*شادي لويس
“الكتاب المفضل لي على الأطلاق”، هكذا وصف بيل غيتس الكتاب الجديد، لعالم النفس واللغوي الأميركي، ستيفن بينكر. فبالتأكيد يقدم “التنوير الآن” الذي صدر مطلع الشهر الماضي، أسباب كثيرة لغيتس للاحتفاء به. فبينكر، أحد أشهر أعلام تيار “المتفائلون الجدد”، يستكمل ما بدأه في كتابه، “ملائكة طبيعتنا الأفضل: لماذا تراجع العنف؟” (2011) ليخبرنا بأن العالم اليوم أفضل من أي وقت مضى، وذلك بفضل العلم، وتطبيقاته، التي يقف غيتس من ورائها.
فإن كان بينكر في كتابه السابق، كان قد اكتفى بالتأكيد على أن العالم أصبح مكانا أكثر أماناً، ففي “التنوير الآن” يتوسع في معاييره، لتشمل الديمقراطية والصحة العامة ومتوسطات الدخول والبيئة، ليؤكد مرة أخرى على أن “التقدم” قد شمل كافة جوانب الحياة الإنسانية في القرنين الماضيين. ففي سياق دفاعه عن الفلسفة الإنسانية والتنوير والعلم، يتمسك بنكر بمعيار واحد لقياس التقدم، هو الإحصاء: “دعنا نعد”. فعلى العكس من كلا من اليسار واليمين السياسي، في اتفاقهما على نقد الوضع القائم بدوافع مختلفة، فإن “التنوير الآن” يدعونا للاحتفاء المطلق بما حققه التنوير ومنطقه العلمي إلى اليوم. فمعدلات وفيات الأطفال، والمجاعات، والأوبئة الشاملة، والفقر المدقع، تراجعت بمعدلات إعجازية في القرن الماضي فقط. في الوقت نفسه، فإن الديمقراطية، التي اقتصرت على عدد قليل من الدول الغربية قبل خمسين عاماً، تتبناها اليوم عشرات وعشرات من دول في قارات العالم الست، بينما تراجعت الصراعات المسلحة حول العالم منذ أفول خطر الحرب الباردة.
لكن وإن كان هناك ما يستدعى النقد أو التأفف، بالنسبة إلى بينكر، فهو تراث نيتشه، الذي يراه مسؤولا عن التبعات المدمرة لكل من النسبية الفلسفية والنازية معا. فالدوافع التشككية والنقدية تبدو له مسؤولة عن انطلاق كل القوى الوحشية للاعقلانية، والتي جسدتها كل من الفاشية والستالينية. لا يخفي بينكر، مع غيره من مريدي تيار “التنوير المتأخر” معاداتهم للنخبوية الثقافية. فمدارس نقد الحداثة على اختلافاتها، وتوجسها من إمكانات المعرفة العلمية، وطرق استخدامها، ومن افتقادها للحس الأخلاقي، ليست مجرد تشاؤم مغلف بادعاء المعرفة بل ناكرة للجميل أيضا. يستطيع العلم والمنطق العقلاني حل كل المشاكل مع الوقت، فبينكر الذي لا ينكر التأثير المدمر للثورة الصناعية على البيئية وتخريبها، يهون من أمر الاحتباس الحراري، فببساطة العلم سيحل هذه المشكلة يوما ما. وإن كانت الفوارق في الدخول بين الطبقات وبين مجتمعات الشمال والجنوب قد اتسعت إلى معدلات هي الأعلى في العصور الحديثة، وتتسارع تلك الفوارق عاماً بعد عام، فإن معدلات الدخول قد ارتفعت بشكل عام، في النهاية، وبخاصة بين الفئات الأكثر فقرا حول العالم.
إن ظواهر مثل صعود ترامب إلى الحكم، وتراجع الديمقراطية في العالم لصالح الشوفينية والسلطوية، والحرب السورية، وتفجر أزمة اللاجئين حول العالم، وعودة ظهور أمراض وبائية كانت قد اختفت في الأماكن الأكثر بؤسا في العالم، ليست سوى انتكاسات مرحلية، يتكفل بها المنطق العقلاني مع الوقت. فالتاريخ لا يتحرك في خط تصاعدي، لدى بنكر، بل قد وصل إلى نهايته بالفعل، بانتصار العقل. هكذا المستقبل ليس سوى تأكيد طويل على هذا الانتصار المتجدد دائما.
بلا شك تجد أفكار التنوير، ومنطق التقدم العقلاني، مكانا لها اليوم كما كان الأمر قبل عدة قرون. ففي حالة من اليأس والغضب، تهيمن على اليسار واليمين في العالم، يبدو الإيمان بدافع ميتافيزيقي يحرك التاريخ إلى الأمام، سببا للتمسك بالأمل. ومع تتداعي الروايات الكبرى، وانهيار وعودها بتغيير العالم، يبدو أن الإيمان بالأرقام والإحصاء، التي تتجاوز المآسي الفردية ومعاناة البشر الحقيقيين لصالح تهنئة أنفسنا على تقدم الرسوم البيانية الصاعدة، هو اليقين الوحيد الممكن. لكن وكغيره من اليقينيات، فإن بينكر يدعونا للتوقف عن الشك والشكوى، أو محاولة تغيير أي شيء. فكل ما علينا أن نفعل هو أن نتوقف عن الاستماع لكل تلك الحذلقات النخبوية عن الأخلاقية، ونضع كامل ثقتنا في العلماء في مختبراتهم، وكل شيء سيكون على ما يرام بعد هذا.