الكتابةُ بِلهَبِ القيامة

*رشيد المومني

تتشكل خصوصية الكتابة الإبداعية في صلب الشروط الحضارية والمجتمعية المزامنة لها، حيث يعتبر سؤال الجدوى ـ ما الذي تستطيعه الكتابة؟ من أهم الأسئلة المؤثرة في هندسة ملامحها، إذ في ظل الوضعية الغامضة والملتبسة التي يعاني منها واقعنا العربي، ستظل نسبة غير قليلة من المسلمات النظرية في حاجة ماسة إلى المراجعة، وإعادة التفكيك والتركيب، كي تتأكد على ضوئهما القناعةُ بانعدام توصيف نهائي لطبيعة الإشكاليات والرهانات المعنية بالمساءلة في فضاءاتنا المعرفية، التي هي في عمومها رهانات مشوبة بنكهتها القيامية، بكل ما تفيده الكلمة من دلالات التردي المنذرِ بكافة ما يعتمل فيه من انتكاسات، على مختلف الأصعدة الاجتماعية والحضارية.
وعلى الرغم من كونها قناعة راسخة لدى الأوساط الثقافية المستنيرة، وفضلا عن كونها حاضرة بقوة في صفاء ونقاوة ما دأبت على زوبعته من سجالات، إلا أنها لا تلبث أن تفقد صلاحيتها، فور تجاوزها لإطارها النظري، وشروعها في ممارسة حضورها عمليا في قلب ما يكتنفها من ظواهر قضايا، كي تنحشر في نهاية المطاف ضمن سياق رؤية تعميمية، لا تعير أي اهتمام لمجموع تلك المؤشرات الكارثية، التي تطال البنيات البشرية والأنساق الفكرية، بفعل تعرضها المتتالي لمختلف أنماط السقوط المساهمة حاليا بشكل ملموس، في تقزيم هوياتها ومساراتها. ولعل مصدر الهوة السحيقة الفاصلة بين القناعة النظرية التي تعنينا في هذا السياق، وبين امتداداتها العملية في الحياة العامة، يكمن في استبداد سلطة الثوابت، بما يتم إصداره من أحكام جاهزة على أشياء العالم، ما يُحَوِّلُ القناعةَ ذاتها إلى مجرد مؤثث جمالي، ذي طبيعة بروتوكولية. وإذا كانت مفارقة إفراغ القناعات من مصداقيتها تنسحب على كثير من الخطابات والممارسات، التي نكرسُ بها صيغة حضورنا أو غيابنا في المشهد الاجتماعي والثقافي، فإن هذه المفارقة لا تلبث أن تتضاعف، حالما يتم إسقاطها على تلك العلاقة الملتبسة القائمة بين بؤس المعيش بمختلف تجلياته الصارخة والملموسة، وبين بديله، المنزاح جزئيا أو كليا باتجاه جماليات القول والإبداع، حيث تختلط الحدود، وتتراكم المفارقات بتأثير من الغموض الكبير الذي يتميز به النقيضان، سواء على مستوى التعريف، أو على مستوى الحوار والإضاءة المتبادلة بينهما. ومن المؤكد أن هذا الغموض يزداد تفاقما، كلما أصيبت الرؤية بحالة مزمنة من الفتور، ما يحول دون تلمسها لطريقها الذي لن تتمكن بدونه من تمثل الميكانيزمات المتحكمة ضمنيا في توجيه مسار هذه العلاقة، الشيء الذي يحول دون تجديد أفق الرؤية، أو تحصيل ما يجب تحصيله من الإشارات، مكشوفة كانت، أو مضمرة، معلومة أو مجهولة.
وكي تقترب أكثر من الإشكال الذي نحن بصدده، سيكون من الضروري استحضار تلك المسافة الفاصلة بين واقع عربي يعاني من مفارقاته الاجتماعية والسياسية، وبين الواقع ذاته الذي ينفلت على سبيل الوهم من قيد هذه المفارقات، كي يفرح مؤقتا بالإقامة في فردوس الكتابة، بعيدا عن الحقائق الجحيمية، المهيمنة بحضورها على الشاشات الإخبارية، حيث تتناسل المجازر في أوطان لا حاضر يؤازرها، ولا مستقبل يأمل في حضورها، وحيث الواقع، مصاب بكل إعاقاته الاجتماعية والحضارية، كما هو مصاب بقَيُّومِياتِ اجتياحاتٍ وإباداتٍ تُغيِّر جلدها تباعا، مع تركيز لئيم على الأهداف نفسها. ففي ظل هذه الشروط التي يتجاوز فيها الواقع حدود المحتمل والمتخيل، إلى أقاصي الفجيعة، يتم الفتك بالأجساد وبالأرواح وبالأفكار، بمشيئة القتل، وليس حتى بمشيئة قوانين النهايات الحتمية والطبيعية، التي يُفترضُ أن تخضع لها كافةُ مخلوقات الكون. إنه الواقع الذي تتداخل فيه نهايات الأقدارُ الحتمية والطبيعية، بإرادات آلهة جهنميةٍ تختزل رؤيتها للكون في اعتباره مجردَ أسواقٍ تجارية تابعة لها، وموضوعة رهن إشارتها من توظيف متقدم لتقنيات الهيمنة المدججة بحداثاتها الخبيرة بضبط ميكانيزمات تواصل ملغوم، ومموه بشعاراته البراقة، وأعرافه المؤسساتية، المعتمدة في ترْكِيع