نقومَ بدراستِها وفهمِها، أو محاولةِ سردِها في روايةٍ أو فيلم، أو تضييعِ الوقتِ في سبيلِها؟

حسنًا، السببُ الأولُ هو أنني أنا نفسي مهاجرٌ، مثلي مثلُ الجميع. انتقلَ والديَّ من جنوب إيطاليا إلى شمالها بعدما أنهوا دراستهم بحثًا عن وظيفة، لكنني كنت لأصبحَ مهاجرًا حتى لو لم يكن والديَّ قد انتقلا، لأنه إذا عُدْنا بالزمن إلى أجيالٍ سابقةٍ، فسنجد جميعَنا جَدًّا أو جَدًّا أكبر قد نزح. ربما بحثًا عن وظيفة.

وأيضًا لأنني أودُّ أن أذهبَ وأرى بعينيَّ، عن كَثَبٍ، ذلك الجزءَ المظلمَ: عالمَ الآخرين، الذي حكى لنا عنه “سعيد”. وهكذا وجدتُالرحلةَ (الكلمةَ التي أكتبها بخطٍ عريضٍ، لأنها ليست رحلةً عاديةً، تعرف أيَّ طريقٍ تسلُكُهُ فيها وكم من الوقتِ تستغرقُ: هذه الرحلاتُ أشبهُ بالرَّحلاتِ الأسطورية، مثلُ تلك التي حكاها لنا هوميروس في الأوديسا، فلا يعرف أحدٌ أي طريقٍ يأخذ وكم من الوقت تستغرقُ. كلُّ ما يعرفونه هو أنهم يُعرِّضُون الشيءَ الوحيدَ الذي يمتلكونَه – حياتهم  للخطر). وهكذا بعد البحثِ والدخولِ إلى العالم الشرقيِّ ورؤيتِهِ بعينيَّ، فهمتُ أن هذه هي القضيةَ الأكثرَ أهميةً في زماننا، فلم يحدثْ من قَبْلُ أن عاش شخص في زمن يشهد هجرة مماثلة، وأعني: ماديًّا وجغرافيًّا.

ولأنني بعد أن رأيتُ، كتبتُ روايتين محاولًا أن أفهمَ وأحكي عن العالمِ “الآخر”، الذي يأتي منه جميعُ هؤلاء الأشخاص، محاولًا أن أرسُمَ لهم وجهًا وأن أُعطيَ لهم صوتًا وسْطَ كلِّ هذا الصمت.

وقد حققت أولى هاتين الروايتين نجاحًا كبيرًا في جميع أنحاء العالم، وتُرجمت في اثنين وأربعينَ دولةً ووصلت إلى ملايين الأشخاص، وسيتمُّ تحويلها قريبًا إلى فيلمٍ كبير، وقد أصبحت ظاهرةً اجتماعيةً في العديد من الدول، فأمسى الأشخاص يُسمُّونَ بناتِهم باسم بطلةِ الروايةِ، وأطلقت المدن اسمها على الملاعبِ الرياضية، وأُخرِجت حفلاتٌ باسمها، فضلًا عن عشرات العروض المسرحيةِ المقتبسةِ عن الروايةِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ، والأغاني التي كتبها موسيقيون معروفون، والرسامين الذين يرسمون وجهها، وقامت الأمم المتحدة بتعييني سفيرًا للنوايا الحسنة بالمفوضيةِ الساميةِ للأممِ المتحدةِ لشؤونِ اللاجئين، حتى أصبحَ بإمكاني عندئذٍ الاستمرارُ في محاولاتي أن أرى بعينيَّ، لكن بأريحيةٍ أكبر.

ولذلك، كان عليَّ أن أفهمَ لماذا حدثَ كلُّ هذا، لماذا حققتْ روايةٌ شخصيتُها الرئيسية مهاجرةٌ هذا النجاحَ حول العالم؟

ومن ثَمَّ أدركتُ أن السببَ وراءَ ذلك كان أنني أَعطيتُ صوتًا ووجهًا لعدونا ومخاوِفِنا، أَعطيتُ صوتًا للصمت، وبيَّنت في نهاية الأمر أنه ليس أمرًا غير محتمل.

عندما ذهبتُ إلى لامبيدوزا، إلى حيثُ يصلُ المهاجرون، وإلى إيدوميني (مخيمِ اللاجئينَ الفظيعِ الكائن عند الحدودِ بين اليونان ومقدونيا)، وكاليه (وهو مخيمٌ فظيعٌ آخرُ للاجئين بين فرنسا والمملكة المتحدة)، والصومال، وجنوب السودان، وأوغندا، وكينيا، إلخ. وكان ما وجدته صمتًا شديدًا يصمُّ الآذانَ.

الشيءُ الوحيدُ الذي رأيتُهُ هو أعينُهم دون صوت.

وتحدَّثَتْ أعينُهم عن جوعٍ، واحتياجٍ، وخوفٍ. صمتٌ من جديد.

بشكلٍ أساسيٍّ لأنهم خائفون ومتعبون، فهم لا يعرفونَ اللغة، وقد تسبّبتْ لهم رحلتُهم الطويلةُ بصدمةٍ، وأدهشهم ما وجدوه في نهايةِ النفقِ الطويلِ الذي كان من الممكن أن يقودَهم بسهولةٍ إلى الموتِ لا الحياةِ، لا ما رسموه في أذهانِهم وقلوبِهم لأشهُرَ أو لأعوام، وإنما بلدٌ وشعبٌ – عندما يأتي الأمرُ إلى الدولِ الغربيةِ (أتحدث الآن عن أوروبا) – يرونهم بوصفهم غزاةً، ويضعونهم داخلَ ما يشبه معسكراتِ الاحتجاز: لا يمكنهم الخروجُ أو الحركةُ أو القيامُ بأي شيءٍ.

ليس هذا ما تتوقعُه بالضبط عندما تسافرُ لأشهرٍ هربًا من الحربِ أو المجاعةِ.

لذلك، فهم لا يتحدثون، ربما ينتظرون زمنًا أفضلَ للقيام بذلك.

لذلك، فإنَّ ما نفعله هو ملءُ هذا الصمتِ غير المحتملِ بكلماتِنا نحن، لأَنّنا نريدُ أن نفهَم في نهاية الأمر. وتأتي كلماتُنا من التليفزيون، ومن محطات الراديو، ومن صحفنا، ومن كلماتِنا نحن لا كلماتهم هم، مثلما أوضح “سعيد”.

لا يوجدُ تحاورٌ هنا، فقط حديثٌ مع الذات.

الأمرُ الذي يمكنُ أن يصبحَ بسهولةٍ، في غيابِ المُحاوِر، إلى إستراتيجية، أيديولوجية، زيفًا.

ولهذا أُطْلِقُ عليه زمنَ الصمت.

يمكننا أن نحاولَ ونرسمَ صورةً لما تكون عليه أوروبا: قارةً فقيرةً (بسبب أزمةٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ أيضًا، فجميعنا يتذكَّرُ انهيارَ المصارفِ، التي ما تزالُ تنهارُ في إيطاليا الآن مع إنقاذِ الحكومةِ لها) بسبب التمويلاتِ القليلةِ المخصّصةِ للسياساتِ الاجتماعية، يسكنُها عجائزٌ (في العقودِ الأخيرةِ، تتزايد أعمارُ السُّكّان أكثرَ فأكثر)، ما يعني أن أوروبا من غيرِ المتوقعِ أن يكونَ لها اقتصادٌ نامٍ، لأنه من دونِ الشَّبابِ العامِلِ لا يزدهر الاقتصادُ، لكنْ على النقيضِ يتدهورُ لأنَّ الحُكوماتِ يجبُ أن تدفعَ معاشاتِ تقاعدٍ عاليةٍ.

لذلك، فإن الأوروبيين بشكلٍ أساسيٍّ خائفون من فقدان ما يملكون، ولا ترغب أيةُ دولة بالمهاجرين، ويتزايد تعصبُ الأشخاصِ أكثرَ فأكثرَ، ويتزايد انتخابُ الأحزابِ المتعصِّبةِ أكثرَ فأكثر. 

ما هي عواقبُ عدم الرغبةِ في اللاجئين؟

لقيَ ما لا يقلُّ عن ستّين ألفَ شخصٍ مصرَعَهُ في البحر المتوسط في الخمسَ عَشَرةَ سنةً الأخيرة. ستّون ألفَ شخص. لا يمرُّ يومٌ – من إبريل حتى نوفمبر (عندما يكونُ البحرُ أكثرَ هدوءًا) إذا كنت تعيش في إيطاليا أو اليونان أو إسبانيا – تستيقظُ فيه دون أن تسمع في الأخبار أن خمسين، ثلاثين، مئة، ثلاثمئة، أربعمئة شخصٍ قد لقوا مصرَعَهم في بحرنا. صدِّقني: إن الأمرَ محزنٌ جدًّا.

دائمًا أفكرُ في أنَّ أحفادَنا سيسألونَنا لماذا لم نفعلْ شيئًا، وهم على علمٍ بما حدث. مثلما حدثَ في ألمانيا مع الهولوكوست: الجميعُ كان يعرفُ ما يحدثُ في تلك الأعوامِ المروعةِ، ومع ذلك لم يفعلْ أيُّ شخصٍ شيئًا لإيقافِه.

الذاكرة. إذًا فالذاكرةُ لا تُؤدّي مُهمّتَها على نحوٍ مناسبٍ دائمًا. لنضعْ ذلكَ نُصْبَ أعيننا.

لذلك،كان بريمو ليفي يسأل نفسه في رائعته، بل أحدِ أعظمِ الروائعِ في التاريخ، (إذا كان هذا إنسان)، التي يَسْرُدُ فيها حكايته داخلَ أحدِ المعسكراتِ النازيةِ خلالَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ: “لماذا لا يمكنُ لذاكرةِ الشرِّ أن تغيرَ البشريةَ؟ ما نفعُ الذّاكرةِ إذًا؟”.

إذًا: الذاكرةُ.

قال نيتشه في “العلمِ المرح” إن “الحيواناتِ تعيشُ في حاضرٍ لا ينتهي، ليسَ لها ذاكرة، وذلك لأنها لا تفكرُ، لا تستطيعُ التفكير”، مضيفًا أنه شعر بالغيرةِ من الحيواناتِ لأن ذلك كان خلاصها، فالتفكيرُ يمكنُ أن يقودَ إلى الجنونِ.

إذًا: الذاكرةُ والتفكيرُ.

لكنَّ أفلاطون اعتادَ أن يقولَ: “التفكيرُ لا يتعدى أن يكونَ محادثةً صامتةً يجريها كلٌ مِنا في داخلِهِ“. وربما يساعدُنا هذا الآن على أن نفهمَ لماذا أصبحَ أفلاطون مخترعَ الحواراتِ، لقد كانتْ جميعُ كتبهِ الأولى تُسمّى “حوارات”.

لقد كانت هذه طريقَتَهُ في تدوينِ أفكارِ معلّمِهِ “سقراط” الذي كانَ رجلًا حكيمًا، وفي الحقيقةِ لم يكتبْ كلمةً واحدةً. ظلَّ يقولُ إنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي يعرفُهُ هو أنه لا يعرفُ شيئًا. وقد خالفه أَنْجَبُ تلاميذِهِ في الرأي. رأى أفلاطون أن الحقيقة يمكنُ العثورُ عليها، وأن طريقةَ العثورِ عليها كانت من خلال الحِوار. وهكذا اخترع المنطقَ، نظام التفكيرِ الذي قادَ إلى العلومِ وكلِّ ما نعرفُه اليوم.

إذًا: الذاكرةُ. التفكيرُ. الحوارُ.

يقولُ الإنجيلُ: “في البدءِ كان الكلمة“.

ووفقًا لما جاءَ في القرآن، كانت “اقرأ” أول ما تَنَزَّلَ من آياتِ أوحى بها سيدُ الملائكةِ “جبريل” إلى النبي “محمد” في غارِ حِراء.

لكن، مِثلما من الممكنِ أن نكونَ قد فهِمنا، فلا تُنطق الكلمةُ أو تُكتبُ إلَّا بواسطة شخصينِ على الأقل. أو حتى واحدٍ، أنفسِنا، لكن بصفتينِ، مثلما يقول أفلاطون: “التحدثُ بصمتٍ إلى قلوبنا”.

لذا، يمكننا القولُ إنه في البدايةِ كان هناك اثنان!

الحوارُ، مجددًا.

لكن إذا نظرنا عن قربْ، فسنجدُ أنفسَنا في دهشةٍ في بعض الأحيان: لسنا نحن من نقررُ بوعيٍ أن نحكيَ شيئًا نُعِدُّه مهمًّا جدًّا (حقيقةً ملحةً، سرًا مدهشًا، فضيحةً.. أمرًا شديدَ الأهميةِ بالنسبة إلينا) إلى شخصٍ نختارُهُ عن قصد.

يحدث الأمرُ بطريقةٍ عكسيةٍ، وفي الحقيقة فإننا كثيرًا ما نتفاجأ بالشخص الذي نحكي له سرًّا. يمكننا القولُ بأن الحقيقةَ تنكشفُ، وتنكشفُ عن طريقِ التشارك، وتقرِّرُ (الحقيقةُ، التي يمكننا اعتبارها أنثى، لأنها كانت إلهةً عند اليونانيين) مع من نشاركُها. فالحقيقةُ تفاجئُنا.

لذا، نعم، كان الربُّ محقًّا، كان الله محقًّا: في البدءِ كان الكلمة.

لكن الكلمة، التي دائمًا ما تتمُّ مشاركتَها في حوار، تخبرنا بمن نحب، مع من قرّرنا مشاركةَ حقيقتِنا، بمجتمعِنا. بكلماتٍ أخرى: تخبرنا مَن نحنُ.

إذًا: الذاكرةُ. التفكيرُ. الحوارُ. الحُبُّ.

إن زمنًا بلا حوار ليس فقط زمنَ الصمت وإنما زمنًا بلا حبٍ أيضًا. وفي الواقع، فإننا في حرب. لا يمرُّ يومٌ دونَ خبرٍ عن هجومٍ إرهابيٍّ أو، لمن هم أكثر انتباهًا بيننا، دون قصفٍ تشنه طائراتٌ غربيةٌ في دولةٍ شرقِ أوسطية.

يوجد شخصٌ واحدٌ فقط، أحدُ الأشخاص البارزين، من الواضحِ أنه يقولُ هذا اليوم: البابا فرنسيس. إذ يقول: نحنُ في حربٍ. وهذه الحربُ جديدةٌ، إذ إنَّ طرفي النزاع لم يعودا ببساطةٍ واحدًا ضدَّ الآخر، واحدًا في مواجهة الثاني.  إنهم الآن واحدٌ داخلَ الآخر، فالغريبُ هذا بداخلنا.

عندما ذهبت إلى مخيم إيدوميني، بين اليونان ومقدونيا، رأيت قطعة بُنية من الكرتون، بدلًا من كلماتٍ منطوقةٍ، كانت تحملها طفلةً صغيرةً جدًّا، وقد كُتب عليها: “من فضلكم افتحوا المعابر”. فقط. “من فضلِكم”. لم يكن أحدٌ يصرخ، فقط “من فضلكم” مكتوبةً على قطعةٍ من الكرتون. رقيقة جدًّا، لطيفةً. صامتة.

نظرتُ إلى عينيها، وقد أخبرتني عيناها بكلِّ شيءٍ لم تستطعْ قوله بالكلمات، لأنه من أجل أن تنطقَ بكلماتٍ فأنتَ في حاجةٍ إلى أن تثقَ وأن تحبَّ. بل أكثر من ذلك: تكونَ في حاجةٍ إلى أن تُحَبْ. إلَّا أن هذا زمنُ الصمتِ وغيابِ الحبِّ والفهمِ.

“ينمو فينا فقط من يحلمُ”، شطرٌ جميل جدًّا للشاعر الإيطالي “دانيلو دولتشي”.

ولهذا حققت روايتيَّ نجاحًا كبيرًا، لقد قمتُ بحلِّ اللغزِ في نِهاية الأمر: لقد أَعطيتُ الكلماتِ إلى صوتين كانا في حاجةٍ إلى أن يتحدثا وإلى أن نسمَعْهُما. على سبيل المثال: أعطيت الكلماتِ إلى فتاةٍ صوماليةٍ كانت تحلمُ بالعَدوِ، شاركت في أولمبياد بكين في عام ألفين وثمانية، ومن أجل أن تتأهلّ إلى أولمبياد ألفين واثني عشر، أضحتْ مُهاجرةً قضت نحبها في البحرِ المتوسط، دون أن تُسمعَ أو تَلقى انتباهًا من أحدٍ. قصةٌ صوماليةٌ، بلدٌ احتلته إيطاليا. نعم، إنها قصصٌ حقيقيةٌ. لكنني جعلتها أدبًا، قصصًا خيالية، أساطير، خرافات، ملحمات.

أدركت في النهاية أن ما فعلته كان المحاولة وممارسةَ الحوار. بالطريقة نفسها التي تعلم بها أفلاطون.

كتب بريمو ليفي متحدثًا عن الهولوكوست: “لماذا لا يمكن لذاكرةِ الشرِّ أن تغيرَ البشرية؟ ما نفع الذاكرة إذًا؟”، لكنه كتب أيضًا في الكتاب نفسه: “إذا كان الفهمُ مستحيلًا، فإن محاولةَ المعرفةِ ضروريةٌ. لأن ما حدث يمكنُ أن يعود، والوعيُ من الممكنِ أن يتمَّ إغواؤه وتعتيمُه“. واستطرد ليفي: “ووعيُنا أيضًا“.

وأرى أن الحفاظ على الذاكرة والحوار حَيَّيْنِ هو أحد مهامِ الأدبِ والجامعةِ أيضًا.

___________

نص الكلمة المعرّبة التي قدّمها الروائي جوزبه كاتوتسيلا في “ملتقى الحكايا والحكائين” في 18 مارس 2018، في الجامعة الأمريكية، بعنوان: القصص ونحن.
*المصدر: تكوين  

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *