حنا مينه والوصية المغدورة

خاص- ثقافات

* الحبيب الدائم ربي

متن وحاشية

       بقدرما  تمتلك النصوص الأدبية بنياتها الدالة –على ذاتها بذاتها- حيث من المفترض أن  يثوي معناها المحايث،  أو بواسطتها يُبني عبر سيروات التلقي المختلفة، فإن للامتدادات النصية، فضلا عن  الأسيقة الشارطة،  دورا مركزيا في إنتاج هذا المعنى وفتحه على آفاق تأويليه شاسعة. ولعل التقديمات والحواشي والتذييلات والمخطوطات والرسائل الشخصية والوصايا وهلم مناصات، من بين أهم المفاتيح التي من شأنها أن تساعد لا على فهم أعمق  لبعض النصوص، وإنما لكشف معميات  مدونة كاملة لكاتب  مخصوص، بل لتفسير  إبدال إبداعي بحاله، خاصة وأن بعض المؤشرات التي تسعف بها هذه النصوص الموازية قد تعيد ترتيب بداهات، ما لم نقل تربكها،إلى حد يصبح معه، أحيانا، ما ليس له معنى أكثر معنى مما له معنى ، حسب تعبير رولان بارت. لكن علينا أن  نحتاط من الوقوع في فخاخ المعاني، واصطياد زوائفها، لأن المصرح به في المتون وهوامشها ينبغي أن يؤخذ بقدر من الحيطة و الحذر، فهو مهما شفَّ قد يخفي أكثر مما يبين، والكشف والحجب وإن كانا فاعليتين مرتبطتين  بمقصديات الكاتب وتوسلاته في الكتابة،إلا أنهما قد تخرجان عن طوعه.  سيما وأن الوظيفة المرجعية للغة في الأدب، على أهميتها، تبقى مجرد بُعد من بين أبعاد متعددة لابد من أخذها بعين الاعتبار إذا ما نحن أردنا التحلي بقسط من النزاهة والمصداقية. و ممكنات التعبير مهما رحبت فإنها قد تضيق،وليس بالوسع تفادي الغموض والإبهام .فكما أن المتون الأدبية- بما فيها المناصات- ليست بمنأى  عن اللانسجام، فإن قارئها ( وهوامشها) منذور لخرق مبدأ عدم التناقض الأرسطي  بقبوله الشيء ونقيضه كآلية من آليات التأويل، على غرار ما يمكن أن نطلق عليه”منطق التضاد” الذي يجد مسوغاته في أنساق معرفية كثيرة( المشترك اللفظي  والتورية في علم البلاغة أو الظاهر والباطن في هرمينوتيكا المذاهب السكولائية ، مبدأ التقية في المذهب الشيعي، إلخ…) .

      ولأن الوصية، أية وصية، متن إشكالي، فإن مقاربتها تستدعي، في ما تستدعيه، استحضار ما ذكرناه أعلاه وسواه،ومع ذلك فإن العياصة  قد تتضاعف حين التعامل مع”وصية أدبية”، مقدودة من لغة حمّالة أوجه. نقول هذا ونحن نفكر في الوصية  التي كتبها الروائي حنا مينه  بتاريخ 17 غشت(آب) 2008، ونشرتها أغلب الصحف الرسمية السورية في اليوم الموالي. وهي وصية، على قصرها، تبقى مهمة لمن يريد تعميق النظر في رؤية هذا الكاتب إلى العالم وفي تمثله للحياة والموت.فصاحبها يبغي وضع “اللسمات الأدبية”الأخيرة على حياة – بنظره طالت أكثر من اللازم- مليئة بالعطاء والقسوة والمعاناة.

      تقع الوصية- والتجنيس لحنا مينه- في صفحتين متوسطتي الحجم، مخطوطة بقلم الحبر، بخط مشرقي أنيق، ومن دون تشطيبات، عدا كلمة في السطر الحادي عشر، تظهر كما لو كانت مستدرَكة أو أضيفت في الأخير. والوصية مؤرخة وموقعة بتوقيع مفتوح وآخر مغلق.

     تبدو الوصية، بالنظر إلى مكانة صاحبها الاعتبارية  في الساحة الإبداعية، متواضعة شكلا ومحتوى. فلغتها مباشرة وأسلوبها أقرب إلى التقريرية. وطبيعي أن  تكون كذلك مادامت موجهة لشريحة واسعة نسبيا من قراء الجرائد، أو هكذا يفترض فيها. وككل الوصايا فإن “الموصِي”يعرّف،في البداية، باسمه ونسبه من جهة الأب والأم (حنا بن سليم حنا مينه والدته بريانا ميخائيل زكور)، ومسقط رأسه وتاريخ ميلاده(اللاذقية سنة 1924)، ويشهد على نفسه بكونه يقدم تصريحه وهو في “كامل قواه العقلية”(وهذا شرط من شروط الوصية القانونية فضلا عن توفر الإرادة الحرة). أما أسباب  النزول/الورود فتتلخص في قول المعني بالأمر”أكتبُ وصيتي …وقد عمّرتُ طويلا حتى صرت أخشي ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا”، ويضيف،  في حوار معه، “لدي رغبة وحيدة هي أن أموت أو أجد من يقتلني، وأنا مستعد لدفع نصف مليون ليرة سورية مكافأة لمن يقتلني”. علما بأن حنا مينه كان قد بلغ من العمر، وهو يحبّر وصيته، الرابعة والثمانين. وهذا يذكرنا بإحساس مماثل، بحراجة السنين ووطئها، صاغه الشاعر زهير بن أبي سلمي في بيته الشهير:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش                         ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

         إن وصية حنا مينه تنطلق من كونه”سعيدا” ! رغم أنه منذ أن”أبصرت عيناه النور وهو منذور للشقاء”. ومبعث “السعادة”؟- ربما- يكمن في كون صاحب “المصابيح الزرق” حارب الشقاء وانتصر عليه، ليكون، من قبل ومن بعد، من الحامدين الشاكرين.

فحوى الوصية:

       يوصي حنا مينه بما يلي:

  • ألا يُذاع خبر وفاته في أية وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية(هذه الوسيلة الأخيرة(المرئية) تمت إضافتها في المتن، مع ما في هذه الإضافة من دلالة على كون حنا مينه وكثيرا من مجايليه هم أصلا من رواد الثقافة الورقية والإذاعية. فيما باتت ترهقهم الوثبات المتسارعة للوسائط الضوئية الجديدة). مسوغ ذلك أنه كان قيد حياته “شخصا بسيطا”،و”بلا أهل” و”أهله جميعا” يجهلون قدره. من ثم لاداعي لتذكيرهم، بعد الممات، بمكانته، تلافيا لحسرة متأخرة وندم عن تقصير في حق شخص عظيم. لقد كرس حنا مينه- كما يُفصّل في كلامه وكما هو فعلا- حياته للكتابة و”نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض”. ولعل الكتابة عارضٌ في حياة حنا (بدأ الكتابة في سن الأربعين)، غير أنه عارضٌ دعَمَ المسيرة الشاقة لرجل اعتمد في “نجاحه” على الساعد لا على الحظ”.

  • أن يُحمَل على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، في جنازة بسيطة.

  • ألا يقام له سرادق عزاء، ولاحفلة تأبين، وألا يبكيه أحد أو يبدي عليه مظاهر حزن في الحديث أو المسلك أوالملبس.

  • كل ممتلكاته في دمشق واللاذقية حلال على من يدّعون أنهم أهل الفقيد(الحي)، ولهم الحرية في توزيعها على أولئك الذين تربطه بهم قرابة النسب والانتماء إلى الطبقات الدنيا من المجتمع.

  • لزوجة الموصي مريم دميان سمعان أن تتصرف في كل إرثه، ومنزلـُه في اللاذقية، بكل مافيه، مطوّب باسمها ولايباع إلا بوفاتها(من سخريات القدر أنها ستموت قبل وفاة زوجها).

                 هي، إذن، مطالب واضحة وجد بسيطة، لكنها في الآن ذاته، ولفرط بساطتها، غير قابلة للتنفيذ، تتخللها اعتذارات لـ”للجميع: أقرباء، أصدقاء،رفاق، قراء…” بحيث “لاعُتب ولاعتاب إلا للضرورة”.

إن قراءة سريعة لمنطوق بنود هذه الوصية تجعلنا نسجل الملحوظات التالية:

  • يبدو حنا مينه مرتاحا لما حققه في حياته من مكانة أدبية.

  • لم تعد الحياة تغريه في شيء وصار يطلب الموت بإلحاح(رغم أنه يدرك أن لكل أجل كتابا).

  • اكتفى في وصيته  بالعموميات ولم يتطرق إلى قضايا أو وقائع ملموسة.

  • لم يتعرض لحياته ماقبل الأربعين،وهي حياة ملأى بالشقاء والبؤس والمغامرات.

  • لم يخض في قضايا كبرى(السياسة، التاريخ، الحياة، الموت، الأدب…)

  • لم تتضمن الوثيقة ذكرا للأبناء(له ولدان هما: سليم الذي توفي في الخمسينيات، وسعد وهو ممثل، وثلاث بنات هن : سلوى (طبيبة) وسوسن(مخدِّرة)، وأمل..).

      فهل يباح لنا الحكم ، والحال هذه،  بأننا أمام نص عادي لايقدم أي جديد يذكر إن على المستوى الأدبي أو الاجتماعي؟ وما المغزى من نشر نص كهذا وتعميمه في الصحف والمجلات ما لم يكن له ما بعده؟ خاصة وأن كاتبه يزن الكلمات بميزان الذهب.

لازم المعنى في الوصية

       إذا ما نحن أنعمنا النظر ثانية في نص الوصية سنقف فيها على كثير من الغموض والتناقض (المقصود وغير المقصود)، وبين هذا وذاك يورق المعنى. ولئن كانت الذات الكاتبة هنا تحيل، يقينا، إلى الكاتب حنا مينه نفسه، فإن متلقيها الفعلي والضمني هو القارئ بالإفراد والجمع” إلى قرائي الأعزاء!”، والحق أن هذه الصيغة على وضوحها المضللِ تبقى ملغزة، مادامت الأنا الكاتبة مجرد محفل سيميائي قد يفيد الكاتبَ بأبعاده الضمنية والواقعية،وما دام المقصود بهؤلاء القراء- الذين تشملهم ياء النسبة-  غير دقيق. أهُمْ قراء الأعمال الكاملة لمينه أم قراء بعضها ؟ أهم قراء بإطلاق المعنى أم بحصره؟أم هم قراء الوصية وحسب؟ هذا عدا كون علامة التعجب الملحقة عضويا، ومن غير لزوم ظاهري، بالمنعوتينَ والنعت تجعل الصيغة مشدودة إلى معنيين على الأقل، من خلال ابتغاء المعنى الاعتيادي المباشر أو إرادة ما ينفيه. وسيتعقد الوضع أكثر لو استحضرنا معنى أن يكون القارئ عزيزا(؟)، أي محبوبا ونادرا في آن.

ألا تبدو الوصية، بمحتواها الذي بسطناه سلفا، وكأنها تضل طريقها خطأ إلى شريحة لادخل لها في الموضوع(إعلان الوفاة،الجنازة، الإرث…)؟ أما كان لها أن توجه مباشرة إلى الزوجة والأبناء؟

        والحياة؟، التي وصفها الشاعر التركي ناظم حكمة بأنها جميلة، لماذا أظلمت في عيني حنا مينه؟ أليس ذلك بفعل الجحود وغياب ثقافة الاعتراف في مجتمعنا العربي إزاء كتابه ومبدعيه؟ سيكون من الوهم الاقتناع بـ”سعادة” يزعمها حنا مينه لنفسه في واقع نكّار للجميل. واقع لا يتسنم فيه المتفوقون سلالم المجد إلا بكد السواعد وعرق الجبين. وهو مجد لا يتأتى في  مجتمع الحاقدين إلا بعد الوفاة، وفقا لعبارة أرنستو ساباتو.

      يعدد صاحب الوصية أهله(أقرباء، أصدقاء، رفاق،قراء…)، فما أكثرهم! لكنه ما يفتأ يقول”ليس لي أهل”. ماداموا جميعا لم يعرفوا قدره وهو يعيش بينهم. وفي نفي الإثبات ما يشي بحسرة كبيرة.ففي وضع شاذ كهذا ماجدوى بث خبر الوفاة في وسائط الاتصال، وتشييع الراحل بدموع وكلمات منافقة وإظهار حزن مفتعل؟

    وفي توزيع التركة يبيح الوصي لــ”من يدعون أهله”طلب أنصبتهم مما خلّف من متاع “الدنيا الفانية”، ويخص الزوجة ببيت اللاذقية ومشمولاته(لا يباع ولا يشترى مادامت حية).فباستثناء الزوجة (العزيزة) يظهر الآخرون كأدعياء مقحمين في المشهد. ولا بد أن نشير،هنا، إلى غياب ذكر المخلفات الرمزية من كتب وممتلكات ثمينة، مع إعادة تسجيل غياب أي ذكر للأبناء! فما السر في هذا التغييب؟ إنها حقا وصية مبقعة بالثقوب والأسى.

ظلال المعنى

    للغة طيش خاص. فكم من مرة يريد المتكلم شيئا واللغة تذهب إلى شيء آخر. وكم من خليقة نبغي التستر عليها فتخوننا فروج اللغة. من يدري فقد كان  الوصي يرغب  في قرارة نفسه، وهو يوصي بما يوصي به، أن يكون موته باذخا مدويا، و جنازته مهيبة مادام لم ينعم بالتبجيل الكافي من ذويه في حياته؟ سؤال مُغرض غير أن اللغة- لغة الوصية- توحي بذلك ضمنا  دون أن تقوله بصريح العبارة. ألا يشكو الكاتبُ أهلَه إلى قرائه، وظلم ذوي القربى أشد وأمضّ ؟ألا توغل الوصية المبضعَ عميقا في الجرح؟

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حنا مينه ليس معوزا تماما، وفقره لم يعد أسود كذي قبل وإنما صار أبيض (والوصف وصفه). فله على الأقل بيتان وتحف ثمينة (تحف صينية على الخصوص) سيعلن عرضها للبيع لاحقا في صحيفة  تشرين السورية يوم 25شتنبر(أيلول)2009- حسب تصريح غير مكتمل بالممتلكات- “.فما الذي يبتغيه “الرجل” من وصيته وشكواه بعد أن تأتى له من العمر المديد والشهرة والنجاح ما لم يتأت لسواه؟

ذاك هو السؤال الذي لا ندعي امتلاك إجابة نهائية عنه، فقط نريد التأكيد على أن  هذا النص، في نأيه عن أي منحى أدبي صرف، شهادة مُرة عن تشظي العلاقات بين المبدع وذويه إلى مدى بات معه يشعر بأنه غريب وآن له أن يرحل مغصوصا مغموما.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *