وتستمر آفة الثقافة العربية: شناعات في الترجمة العربية لكتاب “الفلسفة الأمريكية” لجيرار دولودال

محمد نعيم (*)

“الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده”

الحسن بن الهيثم

لا أحد يجادل في أهمية الدور الذي لعبته الترجمة في إغناء الحضارة العربية الإسلامية في بداية نشأتها؛ وقد حصل ذلك بالانفتاح على الحضارات الأخرى ونقل منتجاتها العلمية والفلسفية والأدبية إلى اللسان العربي. ولم يكن الأمر سهلا بل، ونظرا للوعي بجسامة الترجمة وإدراكا لأهميتها، تجند لها مترجمون يتقنون لسانيين على الأقل، السرياني والعربي، أو الفارسي والعربي، أو اليوناني والعربي، وأحيانا ثلاثة ألسن: سرياني، يوناني وعربي، كما هو الشأن مع حنين بن إسحاق الذي عاش في القرن التاسع الميلادي. وتروي المصادر التاريخية أن هذا الرجل الذي يعود له الفضل في ترجمة عدد كبير من النصوص العلمية من السريانية واليونانية إلى العربية، لم ينجز ما أنجز من ترجمات إلا بعد أن حصّل أسباب ذلك، إذ سافر إلى بلاد الروم وأتقن اللغة اليونانية حتى صار يحفظ ملحمة الإلياذة لهوميروس عن ظهر قلب؛ وبعد عودته انكب على دراسة اللغة العربية في مظانها إلى أن خبر قواعدها وتفنن في علومها.

وحديثا، أي في أواخر القرن التاسع عشر، تنبّه رواد النهضة العربية إلى أهمية الترجمة ودورها في الانبعاث الحضاري، فانكبوا على ترجمة نصوص الثقافة الأوربية بهمّة وجدية، خصوصا بعد أن أنشأ محمد علي باشا مدرسة الألسن سنة 1836م والتي أشرف عليها رفاعة رافع الطهطاوي. ومن علامات الجدية أن كٌلفت هيئة من شيوخ الأزهر لتسهر على ضبط ومراجعة ما تم تعريبه حتى يكون موافقا لمقتضيات اللسان العربي. وبعد ذلك، أي في مطلع القرن العشرين، تجنّد لعمل الترجمة مجموعة من الأساتذة الأفذاذ الواعين بقيمة الترجمة وبجسامة ما هم بصدد إنجازه، ومن هؤلاء نذكر سليمان البستاني الذي كان يتقن، إلى جانب اللغة العربية، مجموعة من اللغات الأجنبية، وهي: الإيطالية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية واليونانية، هذه الأخيرة التي ترجم منها ملحمة الإلياذة لهوميروس سنة 1904م. ونذكر إسماعيل مظهر الذي ترجم كتاب داروين أصل الأنواع، ومحمد السباعي الذي ترجم كتاب الأبطال لتوماس كارليل، وإبراهيم زكي خورشيد الذي ترجم دائرة المعارف الإسلامية البريطانية، وسامي الدروبي الذي ترجم جميع أعمال الروائي الروسي دوستويفسكي.

يتحسر المرء حين ينظر في بعض الترجمات التي تنجز اليوم، ويقارنها مع ما أنجزه السابقون. فالمفروض أن تكون ترجمات اليوم أكثر جودة من ترجمات الأمس نظرا لعدة اعتبارات منها التراكم الذي حصل في هذا الشأن، وظهور مؤسسات حاضنة، علاوة على سهولة التواصل بين الباحثين. لكن، مع كامل الأسف، لم يحصل هذا، لأن حقل الترجمة استولى عليه بعض المتطفلين سعيا وراء أغراض أخرى غير الهم المعرفي.

ولكي لا نعمم حكمنا، فإن هناك ترجمات بذل فيها أصحابها جهدا، فأبدعوا فيها إلى درجة تظن معها أن العمل المترجم قد كتب بلغة العرب، لكن يبقى هذا  قليلا في مقابل الكثير من النماذج التي تكشف عن العبثية التي تسود مجال الترجمات العربية. ولا يتعلق الأمر بركاكة الأسلوب أو قلق العبارة، بل الأمر يتعدى كل النقائص والهنات التي يمكن أن تجد لها المبررات وتلتمس لأصحابها الأعذار من كل شكل ولون، إلى ما يمكن وصفه بالعبثية وغياب الحد الأدنى من الجدية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مستوى البؤس والإسفاف اللذين بلغهما بعض المشتغلين بالترجمة، وبالفكر عموما، في ثقافتنا العربية.

لأدلل على هذا، سأقف عند كتاب أصدرته المنظمة العربية للترجمة، وعنوانه الفلسفة الأمريكية للمؤلف الفرنسي جيرار دولودال، ترجمة جورج كتورة وإلهام الشعراني، 2009.

لا أحد يماري في أن كتاب دولودال يحمل فائدة عظيمة للمهتمين بالمجال الفلسفي، إذ إن مؤلفه فيلسوف فرنسي من كبار المتخصصين في الفلسفة الأمريكية، فبالإضافة إلى كتابه هذا الشامل عن الفلسفة الأمريكي[1]، والذي نشره سنة 1983، أنجز كثيرا من الأعمال المتعلقة بأعلام وإشكالات الفلسفة الأمريكية، ونذكر منها:

تاريخ الفلسفة الأمريكية، 1954؛

بيداغوجيا جون ديوي، 1965؛

فكرة التجربة في فلسفة جون ديوي، 1967؛

البرجماتية، 1971؛

شارل سندرس بورس الفينومنولوجي والسيميوطيقي، 1987.

ومع الأسف، فالترجمة التي أٌنجزت لهذا الكتاب قد شوهت محتواه وجردته من كل قيمة معرفية، ليس فقط لركاكة الأسلوب، بل لما تضمنت من أخطاء في فهم بعض الكلمات وقلب للضمائر؛ كل هذا قد حرف الكلام عن مواضعه وعصف بالمعنى عصفا لو بلغ إلى مسامع مؤلفه لتقلب في قبره من هول ما حصل من تحريف لكتابه.

هل كان يخطر ببال المؤلف أن المترجمين سيترجمان عبارته التالية:

« Une sorte de physiologie de l’esprit », p. 137

ب: «نوع من علم نفس روح»، ص. 216، عوض: «نوع من فزيولوجيا العقل»؟

أو أنهما سيترجمان عبارته التالية عن وليام جيمس:

« Il entre à Harvard en 1872 comme instructeur de physiologie », p. 145

ب: «دخل إلى هارفرد (1872) كمدرب في علم النفس»، ص. 231، عوض: »التحق  سنة 1872 بهارفرد كمدرس لعلم وظائف الأعضاء»؟

وهل يجوز أن يترجم المترجمان عنوان مقالة شارل ساندرس بورس التالية:

« Un argument négligé en faveur de la réalité de Dieu  (A Neglected Argument for the Reality of God) », p. 141.

ب: «حجة مهملة مراعاة للحقيقة من الله»، ص. 223، عوض: «حجة مهملة عن حقيقة الإله»؟

وهل يصح عند كل ذي فهم سليم، بل لمن له أدنى معرفة باللسانين الفرنسي والعربي، أن تترجم العبارات التالية:

« Pas plus que Kierkegaard, Dieu ne se révèle, selon Peirce, à la raison de l’homme», p. 141

بطلسمات من قبيل: »ليس أكثر من أنه بالنسبة لكيركغارد لا ينكشف الله، حسب بورس، على عقل الإنسان»، ص. 223، عوض: «على غرار كيركغارد، يرى بورس أن الإله لا ينكشف لعقل الإنسان»؟

أو ترجمة:

 « Il ya des « sujets d’importance vitale » et Dieu est de ceux- là, dont la réalité est  « perçus directement » », p. 141.

ب: «ويوجد “أشخاص بأهمية حيوية”، والله هو من هؤلاء، حيث حقيقة الشيء “تدرك مباشرة”»، ص.223، عوض: «هناك “موضوعات ذات أهمية حيوية”، مما “تدرك حقيقته مباشرة”، ومن ضمنها موضوع الإله؟

أو ترجمة:

 « D’où viendrait une idée comme celle de Dieu, se demande Peirce, sinon de l’expérience directe ? », p. 141.

ب: «من هنا تأتي فكرة كما تلك من الله، يتساءل بيرس، وإلا من التجربة المباشرة؟”، ص. 223، عوض: «يتساءل بورس: من أين  تأتي فكرة كفكرة الإله إذا لم تأت من التجربة المباشرة؟»؟

وثالثة الأثافي هي حين يفهم المترجمان عكس ما أراده المؤلف، فلم يتبينا مثلا أن البادئة a التي تتقدم بعض الكلمات تدل على معنى النفي، مثل: religieux أو ديني التي تدخل عليها البادئةa ، فتصبح areligieux أي لاديني؛ وpolitique أو سياسي التي تدخل عليها نفس البادئة، فتصبح apolitique  أي لاسياسي. كما أنهما لم يفهما أن البادئةdé  تتقدم بعض الكلمات لتعطي معنى التضاد؛ وهكذا لم يدركا أن المقصود بكلمةdéségrégation  هو إلغاء التمييز العنصري وليس التمييز العنصري كما فهما المترجمان، وأن كلمة démobilisateur تعني غير المحفز أو المثبط وليس المسرح كما فهم المترجمان اللذان اكتفيا  بما وجدا في المنهل.

وفيما يلي شناعات أخرى في ترجمتهما لحديث المؤلف عن الحركة الفلسفية الأفريقية الأمريكية، والذي ورد فيه:

« Trois facteurs contribuèrent à la création du mouvement. )1( paradoxalement, la décision de déségrégation que prit la cour suprême en 1954 ont pour conséquence de couper le noir américain de sa propre communauté qui lui prodiguait à l’époque de ségrégation dans ses écoles, collèges et universités, une formation en continuité avec son environnement d’inspiration religieux presque toujours.) 2( L’intégration devient effective au moment où les fondateurs entraient dans une université intégrée qui dispensaient un enseignement philosophique dominé par un courant de pensée a-religieux , a-métaphysique, a-politique en un mot « démobilisateur » : l’analyse linguistique. )3( L’Afrique accédait à l’indépendance », p. 239.

فلنقارن هذا النص مع ما أنجزه المترجمان، إذ كتبا:

«عوامل ثلاثة ساهمت في خلق الحركة بشكل متناقض، كانت من نتائج القرار الذي اتخذته المحكمة العليا سنة 1954 فصل الأسود الأمريكي عن جماعته الخاصة التي كانت أسرفت في سبيل إعداده مع مرحلة التمييز العنصري في مدارسها ثانويات وجامعات، إعدادا متواصلا مع بيئته ذات الإيحاء الديني بشكل دائم تقريبا”. أصبح الاندماج فعليا في الوقت الذي كان في مؤسسو الحركة يدربون في جامعة منصهرة والتي كانت تقدم تعليما فلسفيا يسيطر عليه تيار من الفكر الديني الميتافيزيقي السياسي، وبكلمة واحدة “مسرحة”: الفلسفة التحليلية. وكانت إفريقيا قد وصلت إلى الاستقلال”، ص. 419، عوض: «ساهمت ثلاثة عوامل في إنشاء الحركة. (1) من المفارقات أن قرار إلغاء التمييز العنصري الذي اتخذته المحكمة العليا سنة 1954، قد أدى إلى قطع صلة الأسود الأمريكي بجماعته التي كانت، زمن التمييز العنصري، تقدم له، في مدارسها وفي معاهدها وجامعاتها، تكوينا له صلة بمحيطه الذي يكاد يحضر فيه الدين بشكل دائم. (2) أصبح الاندماج فعليا في الوقت الذي التحق فيه مؤسسو الحركة بجامعة مندمجة والتي كانت تقدم تعليما فلسفيا يهيمن عليه تيار فكري لا ديني ولا ميتافيزيقي ولا سياسي، باختصار  تيار غير محفز: إنه التحليل اللساني. (3) حصول إفريقيا على الاستقلال»!

ويقول دولودال:

« A Chicago, les Dewey participèrent à l’expérience entreprise par Jane Addams à Hull House où se réunissaient toutes sortes de gens, incroyants et croyants de toute dénomination », P. 172

أما في ترجمة المترجمين، فنقرأ: «شارك الديويين في شيكاغو في تجربة المؤسسة على يد جان أدمز وهول هاوس حيث كان يجتمع كل الناس، المؤمنين وغير المؤمنين من كل الألقاب»، ص. 276، عوض: «شارك أتباع ديوي في تجربة باشرتها جين أدمز في الهول هاوس Hull House، حيث كان يجتمع الناس من كل صنف، المؤمنون وغير المؤمنون من كل طائفة»!

هل من عبث أكثر من أن يفهم المترجمان Hull House وهي مركز للأعمال الاجتماعية على أنها اسم باحث ساهم في إجراء التجارب إلى جانب المفكرة والناشطة جين أدمز! وكيف غاب عن أذهانهما أن entreprise هي من فعل entreprendre وتعني في هذا المقام باشر أو أجرى وليس مؤسسة كما توهما؟ وكيف استقام لفهمهما أن  dénomination هي الألقاب وليست الطائفة؟

هذه فقط عينات من هذه الترجمة المسخ؛ وغير هذه العينات كثير، إذ لا توجد صفحة في هذا الكتاب إلا وتعج بمثل هذه الشناعات. ويلاحظ القارئ أن المترجمين لم يحسنا ترجمة بعض الكلمات التي لا يخطئ في ترجمتها حتى المبتدئ في تعلم اللغة الفرنسية. وتفسير هذا لا يخرج عن أحد الأمرين: إما أن الترجمة أنجزها بعض الطلبة المبتدئين وتبناها المترجمان، وإما أنها من إنجاز بعض برامج الحاسوب. وفي الحالين معا يدل الأمر على الاستهتار وعدم المسؤولية العلمية والأخلاقية.

(*) أستاذ الفلسفة بجامعة شعيب الدكالي- المغرب.

[1]– Deledalle, Gérard, la philosophie Américaine, L’âge d’Homme, Nouveaux Horizons, Suisse, 1983.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *