تدوير الضجر

*يوسف أبولوز

معاينة حالة الشعور بالضجر تستدعي خزانة من الكتب، تفضي في قراءتها العامة إلى ما هو فكري، فلسفي؛ أي أن الضجر ليس مجرد حالة نفسية، ذاتية، أو مرضية وربما عصابية فقط، بل يحيل الضجر أيضاً إلى حقل التأمل في الذات البشرية، ومكابداتها الوجودية بشكل خاص، بل، قد يكون الضجر بهذا المعنى دافعاً للغرق في الكتابة التي تستقصي داخل الكائن البشري كي تنقذه، ربما، من محنته الوجودية التي يبنيها هذا الشعور المدمر أحياناً، فقد يقود الضجر إلى ما هو أخطر.. أي الكآبة، غير أن الهرب من مصير الكآبة الموحش لتلافيها والنجاة منها يكون باتجاه العزلة.. العزلة الخلاقة الإبداعية الإنتاجية، لا العزلة المرضية الانغلاقية. هل الضجر هو السأم، أم هو الشعور باللا جدوى، واللا مبالاة، والعدم، والقلق.. وهي مفردات وجودية فلسفية أيضاً؟
الإجابة تتطلب مختبراً من القراءات والمقارنات، غير أن هذه المفردات ومعها الضجر، كانت في مختلف الثقافات والحضارات بمثابة تعبيرات فكرية، هي انعكاس لطغيان صنيع الإنسان تجاه الإنسان من حروب، ومن استعمار ومن استبداد فردي سلطوي، ومن تحولات اجتماعية وثقافية مثل الشعور بالمادية الطاغية في عصر الآلة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعد أن كانت البشرية تنعم بالحلم والرومانسية والبراءة، أو الفطرية النقية في الإنسان والطبيعة.

(1)

هل كتب «ألبرتو مورافيا» رواية «السأم» وهو في حالة شعور طاغٍ بالضجر، جعل من هذا النص الروائي مادة وجودية أيضاً؟
لقد كان الشعور بالسأم يلازم «مورافيا» منذ أن كان صبياً، ونحن هنا، سنعمل على السأم بوصفه ضجراً، حتى ولو كان السأم تعريفاً علمياً واصطلاحياً ونفسياً لا يتطابق تماماً والضجر، على اعتبار أن السأم هو ظل الضجر أو العكس، وفي رواية «السأم» يعتبر مورافيا أن الدين مضجر، ويقصد ب «الدين» هنا هيمنة رجال الدين المسيحي وبخاصة الرهبان والراهبات.. ويقول: «في الدير كنت أحس دائماً بأن الراهبات كن ضجرات، كما كان الرهبان ضجرين، وعلى العموم جميع الذين يهتمون بالدين في الكنائس كم يُسئمون الناس، انظر إليهم حين يكونون في الكنيسة سترى أن ليس فيهم من لا يسأم حتى الموت..».

الضجر أيضاً كان وراء رواية «الغثيان» لجان بول سارتر، بل تبدو الفلسفة الوجودية في جانب غامض أو «ناءٍ» منها تعبيراً فكرياً عن الشعور البشري بالضجر، الذي يتفاقم عند هجوم كل ما هو مادي على ما هو إنساني، طفولي، بشري، فيلوذ الإنسان إلى التأمل وطرح الأسئلة على ذاته وعلى العالم والوجود، أملاً منه في الوصول إلى شيء من الخلاص.
لم تكن الوجودية ابنة إيطاليا وفرنسا فقط، فهي فكر الأسئلة أيضاً.. فكر البحث في مصير الإنسان وأزماته المركبة، وهنا سنذهب إلى الإنجليزي «كولن ولسون» صاحب الكتابين المؤثرين: «المنتمي» و«اللا منتمي» وهما مركب فكري على روائي، على فلسفي، ويذهلك أن «ولسون» وضع كتابه هذا الذي هو أشبه بعزل أو «معزل» للشعراء والفلاسفة، وهو بعد في الخامسة والعشرين من عمره، غير أن «ولسون» الشاب نشر هذا الكتاب، بعد حوالي عشر سنوات على انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولم يتوقف عند الأفكار التي طرحها في الكتاب، ففي العام 1965 نشر «ما بعد اللا منتمي» ليكمل في ما يبدو، إغلاق دائرة قلقه أو ضجره الفلسفي.
في كتابه «المعقول واللا معقول» يضع كولن ولسون في مختبره القرائي أكثر من 30 كاتباً وفيلسوفاً وروائياً قاسمهم المشترك هو «الوجودية»، وما من كاتب من هؤلاء إلا ويصدر عن نوع من الضجر أو القلق: أوسكار وايلد، ييتس، لافكرافت، إميل زولا، فوجنر، سارتر، غراهام جرين، بيكيت، ناتالي ساروت، كازانتراجيس، موباسان، وغيرهم وغيرهم.. قرأهم كولن ولسون على بحث عميق في الطبقات النائية وما بعد النائية، في الكتابة المتشربة بالتوتر والانفعال الفلسفي الكلي. يقرأ «ولسون» ثم يستنتج عذابات، بل وحتى «أمراض» كل كاتب.. شذوذه، سأمه، قلقه، ضجره.. وما تحيط به من سيكولوجية مركبة.

(2)

هل الضجر هو شيء من «اللا طمأنينة»؟
كتب البرتغالي «فرناندو بيساوا» تحت خمسة أسماء مستعارة وربما أكثر من ذلك، وهو أيضاً أكثر من «بيساوا» واحد، فهو شاعر، وناثر، وناقد، وفيلسوف، وإن لم ينجز مشروعاً فلسفياً، له أول وله آخر كما يقولون، بل ظل «بيساوا» الموارب، الغامض، الضجر، اللا مطمئن.. وكتابه «اللا طمأنينة» سردية تأملية فلسفية هي سردية التوتر والانشداد والرعب إلى ذات تبدو معتمة أحياناً، ولكنها متطهرة دائماً بالكتابة، ومن إشارات ضجره هذه الروح العدمية:
«أحس بأنّي لست أكثر من ظل
لشكل لا أقدر على رؤيته.. يراودني
وأعيش في لا شيء مثل الظلام البارد».
وفي مكان آخر يقول في كتاب «اللا طمأنينة»، وبشكل مباشر هنا يفصح عن ضجره «لا يوجد هنا إلا حائط الضجر الذي تعلوه كسور الغضب الكبيرة».

(3)

تلتقي هذه الروح المتوثبة، القلقة، المتوترة عند فرناندو بيساوا مع روح «إدجار ألن بو» وبخاصة في قصيدته الشهيرة «الغراب»، وإن كان من اجتهاد أو تأويل هنا، فيمكن القول إن قصيدة الغراب.. الملحمية، التشاؤمية، الشرسة هي نتاج ضجر لا طمأنينة.. إنها قصيدة مخاوف، وكوابيس ومهالك وأشباح وضراعات وظلال.. يقول إدجار ألن بو في «الغراب»:
«ظل يطارده بسرعة، ويطارده سريعاً
إعصار غير رحوم
وهكذا حتى أغنياته ظلت تلازمه ضجرا
حتى مراثي أمله.. ظلت تلازمه سوداوية وضجراً»

(4)

بشيء من المغامرة في طرح السؤال. هل يكمن شيء من الضجر في مسرح «اللا معقول» أو في مسرح العبث؟
في مسرحية «في انتظار جودو» للمسرحي الكبير صموئيل بيكيت، لا يبدو المسرح خالياً برغم أن حوارية المسرحية تجري بين رجلين؛ استراجون وفلاديمير اللذين ينتظران شخصاً ثالثاً هو «بوزو»، ولكن يبقى «بوزو» هذا موضع شك، بل ريبة.
يدخل بوزو إلى المسرح وهو يسوق «لاكي» بواسطة حبل مربوط حول عنقه..
«عندما يرى بوزو.. فلاديمير واستراجون يتوقف عن المسير، يصبح الحبل مشدوداً.. يجذبه بوزو بعنف (إلى الخلف) ثم يجري الحوار التالي:
استراجون: بصوت خفيض (هل هو ذاك؟)
فلاديمير: من؟
استراجون: نعم
بوزو: أقدم لكما نفسي: بوزو
فلاديمير: لاستراجون (ليس هو)
استراجون: على استحياء لبوزو (لست جودو يا سيدي)
بوزو: بصوت مرعب (أنا بوزو)
في مثل هذا الجو العبثي العصابي التوتري، وربما تحت ظلال من الضجر تجري وقائع واحدة من أشهر مسرحيات القرن العشرين، ويكتب «كولن ولسون» عن مجمل تجربة «بيكيت» قائلاً «لقد ذهبت مؤلفات بيكيت إلى مرحلة لم يبلغها كاتب آخر في اتجاه التجريبية (الساكنة)، وقد أوصل الاحتجاج على السأم البشري والشقاء إلى درجة أن هدفه من ذلك ضاع في خضمّها، وهدفه هو طبعاً إبلاغ الآخرين بفحوى ذلك الاحتجاج».
نعم، ينطوي الشعور بالضجر على فكرة الاحتجاج والرفض.. الاحتجاج على محيط اجتماعي أو سياسي أو حتى فكري، والرفض لبيئة سالبة وأحياناً طاردة لما هو إيجابي أو حقيقي.
في المسرح وخارج المسرح يعمل «الضجر» على تخريب الجسد، وتستطيع تخيل إنسان ضَجِر بجسد متكوم، متكور، ملموم، وكأنه غير مرئي.. كل ذلك لا يصلح للمسرح.
في كتابه «الشيطان هو الضجر»، يقول المسرحي الإنجليزي «بيتر بروك» «في مسرحنا توصل ممثل من خلال التمارين الصعبة للغاية إلى أن يمتلك جسداً مرناً مؤهلاً مثل جسد أي راقص، لن يجعله بالضرورة أفضل ممثل، على الممثل أن تكون له خصوصية، وأن يكون راقصاً، ولكن من دون أن يظهر عليه ذلك».
وفي كل الأحوال الإنسان الضجر لا يرقص.

(5)

ترى.. من لا يضجر؟
ما طبيعة الشخصية التي لا تشعر بالضجر؟
إنها طبيعة الكائن الذي يحب الحياة.. الشعر مثلاً مادة خلاقة ضد الضجر، الموسيقى، الحب، السفر، المغامرة، كل ذلك يمكن أن يكون منظومة كونية ضد الضجر.
في إحدى قصص نيقولاي جوجول يريد أحد المرابين الاستحواذ على الحياة حتى وهو ميت.. نوع آخر من البشر لا يضجر. الطمع أيضاً، والطغيان، والاستبداد، دائماً في موازاة أو معاندة الحياة والجمال.
في قصة جوجول يدخل المرابي إلى مرسم أحد الفنانين ويطلب منه رسم صورة له «ارسم صورة لي، فقد أموت عن قريب، وليس لي أبناء، ولكن لا أريد أن أفنى كلياً، وأريد أن أحيا، فهل تستطيع أن ترسم صورة تصورني حياً تماماً ؟ ».
لم يضجر المرابي من الحياة، لأنها بالنسبة إليه زمن آخر للجشع، والامتلاك والأنانية، وعلى العكس تماماً من هذا المرابي، قال زهير بن أبي سلمى:
سئمتُ تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يُعمر فيهرم

(6)

أنتج الضجر أدباً حكائياً حياً في الذاكرة الإنسانية الكونية حتى الآن، ولولا ضجر «شهريار» ما كانت «ألف ليلة وليلة»، وعلى لسان شهرزاد التي ظلت تحكي لعامين وسبعة شهور من دون أن ينالها سأم ولا ضجر، وفي الأسطورة الإغريقية يغضب كبير الآلهة «زيوس» من «سيزيف» لأنه خدع إله الموت «تاناتوس»، فيعاقبه بأن يحمل صخرة إلى أعلى الجبل، وما إن يصل إلى قمته تتدحرج الصخرة إلى الأسفل، فيعاود «سيزيف» حملها من جديد إلى القمة.. ويظل يفعل ذلك إلى الأبد.
في ذروة عذابه الأبدي هذا، لم تقل الأسطورة إن سيزيف قد سئم أو ضجر في محنته هذه، بل، أضفت الحكاية عليه شكلاً من أشكال البطولة.
الحكي، أو السرد، سواء أكان قائماً على بنية أسطورية أو على بنية روائية هو في شكل من أشكاله تحايل على الضجر، الذي يجفف الوقت ويوقفه عندما يستفحل في النفس وفي الشعور.

(7)

هل يضجر لاعب الشطرنج؟
في رواية «طواسين الغزالي» للكاتب المغربي عبدالإله بن عرفة، تطلب «حواء» الغزالي إلى جولة لعب فيجيبها.. «لعل هذا من لعب الملوك ولا أحسب أني أنتسب إلى تلك الطائفة».
أحسب أن وراء رقعة الشطرنج التي لا يمل لاعبها منها ملكاً ضجراً، أنقذه عالم عبقري من ضجره، وذلك بإعمال العقل، بل والقلب في البيادق المفرودة على الرقعة من فيلة وفرسان وجنود.. ثم السفر الطويل والعميق في العقل.. عدو الضجر.

___________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *