قد لا يبدو فيلم دَنْكيرك Dunkirk الذي كتبه وأخرجه كريستوفر نولان، قريبا من حياتنا العربية اليوم، ومعبرًا عنها، ولكن تأمّله بقليل من الهدوء، قد يجعل الكثير منا يصلون إلى نتيجة مفادها أنه يمثل صورة لا ينقصها الوضوح لعالمنا العربي! ومن المحزن ما أصاب الفيلم من خروج غير منصف من حفل جوائز الأوسكار، بلا جوائز كبيرة، رغم أنه واحد من أفضل أفلام العام الماضي، ولمخرج من أفضل مخرجي السينما الأمريكية اليوم وأكثرهم قدرة على إدهاش المُشاهد بصريا، ومن خلال تجدد الموضوعات التي يطرحها في كل مرة، كما أنه واحد من الأفلام القليلة التي قدّمت سردًا سينمائيا مغايرا في جرأته وفي عمقه.
يفقد تومي بندقيته في الدقائق الأولى لحصار 400 ألف من الجنود البريطانيين وجنود الحلفاء، في مدينة دَنْكريك الفرنسية عام 1940، ولكن تومي لا يسعى لاستعادة بندقيته أو استبدالها ببندقية أخرى طوال الفيلم، في وقت لم يزل فيه مئات الآلاف من الجنود المحاصرين متشبثين ببنادقهم، التي لم يعد لها أي جدوى، بسبب التفاوت المرعب بين قوة نيران المحاصِرين وهُزال نيران المحاصَرين، ولأنهم عرضة لرماية كثيفة من السماء والأرض، لا نرى مصادرها، كما لا يرونها هم، في زمن يبدو الإنسان فيه غير قادر على الدفاع عن نفسه أبدًا، أو تحديد الجهة التي يكمن فيها عدوّه.
في هذه الحرب لا نرى غير ضحايا، كما أننا لا نرى العدوّ (الألماني) كيف يعمل، كيف يحاصِر وكيف يقصف، نرى قادة الحلفاء في منتهى تأنقهم، يحسبون بدقة حجم الخسارة، وأثرها على القيادة السياسية في لندن، ويتداولون أرقام القتلى المحتملين.
براءة الجنود، الذين هم في ريعان شبابهم، تحرق القلب، بسبب يأسهم، وقلة حيلتهم، وهم ينتظرون سفنا تحملهم، في وقت توزِّع فيه القيادة السفنَ الكبيرة، المدمّرات، على مواقع عسكرية أخرى بعيدة، لها الأولوية، من منظور الأهمية الاستراتيجية.
الأعداد الهائلة، المتراصّة، على الشاطئ أو على رصيف الميناء الخشبي الضيق الذاهب عميقا في البحر، لا يوحي إلا بشيء واحد: إنهم ينتظرون في طابور طويل، ينتهي بساحة إعدام كبرى، لا بسطح سفينة يعِدُ بالنجاة.
كل السفن التي يركبونها تُدمّر بيسر، وتجنح نحو أعماق البحر، ولذا لا توجد في الفيلم أي حكايات بطولة، فالمجاميع الكبيرة مجرّدة من قوتها، ومجردة من تاريخها الشخصي، لأننا لا نعرف أيّ شيء عن الجنود، إنهم أرقام، ويتمّ التعامل معهم كرقم كبير. لكن من قال إن محو هذه الأرقام لا يحمل في طياته مأساة لا تقل عمقًا وتراجيدية عن المآسي الأخرى التي نتورط فيها مع شخصيات بعينها، كما فعل تيرنس مالك في فيلمه الكبير (خيط أحمر رفيع) أو فعل ميل جيبسون في فيلمه الرائع (هاكسو ريدج) قبل عامين.
ومع قلة الحيلة، وانعدام القوة، يبدو صمت أبطال الفيلم ومن حولهم، جزءًا من جنازة هائلة لجثث لا حصر لها، لن تتسع لها المقابر ولن يتمكّن الحفّارون من تجهيز قبور كافية لها، حيث يختفي الفرق بين المشيِّع وبين المشيَّع، لأن الأحياء ليسوا أكثر من جثث تنتظر دورها لتموت، وقد تتجرأ، كما تجرأ ذلك الشاب الذي أتى بمركب مدني للمعاونة في إنقاذهم، وهو يحلم أن يذكر بطولته أحد ما، حتى لو كان ذلك في مجلة حائط مدرسته.
ما يفعله نولان هنا، أنه يدوِّن أسماء الضحايا، في أكبر حصار عسكري، لكن كل ما يستطيعه هو أن يبعث الحكاية كلها، حكايتهم كلهم، بعد أن ضاعت أسماؤهم، وهو يعيد رسم صورهم من جديد على حائط فيلمه الحزين، مستعينا بموسيقى هائلة، قوية، للموسيقي هانس زيمّر.
حين لا يستعيد تومي بندقيته، ولا يفكر في ارتداء خوذة واقية، فإنه يعرف جيدًا أن هاتين الوسيلتين لا يمكن أن تضمنا نجاته، ولذا يعمل بما تبقى له من قوة، مع أصدقائه إلى التسلل إلى سفينة، أو مركب، فقد يصلون.
في البر والبحر والجو، ثمة موت كثيف، ولا شيء غير الموت، ورجال يصل من تبقى منهم على قيد الحياة إلى بر الأمان، غارقين في حسّهم بالعار، مخبئين أوجههم حين يصلون إلى اليابسة. لكن حوارا بسيطا مكوّنا من جملتين، يلخّص ملحمة تشبثهم بالحياة:
يمد أحد مستقبليهم يده ليسقيهم، فيقول الجندي: ولكننا لم نفعل شيئا لنستحق هذا الاستقبال! فيردّ الرجل: ولكنكم نجوتم!
وهكذا الأمر معنا، في كثير من أوطاننا العربية اليوم، المحاصَرة من داخلها وخارجها، لا نملك القدرة على أن نقول إننا قادرون على الدفاع عن أنفسنا. إننا نموت بقرارات وحصارات وننجو مصادفة إذا ما استطعنا بلوغ أي برّ أمان، سواء ركبنا البحر، أو البر، أو الجو، أو بقينا متشبثين بأماكننا، في زمن لا تلوح فيه أشرعة سفن النجاة. وإذا نجونا، لا نستطيع أن نفرح بنجاتنا الناقصة، جريحة الروح.
وبعد:
صعــدنا.. إلى منبرِ الكلماتِ
نـزلنــا.. إلى ساحةٍ من رصاصٍ
هتفنـــا.. إلى أن تشقَّقتِ الـرّوحُ
بُحَّ دَمٌ، بُحَّ حُلْمٌ وصوتْ
ختمنا معاركَنا ورجعنا
وإذ قاتلونا.. هنالكَ في البيتْ!!
_______
*القدس العربي