الشعوب، وهي الميكانيزمات ذاتها القابلة لأن توظف بوصفها خبرةَ إبادةٍ، في التخلص التام من كل هوية تتخذ شكل عائق، يؤثر سلبا على آلية تحكم القوى المركزية في مصائر الكون. هكذا وفي قلب هذا الواقع، تتكامل وحشية التجريف، كي تنهمك الجثث بدفن ما يتوافد على أنقاضها من جثث، وكي تتسع بذلك ممالك الاسم المجهول، القتلِ المجهول، والمدافنِ المجهولة، أو هكذا يُخَيَّلُ للشواهد المُعَلَّمَةِ بصيغة الجمع، وهي تحدِج ذلك الصمت المريب المتربصَ بالواقع كما بالكتابة، في أفق احتوائهما معا، ولفِّهما بحرير النسيان، حيث ما من واقع قابل لأن يكون دليلَ حضور كتابة، وما من كتابة تكون دليل حضور واقع، فالكل قابل للتوحد في عمق هاوية النسيان، بما في ذلك الأيدي المُلِحَّة على أن تظل محتفظة بتلويحتها الأخيرة، حيث لا تلبث هي أيضا أن تختفي وتزول، لكن وضدا على هذا الرُّهاب المستشري، كما النار في الهشيم، ثمة لا محالة صوت الحروف القادر على الارتفاع قليلا فوق أنقاض الخراب الكبير، كي يتحدث جهارا إلينا، ويحظى بإنصاتنا، أي أن يكون حيث نوجدُ أحياءً، أو أمواتاً، وألا يكف عن تكرار قوله، تكرار حضوره وغيابه، بتوازٍ مع تتالي الإنصات، وتتالي الحاجة إلى القول والفعل، كما لو أن الكتابة كوكبٌ آخر اقتُطِعتْ نصوصُه من جسد سماء مشفقة على أديم أراضيها، أو من جسد أرض لا لسان لها كي تبتهل إلى السماء، أو بتعبير أكثر إجحافا، كما لو أنها جنة غير الجنة ، أو جحيم هو الجحيم ذاته، محتفظة أبدا بنضارة اللحظة أو يبابها، مثل حنجرة ناطقة باسم أورام العالم، ضحاياه وجلاديه أيضا. إنها هنا من أجل تأبيد الإدانة، وتأبيد الخسارة، وتأبيد الجرح، منتقمة بذلك لِمن يحشرهم الواقع في قلب حفرته الباردة، لكن مع ذلك، يحدث أن تتحول الكتابة إلى محض غيمة عابرة، تمضي بما يتساكن فيها من ماء، من برق، ومن رعد، ومن حنان.في حالات أخرى، تكون الغيمةَ التي لا تلبث أن تستيقظ خلسة، كي تُلفي نفسها معزولة تماما، في قلب واقع يتهيأ لابتلاعها، حالما تراوده فكرة العطش.
أيضا ومع ذلك، في قلب الكتابة تماما، يتموضع السفور التام، الذي لا ينفع معه أي احتجاب، أي التشريحُ الشامل لظل القتل، والتسرب الحثيث والقاسي للثمالة الدموية في نُسْغ الدواخل، تجميعُ ما تفرق من هذا الهباء، كي يأخذ شكل كتلة لهب. ذلك ربما، الكثيرون الذين يرتعبون من رؤية ذواتهم داخلها، ويتهيبون من ملاقاتها، بعد رفع الحجاب، تلافيا لمعايشة ذلك الانشطار القاسي، داخل النص وخارجه، رؤية جسدٍ يطوف حول الكون، بحثا عن رأسه المدفونة تحت أديم نص، وبحثا عن إمكانية معايشة قيوميات، ليس لك سوى أن تكون بعضا من وقودها. في قلب النص تستطيع أن ترمم كل الجسور المهدمة من تلقاء نفسها، كي تعبر منها إلى كل الجهات الممنوعة، أن تحظى بالإقامة داخل ذلك الكهف، الذي انتهيت للتو من تشكيله في عمق المحيط، أن تنام هناك، وأنت حي ترزق دون أن تكون بحاجة إلى ماء أو هواء.
ثمة إشكال آخر، مفاده أن تنفتح على الآخر الواقف أمامك الآن من داخل بيت الكتابة، أن تعيد تشكيله وإنطاقه بما يشتهي الوقت أو لا يشتهي، داخل الكتابة يمكن أن تطوي الأزمنة والأمكنة، وأن تمعن في استنطاقهما وإنطاقهما، ومن فتح مداخل جديدة لتأزيم التضليل أو تهوية الفضاء، قصد تمكينه من الفرح والغبطة، كي تغري القيامة بالإعلان عن حضورها، في الواقع يمكن أن تكون، وبدون أن تتوقع ذلك، عرضة لنهش الضباع. تلك هي الكتابة، تسهر على تدبير الحيرة، وتدبير ما يعتلج في الجسد، ما هو قريب منه، وعالق به، ما يكون مصدر ارتطام، عثرة، ومصدر منع وإعاقة. أي ذاك القريب جدا، في استعصائه على اللمس. ثم إنها هي الكتابة التي لا تحتاج أبدا إلى أجنحة تُقِلُّها باتجاه السماوات السبع. إنها تحتاج فقط إلى التعرف على الأبعد بوصفه الوجه المقيم في الأقرب الذي توهمنا فقط منذ حين تملكنا له، تدجيننا له، وتبديد كل غرابة حافة بحضوره، لأنه وبدون أن نحدس بذلك هو الغرابة كلها. والقرب المضلل كله.
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *