نزهة فلسفية في غابة الأدب (6)

 *ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

حوارية بين الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوح والفيلسوف بريان ماغي

العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة وثقى نشهدها في التضمينات الفلسفية في الكثير من المنتجات الأدبية لبعض أعاظم الكُتّاب ، ونعرف أنّ بعض الكتّاب كانوا أنفسهم فلاسفة محترفين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ غير أن طبيعة العلاقة وحدودها بين الأدب والفلسفة ظلّت حقلاً إشكالياً منذ العصر الإغريقي وحتى عصرنا هذا .

  يسرّني أن أقدّم في هذا القسم – وبضعة أقسام لاحقة – ترجمة للحوارية الرائعة عن طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة والتي عقدها الفيلسوف البريطاني الشهير ( بريان ماغي Bryan Magee ) مع الروائية – الفيلسوفة الراحلة ( آيريس مردوخ Iris Murdoch ) ، وقد سبق لي تناول جوانب من فكر هذه الفيلسوفة المميزة في حوار سابق منشور في المدى ؛ أما بالنسبة إلى  ( بريان ماغي )  فهو فيلسوف ، وسياسي ، وشاعر ، وكاتب ، ومقدّم برامج بريطاني ولِد عام 1930 ويُعرَف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامّة وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية ، وهو صاحب مؤلفات كثيرة في هذا الميدان .

   أذيعت هذه الحوارية على البرنامج الثقافي للتلفزيون البريطاني عام 1978 .

                                                              المترجمة

 

ماغي : ولكن كيف لنا أن نقارب حالة ديكنز في سياق مقايستك هذه ؟ يبدو ديكنز مؤمناً بأهداف إجتماعية سامية ( ضمن أهداف أخرى بلاشك ) مثلما يبدو أن له تأثيراً إجتماعياً عظيماً لايمكن نكرانه .

مردوخ : هذا صحيح . يستطيع ديكنز أن يفعل كل شيء في الوقت ذاته ؛ فهو يمتلك القدرة على أن يكون كاتباً تخييلياً عظيماً مثلما هو قادر أن يكون ناقداً إجتماعياً صريحاً وصارماً لاتفترّ همّته ولايناله منها الكلل ، وأظنُّ أن المثالب الفضائحية التي كانت سائدة في المجتمع أيام ديكنز تفاعلت دوماً واختمرت في عقله وشغلت على الدوام ذلك النمط من التغير الاجتماعي العميق الذي لطالما سعى له ديكنز بكل جهده . يتفرّد ديكنز بقدرته المميزة على إبتلاع وتمثّل أنماط مختلفة من التجارب والرؤى في خزين عبقريته الأدبية ، وقليلة للغاية هي تلك المواقف التي يشعر بها قارئ رواياته أنه يقرأ موقفاً إجتماعياً يبدو فيه ديكنز وكأنه يستجلب تجربة إجتماعية غريبة عن الحس الإنساني المشترك ؛ ولكن برغم ذلك يمكن للقاريء أن يلاحظ الكيفية التي أصابت بها رواية ديكنز الأكثر شيوعاً والأكثر تجريدية من سواها والمسمّاة  أزمنة شاقة Hard Times حظاً أقلّ من النجاح بالمقارنة مع سواها من رواياته الأكثر تضميناً للنقودات الإجتماعية المؤثرة والمشتملة على شخصيات روائية أكثر حيوية وملامسة للروح البشرية ( مثل شخصية الصبيّ جو Joe الذي يعمل كناّساً متجولاً في رواية منزل كئيب Bleak house ) . ديكنز كاتب عظيم بسبب قدرته الفائقة في خلق الشخصيات وكذلك بسبب رؤاه التخييلية العميقة والمرعبة التي ليس لها علاقة وطيدة بمفهوم الإصلاح الإجتماعي . إن المحاولة الكيفية القسرية والمبتسرة والمتسربلة بالقلق اللحوح لمحاولة الإمساك بالقارئ ودفعه للإقتناع بأمر ما يدفع العمل الإبداعي لمستوى مصطنع غير مرغوب فيه ، وقد يشعر القارئ بهذا الأمر أحياناً مع الكاتبة جورج إليوت التي لاتنجز أعمالها الروائية بالحرفنة والألمعية التي يحقّقها ديكنز في أعماله .

ماغي : في مثل هذه الحالات لايغدو العمل الفني غاية في ذاته وحسب بل يُرادُ له أن يكون وسيلة لغاية أخرى غير العمل الفني وإن كانت أقلّ شاناً منه .

مردوخ : نعم ، ومثلما قلتُ سابقاً أنا لاأعتقد بأن الفنان الحقيقي الذي لاغنى عنه تترتّب عليه واجبات محتّمة تجاه مجتمعه ( أو المجتمع الإنساني بعامة ) . أي مواطن في أي مجتمع له واجب محدّد تجاه مجتمعه بالطبع ؛ غير أن المواطن – الكاتب قد يشعر أحياناً بضرورة كتابة مقالات صحفية تُرضي تطلعات مواطني شعبه أو قد يدبّج أحياناً أخرى كتيباً أو منشوراً في موضوعة محددة ؛ لكن تبقى هذه الفعاليات مختلفة بصورة جوهرية عن فكرة أداء واجب ذي طبيعة ملزمة للكاتب . إن واجب الكاتب ينبغي أن يتوجّه بالتحديد نحو الفن الإبداعي ، ونحو  كشف الحقيقة باستخدام الوسائط المختلفة المتاحة والممكنة له ، ويمكن القول بصورة مختصرة وإجمالية أن واجب الكاتب هو خلق أفضل عمل أدبي يمكن إنجازه ، كما يُضافُ لواجب الكاتب الكيفية المثلى التي يمكن من خلالها وبواسطتها إنجاز خلقه الأدبي . قد يبدو هذا الكلام منطوياً نوعاً ما على تمييز مصطنع بين الفنان المبدع والمواطن غير الفنان ؛ لكنّي أظن الأمر مستحقاً لكي يُحكى عنه بالطريقة التي أوردتها . إن المسرحية الدعائية التي لاتهتمّ بأمر الفنّ تكون عنصراً تضليلياً على الأرجح بصرف النظر عن المبادئ الخيّرة التي ألهمت جذوتها ، وإذا كان الفنّ الرصين هو المبتغى الأساسي من هذه الاعمال فإنّ شكلاً من أشكال العدالة ينبغي أن يبقى هدفاً جوهرياً في الوقت ذاته . إنّ أيّ مذهبٍ إجتماعيّ يُطرَحُ من خلال صياغة فنّية سيكون أكثر وضوحاً في أهدافه حتى لو كان حائزاً على أقلّ القليل من القدرة على الإقناع في الأصل ، وفي مستطاع أيّ فنّان أن يقدّم خدمة جُلّى لمجتمعه – ولو بكيفية عارضة – من خلال الغمز والإيحاء بأشياء لم يلحظها الناس من قبلُ ولم يفهموها بشكل مقبول . إنّ الخيال لأمرٌ عظيم القدرة على بثّ الإيحاءات ؛ ومن ثمّ فهو قادرٌ على إجتراح التأويلات المفسّرة ، وهذا بالضبط جزءٌ ممّا يعنيه قولنا بأنّ الفنّ محاكاة . ثمّة ماكنة ترويجية إعلامية في كلّ مجتمع من المجتمعات ؛ لكنّ الأمر الأكثر أهمية على الدوام هو أن نمايز بين الأهداف الترويجية وبين الجوهر الفنّي ، وأن نُبقي على  إستقلالية الممارسة الفنية وطهرانيتها . ثمّة في المجتمع الخيّر أصناف كثيرة من فنّانين يسعون لإنجاز أعمال كثيرة متباينة الأهداف ؛ أما المجتمع السيئ فهو يناصبُ فنّانيه الكراهية والعداوة لأنّه يعلم أنّ في قدرة هؤلاء إماطة اللثام عن كلّ أشكال الحقائق .

ماغي :  حصل أن تناولنا في البدء موضوعة التمييز بين الفلسفة والأدب ، ثمّ عرّجنا على بعض الأفكار الفلسفية بشأن الأدب . دعينا الآن نتناولْ موضوعة الفلسفة في الأدب ، وأنا أعني بذلك كثرةً من التساؤلات بشأن قضايا محدّدة . لنتناول الرواية كأحد الأمثلة في هذه الموضوعة : ثمّة ، بادئ الأمر ، بعض الفلاسفة والمفكّرين الضاربين في الشهرة وعلوّ الشأن مثل فولتير ، روسو ، جان بول سارتر ،،، ممّن عُرِف عنهم صنعتهم الروائية المُجيدة ، وفي المقابل ثمّة روائيون ملك التأثّر بالأفكار الفلسفية عقولهم وأرواحهم على نحوٍ واضح . تولستوي ، على سبيل المثال فحسب ، يضمّ لخاتمة روايته الشهيرة ( الحرب والسلام ) ملحقاً يصرّح فيه أنّه حاول في روايته تلك التعبير عن فلسفة محدّدة في التأريخ ، وكثيراً ماطرق أسماعنا ذلك الوصف الذي يخلع على دوستويفسكي خصيصة كونه أعظم كاتب بين الكتّاب الوجوديين وبخاصة بين مناصري هذا المذهب الفلسفي ، ونرى أيضاً بروست في روايته ( البحث عن الزمن الضائع ) مسكوناً بقضايا إشكالية تختصّ بطبيعة الزمن وهي – كما نعلم – أحدى الموضوعات الأثيرة التي تشغل الفلاسفة منذ عهود بعيدة . هل نجد لديكِ ملاحظاتٍ محدّدة بشأن الدور الذي يمكن أن تنهض به الفلسفة في الأدب ؟

مردوخ : لستُ أرى في العموم أيّ دور للفلسفة في الأدب ، ولستُ من المُنافحين عن هذا الدور وإعلاء شأنه بأيّ شكل من الأشكال . يستطيب الناس الحديث عن أشياء من قبيل فلسفة تولستوي ؛ غير أنّ هذا محض حديث عابث يصحّ إدراجه في خانة سخف الكلام . برناردشو مثالٌ مخيف للكاتب الذي يتلبّسه وهمٌ مضلّل بأنّ لديه فلسفة راسخة الأركان ، ومن محاسن المصادفات الطيبة أنّ أفكاره الواهمة تلك لم تأتِ بأضرار عظمى لأعماله المسرحية . حينما يقول تي. إس. إليوت أن ليس من مهمّات الشاعر أن يفكّر وأن ليس في مستطاع دانتي ولا شكسبير أن يجترحا التفكير فأنا أفهم مايقول تماماً على الرغم من أنني كنت سأعبّر عن الأمر بطريقة أخرى لو تطلّب الأمر منّي التعبير عنه بوضوح . من المؤكّد أن يتفاعل الكّتّاب مع الآراء السائدة في عصورهم ، وقد يبلغ الأمر مبلغ رغبتهم في إحداث إنعطافات فلسفية مؤثرة ؛ لكنّ قدر الإرتقاء الفلسفيّ الذي قد يظفرون بتحقيقه – هذا لو ظفروا حقاً – غالباً مايكون ضئيلاً متصاغراً بالمقارنة مع الفلاسفة المتمرّسين . أعتقد أنّ الفلسفة متى ماأقحِمت في الأدب فإنّها تستحيل دمية يلهو بها الكاتب ويحرفها عن مآلاتها المرجوّة لها ، ويبدو حقاً طبيعياً للكاتب أن يوظّف الفلسفة فيما يكتب ؛ فليس ثمة كمالٌ في الأفكار والبراهين الفلسفية دوماً ، وقواعد عرض الأفكار – كما نعرف – تختلف مثلما تختلف الوسائل المؤدية لفهم الحقائق السائدة . أبتغي القول بالإجمال عندما يُنظَرُ إلى رواية الأفكار Novel of Ideas بكونها فنّاً ذا محمولات رديئة فيتوجّب حينئذ أن نبحث عن وسيلة أفضل وأقدر للتعبير عن تلك الرواية ، أمّا إذا أثبتت كونها فنّاً طيباً رصيناً فإنّ الأفكار التي تحكي عنها إمّا أن تكون قد نالت حصّة عظيمة من التأويل والتحوير أو أنّها صيغت لتبدو محض تأمّلات مجتزأة رُصِفت من أجل تدعيم بقية العمل الفني ( بالكيفية التي حصلت في أعمال تولستوي ) . إستمرأ الروائيون العِظام في  القرن التاسع عشر تمرير الكثير من الملاعبات الفلسفية بالأفكار في أعمالهم الروائية ؛ لكنّ أعمالهم تلك ليست فلسفة خالصة أو حتى في باب الإشتغالات الفلسفية الحِرفية ، ومن الطبيعيّ ألّا تكون أعمال الفنّانين باعتبارهم نقّاداً ومبشّرين بفنّهم متخمة بالثراء الفلسفي ؛ لكنها تبقى في كلّ الأحوال أكثر بعثاً للإثارة من الأعمال الفلسفية الأساسية ذاتها : كتاب تولستوي ، مثلاً ، الذي جاء بعنوان ( ماالفنّ ؟ ) ممتلئ بالأفكار الغريبة ، وهو ينحو للتعبير عن فكرة مركزية واحدة وهي كون الفنّ ديناً ، وأنّه يمثّل تجسيداً لأعمق المفاهيم الدينية للعصر ، ثمّ ينتهي الكتاب للتصريح القاطع بأنّ أفضل الأدب وأجلّه إنّما يقدّم تأويلاً تفسيرياً لمفهوم الدين في كلّ عصر . أراني من جانبي أتعاطف كثيراً مع هذه الرؤية على الرغم من انها ليست مطروحة بطريقة فلسفية رصينة .

____________
*المدى

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *