الحكاية الهندية المتعددة الروايات عن العميان الذين سقطوا على الفيل هي بمثابة تعبير رمزي عن أن الحقيقة دائما هناك، أو أنها تولد في المنفى، كما يقول أحد الروائيين. فالعميان الأربعة الذين سقطوا على الفيل وصف كل واحد منهم العضو الذي ارتطم به من جسد الفيل، لهذا فكل واحد منهم يمتلك ربع الحقيقة، والحقيقة هي حاصل جمع أوصافهم المتباينة للفيل، لأن الذيل ليس الخرطوم ولا بد أن هناك أسبابا أخرى غير فيزيائية لجعل الفصول أربعة وكذلك الجهات، رغم أن هناك من يرون فصلا خامسا خارج التقاويم وجهة خامسة لا تعرفها البوصلة.
حين كتب لورنس داريل روايته الشهيرة «رباعية الإسكندرية» كان كمن يصف مدينة بشخوصها ودقائقها وليس فيلا من أربع زوايا، وعبر عن ذلك من داخل الرواية حين شاهد إحدى النساء وهي تقيس فستانا داخل غرفة متعددة المرايا، وكانت بالتحديد أربع مرايا، ليكتشف إنها أربع نساء باسم واحد وجسد واحد، لهذا كانت رواية رؤى مختلفة واحيانا مُتناقضة لحيوات الشخوص والدوافع التي تتحكم فيهم وفي سلوكهم وأنماط تفكيرهم. وعلى سبيل المثال فإن جوستين بطلة الرواية التي حمل الجزء الأول اسمها تعددت في الأجزاء الثلاثة اللاحقة، لأن الحقيقة متعددة، بدءا من الطبيعة وعناصرها حتى التاريخ، فالماء ينقذ الإنسان من الظمأ وكذلك النبات والحيوان من الموت والجفاف، لكنه إذا زاد عن حده يتحول إلى طوفان ويغرق الجميع، وكذلك النار التي قليلها ينتج الدفء وما يحتاج إليه البشر من الطهي، لكنها تحول كل ما حولها إلى رماد إذا زادت عن حدها، أما التاريخ فهو المجال الأرحب لتعدد الحقائق تبعا للرواة.
وما كتب عن سقوط امبراطوريات ودول كالرومان والعباسيين والأمويين تعدد تبعا لرؤى المؤرخين وقراءاتهم للوقائع، ما دام للمنتصر روايته وللمهزوم روايته أيضا، وإن كانت الغلبة دائما للمنتصر أو لصانع التاريخ، وهذا ما دفع محمد علي باشا إلى السخرية من أحد مستشاريه حين قدم إليه ترجمة لبعض الكتب، ومنها «الأمير» لميكافيللي، فقد قال له محمد علي، إنه ليس مُتفرغا لقراءة التاريخ بل لصناعته، ولو كان للحقيقة وجه واحد لفقد التاريخ جدليته، وأصبح أفقيا وداجنا في مجراه، وربما لهذا السبب قال أحد الفلاسفة علينا أن نكون مع أفلاطون ضد أرسطو، ومع أرسطو ضد أفلاطون كي يستمر التاريخ ويواصل العقل مهمته.
ولو قدّر للضحايا أن تكتب مذكراتها على طريقة «مذكرات دجاجة» لإسحق الحسيني لربما كانت رواية الحَمَل بالغة الاثارة عن الذئب، وكذلك رواية الفأر عن القط ، وسنابل القمح عن المنجل، لكن الضحية غالبا ما تكون خرساء أو مصابة بشلل يحول دون الدفاع عن نفسها في عالم يرتهن للقوة وفي عزلة وحشية يغيب عنها الشهود.
حتى الزمن الذي جرى تشطيره إلى تقاويم وأعوام وأيام وساعات، له حقيقة أخرى لا تعترف بكل هذا التشطير، لأنه يجري بإيقاعاته معزولا عن كل ذلك، لهذا كان لا بد من التفريق بين زمنين، كما يقول هانز ميرهوف، أحدهما فيزيائي والآخر ميتافيزيائي، فالأول مطلق ولا يحده شيء، أما الثاني فهو نسبيّ، لهذا قد تمر الساعة فيه كما لو أنها دقيقة، وقد تمط الدقيقة أرجلها، كما يقول خليل حاوي لتصبح دهرا، وذلك كله مرتبط باحساسنا النفسي بالزمن.
وتروي فرجينيا وولف وهي الشغوفة بتراجيديا الزمن، أنها في طفولتها شاهدت من نافذة القطار امرأة تنشر الغسيل على الشرفة، وبقيت المرأة إلى الأبد تنشر الغسيل، الذي ظل طريا ومبتلا في ذاكرة فرجينيا، رغم أن الحقيقة بمعناها الفيزيائي هي أن الغسيل جفّ واستخدم واهترأ لكن خارج ذاكرتها. ولم يقتصر الإلحاح على تعدد الحقيقة على الأدب والفلسفة والأسطورة، وله تجليات في السينما والفن التشكيلي ايضا، ففي الفيلم الياباني «راشومون» تروى جريمة قتل أربع مرات، لأن الذين شاهدوها أو ادعوا ذلك كانوا أربعة. وقد رسم فنان تشكيلي حزمة قش تعددت أكثر من عشر مرات تبعا لحركة الشمس على امتداد نهار واحد ، لهذا فالزعم باحتكار الحقيقة هو الجهل في أقصى ما يمكن بلوغه.
_______
*القدس العربي