بثينة العيسى: كيف يساهم الحوار في بناء الشخصيات؟

تستغرق عملية بناء الشخصيات معظم صفحات الرواية، فهي رصدٌ متواصلٌ للتحوّلات النفسية والفكرية والاجتماعية والجسدية التي تختبرها شخصياتك. إنها صيرورة حركية موجّهة، تنضجُ بهدوء، من خلال التراكم المعرفي الذي يحدث في ذاكرة القارئ، صفحةً بعد صفحة.

قد تكون الشخصيّة مكتملة جزئيًا في ذهن المؤلف، ولكن انكشافها التدريجي أمام القارئ يستغرق عشرات أو مئات الصفحات، وحيويّة الحوار تكمن في قدرته على كشفِ الخواص النفسية والسلوكية وأنماط التفكير لكل شخصية في العمل.

تقول إليزابيث بوين:

“أثناء الحوار، تواجه الشخصيات بعضها بعضًا. المواجهة بذاتها هي مناسَبة. وكلّ واحدة من تلك المناسَبات التي تحدث بطول الرواية، ذات فرادة. فمنذُ المواجهة الأخيرة، تغيّر أمرٌ ما، تطوّر أمرٌ ما. ما يتمُّ قوله هو نتيجة أمرٍ ما قد حدث. في الوقتِ نفسه، ما يتمُّ قوله هو بذاته أمرٌ يحدث، وهو ما سيتركُ نتيجة في النهاية”. [i]

تقولُ بوين:

“الحوار هو الوسيلة المثالية لإظهار ما هو موجودٌ بين الشخصيات. إنه يبلوِر العلاقات. ويُفترضُ بهِ – مثاليًا – أن يكون فعّالاً إلى الحد الذي يجعل التحليل والشرح للعلاقات بين الشخصيات، أمرًا غير ضروري”[ii].

وتقول:

“الحوار يعطينا الوسيلة لتجسيد سيكولوجية الشخصيات. يفترضُ به أن يجنبنا عناء شرح الخصائص العقلية. كل جملة في الحوار يجب أن تصف للشخصية المتحدثة”. [iii]

وبالمثلِ، يقول ستيفن كينغ:

” الحوار المكتوب ببراعة سوف يظهر ما إذا كانت الشخصية ذكية أو حمقاء، صادقة أو مراوغة، ممتعة أو جادة”. [iv]

لا يكفي، على سبيل المثال، أن تصف شخصية بالذكاء والظرف، بل يجب أن يظهر الحوار ذكاءها، أو ظرفها. والحقيقة أن الأفضل هو ألا تصف الشخصية إطلاقًا، وأن يتولى الحوار هذه المهمة بالنيابة عنك.

وكمثالٍ على ذلك، نذكرُ في رواية “الحبّ في زمن الكوليرا” لـ غابرييل ماركيز ما قالته فيرمينا داثا لعاشقها بعد أن طلبها للزواج: “أوافقُ على الزواج منك إن أنت وعدتني بألا تجبرني على أكل الباذنجان”. إن سطرًا كهذا يكشفُ الكثير عن الطبيعة الطفلة والبسيطة لفيرمينا داثا، وعن عدم فهمها لما يعنيهِ الزواج. ولعل كاتبًا أقل دراية من ماركيز كان سيكتفي بأن يصف فيرمينا داثا بأنها “طفلة، ساذجة، وغير ناضجة”.

في المثال الآتي نموذج آخر لقدرة الحوار على كشفِ طبائع الشخصيات بدلاً من تقريرها:

.. ومن القمّة تطلّعا إلى دائرة خضرة الحديقة المحاطة من كل الجهات بغمامة ضباب كثيفة ضاربة إلى البياض.

 – ماذا يوجد فيما وراءها؟ – سألتْ.

– سحب.

– وفيما وراء السحب؟

– لا أدري.

– ربّما يسكن هناك من يراقبنا. هل حاولت الخروج من الحديقة؟

– لا. أعرف أنه غير مقدّر لنا الخروج إلى ما وراء الخضرة.

– وكيف تعرفُ ذلك؟

– أعرفه.

– مثلما تعرف الأسماء؟

– أجل.

المثال السابق الذي استقيناه من رواية جيوكندا بيللي (اللا متناهي في راحة اليد) يحكي قصّة الرجل الأوّل والمرأة الأولى؛ آدم وحوّاء.

يظهر هذا المقطع الحواري، مثلا، أن حواء كانت ملحّة كثيرة الأسئلة، وفضولية، تمهيدًا لجعلها الطرف الذي سيبادر بأكل الثمرة المحرّمة من “شجرة المعرفة”. وأيضًا نكتشفُ من خلال الحوار بعض المعلومات بطريقةٍ أبعد ما تكون عن التلقين، مثل أن آدم يعرفُ، بشكلٍ حدسي، ما هو مقدّر وما هو لا، وأسماء الأشياء.

يفترضُ بالحوار أن يكشف الشخصية للقارئ، من الناحية الثقافية والاجتماعية، العرقية والدينية، النفسية والعاطفية. إنه عاكسٌ لدوافعها ورغباتها ومخاوفها. ولا يُشترط أن يحدث ذلك بشكلٍ مباشرٍ أو مقصود من قبل المتحدث نفسه، فقد يكشفُ الحوار عن الشخصية أكثر مما تريد الشخصية أن تكشفه عن نفسها.

تقول يودورا ولتي:

“على الحوار ألا يكتفي بإظهار ما يريد المتكلم كشفه عن نفسه، بل يجب أن يتضمن شيئًا عن المتكلم لا يعرفه هو، ولكن الشخصيات الأخرى تعرفه”[i].

أو يعرفهُ ولكنّه يخفيه، كما في المثال

قبل أسبوع قالت له صفية، وهما في منزلهما في رام الله:

 -إنهم يذهبون إلى كلّ مكان، ألا نذهب إلى حيفا؟

وكان عندها يتناول عشاءه، ورأى يده تقف تلقائيا بين الصحن وبين فمه. ونظر نحوها بعد برهة فرآها تستدير، كي لا يقرأ شيئا في عينيها، ثمّ قال لها:

 -نذهب إلى حيفا.. لماذا؟

وجاءهُ صوتها خافتًا:

-نرى بيتنا هناك. فقط نراه.

 وأعاد لقمته إلى الصحن وقام فوقف أمامها. كان رأسها يتكئ على صدرها كمن يريد أن يعترف بذنب غير متوقّع. فوضع أصابعه تحت ذقنها ورفع رأسها فإذا بعينيها تنضحان بدموعٍ غزيرة، فسألها بحنوّ:

– صفية.. بماذا تفكّرين؟

 وهزّت رأسها موافقة دون أن تقول شيئًا، فقد عرفت أنه يعرف، وربما كان هو الآخر يفكّر طوال الوقت بذلك وينتظرها أن تبادئ كي لا تشعر بأنها – كما كانت تشعر دائمًا – هي التي ارتكبت تلك الفجيعة التي شجّرت قلبيهما معًا، فهمس بصوتٍ مبحوح:

– خلدون؟ 

 واكتشف على التوّ أن ذلك الاسم لم يلفظ قط في تلك الغرفة منذ زمنٍ طويل، وأنهما في المرات القليلة التي تحدثا عنه كانا يقولان هوَ ..

في المثال السابق المقتبس من رواية “عائد إلى حيفا” لغسّان كنفاني، نرى مثالاً لما ذكرته يودورا ويلتي، عن الحوار الذي يكشفُ للمتكلّم أكثر مما يريد أن يكشف عن نفسه؛ صفيّة، تحت حجة رؤية بيتها القديم، تبحثُ في الحقيقة عن ابنها “خلدون” الذي تركته في البيت ليلة فرارها. والزوج اكتشف بأنه كان يفكّر بابنه لسنواتٍ ولكنه انتظر أن تبدأ صفية بالسؤال حتى لا يشعرها بأنه “يلومها” على تركِه.  وأن الاثنين اتفقا ضمنًا طوال سنوات على ألا يذكر اسم ابنهما الذي فقداه ليلة فرارهما. أمورٌ كثيرة تكشفت للشخصيات والقارئ معًا من خلال مشهد حواريٍ من صفحةٍ ونصف.

توجد في كل إنسان تلك المنطقة العمياء المجهولة تمامًا بالنسبة إليه، يراها الآخرون ولا يراها هو. ولا أعتقد بأن على الشخصيات الروائية أن تختلف بهذا الشأن. ففي كلّ شخصية منطقة مظلمة يمكن أن يساهم الحوار في كشفها للقارئ وللشخصيات الأخرى على حدّ سواء.

وجديرٌ بالذكر أن ننوّه بأن “ما تقولهُ الشخصيات والطريقة التي تقوله بها يتركان انطباعًا قويًا في القارئ”، ففي حال وجود تعارض بين أفكار ومشاعر الشخصياتِ، وبين كلامها الظاهر في الحوار، سيفترض القارئ – وبغياب أي دليلٍ آخر – أن الانفعال الظاهر هو الصحيح. إذ يمكن أن تشعر الشخصية بالغضب، ولكنها مع ذلك تظهر عدم الاهتمام. في هذه الحالة، يجب على الكاتب أن يظهر للقارئ الشعور الحقيقي، إلى جانب الكلام الظاهر. [i]

يقول ستيفن كينغ:

“عندما يكون الحوار صحيحًا، فنحن نعرف. وعندما يكون خاطئًا، فنحنُ نعرف أيضًا. إنه يضرب في آذاننا مثل آلة موسيقية سيئة الضبط”. [ii]

وبالنسبة إليه، فإنّ مفتاح كتابة حوارٍ ناجحٍ هو “الصدق”، الأمر الذي يعني أن تستنطق الشخصية بأمانة، وأن تعطي كل شخصية صوتها الصحيح؛ أن يتكلم الوغد كالأوغاد، والسيّد النبيل كالسادة النبلاء، الطفل كالطفلِ والكهل كالكهل والمجنون كالمجنون والملك كالملك.


المصدر: كتاب “بين صوتين”، 2015. الدار العربية للعلوم ناشرون.

[i]  نانسي كريس؛ تقنيات الكتابة الروائية (تقنيات وتمارين لابتكار شخصيات ديناميكية ووجهات نظر ناجحة). الدار العربية للعلوم ناشرون، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم. 2009.

[ii] Stephen King; On Writing – A Memoir of the Craft. Tenth Anniversary Edition. Pub: Scribner. 2000.

[i] John Winokur; Advice to Writers – A Compendium of Quotes, Anecdotes, and Writerly Wisdom from a Dazzling Array of Literary Lights Compiled and Edited. Pub: Vintage. 1999.

[i] Elizabeth Bowen; Notes on Writing a Novel. An Essay. http://www.narrativemagazine.com/

[ii] المصدر السابق.

[iii] المصدر السابق.

[iv] Stephen King; On Writing – A Memoir of the Craft. Tenth Anniversary Edition. Pub: Scribner. 2000.

 _________
*تكوين

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *