ارتبط الضجيج دائماً بالإزعاج وبالأصوات الزاعقة، ومدافع الحرب وهدير آلات المدن الصناعية، والحشود الجماهيرية، وحركات الاحتجاج والأسواق، وبالطرقات المرورية غير المنظمة، وكذلك بالاحتفالات الشعبية، وربما بالثرثرة والكلام غير المجدي.. الخ. شكل ثقافة كانت دائماً على النقيض من ثقافة «سكان الشرفات الهادئة» وأماكن «أصحاب الياقات البيضاء»،
لايمكن في حالات الضجيج، التمتع بفن الاستماع أو الدخول في نقاشات أو حوارات، وربما يختفي العقل، ويتحكم الصوت العالي في انفعالات الإنسان وسلوكياته. في ظل الضجيج لا نستطيع أن نتحلى بما يطلق عليه
(ديفد هندي) في كتابه «الضجيج.. تاريخ إنساني للصوت والإصغاء»: فضيلة الصمت المبجل، تلك التي على أساسها نستطيع إعمال آلة العقل، ونتأمل الطبيعة، ونحفز الوجدان.
(1)
في الكتاب السابق، يعرف (ديفد هندي) الضجيج بأنه «الصوت في غير محله»، هذا التعريف المنفتح على مدارات لا نهاية لها، يشعر كل متأمل فيه بأن في محيطه شيئاً ما، يسبب له الضجيج. يحيرنا هندي أكثر باستطراده في تعريف الضجيج بالقول: «في أي مكان نكون فيه، فإن ما نسمعه في الغالب هو الضجيج، يزعجنا عندما نتجاهله، ويطربنا حينما نصغي إليه»، هو يلتقط عبر هذا المعنى شعور كل فرد منا بالأصوات التي يتعرض لها على مدار اليوم، فربما ما اعتبره أنا صوتاً يدعو إلى الاستماع والتأمل، يعتبره غيري ضجيجاً.
لكل منا «ضجيجه» الخاص، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام رؤيتنا للأصوات، ورغبة معظمنا وخاصة من الشباب في عدم التعرض ل«الصوت الاجتماعي»، صوت البشر والأشياء من حولهم، بوضع سماعات على الأذن ملحقة بالتليفون المحمول للإنصات ل«صوت خاص» بهم، هرباً من أي صوت يأتي من الخارج، ومنعاً لأي محاولة لاقتراب الآخرين منهم، فالصوت في أحد تعريفاته هو «اللمس عن بعد»، هي إشارة بصرية تجعل الآخر يفكر لوهلة قبل أن يطلب الحديث إلى هذا المنعزل عن العالم والذي يكتفي بصوته الخاص.
ولكن هل كان الضجيج دوماً بهذه الصورة السلبية؟، لقد كان الضجيج أول وسيلة اتصال جماعية بين البشر، كان الضجيج هو صوت الغابة، ووسيلة للحماية والدفاع عبر تجمع البشر معاً لمواجهة الأخطار التي تهددهم، كان صوت الإنسان في مواجهة المجهول، كان تحدياً للظلام، ودعوة للبعض للخروج من أماكن الاختباء، ورسالة يفهم منها البعيد ضرورة الإقبال للتشارك في مسألة ما.
في البدايات الأولى كان هناك الصراخ، لم يكن ذلك مستهجناً، أو إزعاجاً، أو ضجيجاً، يحدد يوليوس ليبس في كتابه «أصل الأشياء.. بدايات الثقافة الإنسانية» خمسة أنواع من الصراخ لاحظها الأنثروبولوجيون لدى الكثير من القبائل البدائية، صرخات حادة تختلف طبقاتها نتيجة للغرض منها، تتضمن أسئلة مثل: أين أنت؟، أو احذر، أو تعالى إلى هنا أو تنبه الآخرين، في حال هبوب عاصفة. وتطور الأمر عند قبائل أخرى إلى الصفير ثم الطبلة، وكانت هذه وسيلة التخاطب البعيد التي فوجئ بها المستعمرون للقارة الإفريقية، وللأمريكتين، فهناك في الأدب الكولونيالي والسينما صور بالغة الدلالة توحي برابطة ما بين الصوت الاجتماعي «الضجيج» والهوية.
لقد كتب علماء الأنثروبولوجي عن ضجيج طقوس الشامان، والطبلة الإفريقية، وعن الصيحات الرهيبة والزعيق البشع لمن أطلقوا عليهم «الهنود الحمر» كانت تلك الأصوات من وجهة نظرهم بمثابة «الهمهمات الحيوانية». ويحكي (ديفد هندي) عن واحدة من أعنف ثورات العبيد التي حدثت في ولاية كارولينا الشمالية في عام 1739، عندما جمع العبيد بعضهم البعض عبر الطَّرق الشديد للطبلة «كانوا يطالبون بالحرية وهم يسيرون بطريقة منظمة، يقرعون اثنين من الطبول. أما المستكشف توماس ميتشل فكتب في عام 1839 عن وسائل ناجعة لتخويف السكان الأصليين، عندما يفكرون في مهاجمة المستعمرين البيض لأمريكا من خلال تخويفهم الشديد ب«الأبواق الناطقة» و«النواقيس».
لم يكن الصوت الزاعق – الاجتماعي – الضجيج وسيلة للحماية أو التخاطب أو التعبير عن هوية ما، بالنسبة للشعوب الأدنى في سلم الحضارة، ولكن (هندي) يرصد أيضاً دور الملعب الروماني بضجيج جماهيره وضحاياه في تشكل الروح الغربية، ووظيفة جرس الكنيسة الدينية الحمائية في الوقت نفسه، فهو من جهة يطرد «الأصوات الشريرة» و«ضجيج الشيطان» ويذكر أبناء الأبرشية الواحدة بانتمائهم لمكان واحد: «أن يكون أحد أبناء الأبرشية في الواقع، على مقربة من جرس الكنيسة المحلي»، وفي العصر الحديث كان البارود مقدمة للثورة الصناعية، تلك التي نقرأ عن وقائعها في الروايات التي تصور لنا لندن الصاخبة والبائسة في القرن التاسع عشر، وكان فاتحة لدويّ مدافع أكبر حركة استعمارية في التاريخ، ولعب بوق ساعي البريد دوراً مهمّاً في إحساس الأمريكيين بوحدة بلادهم.
في إحدى روايات ألبرتو مورافيا تصوير بارع لرجل معارض، يقف وسط الجماهير يستمع إلى موسوليني الذي كان يعتبر كلامه صراخاً، ومع زعيق «الزعيم» وصراخ الأتباع، يخترق الضجيج مسامه، يتسرب إلى عقله، ويشعر بالخوف من تحوله إلى المعسكر الفاشي، ويسرع بالابتعاد مدهوشاً وهلعاً، وهناك مشاهد مماثلة ربما نجدها هنا أو هناك لا تقتصر وحسب على الطغاة؛ فهندي في كتابه السابق يرى أن جاذبية باراك أوباما تعود إلى أنه أكثر رئيس أمريكي مفوّه يمتلك نبرة قوية وواثقة، وقادر على الإقناع السياسي منذ إبراهام لنكولن.
الضجيج إذن؛ حاضر وبقوة في مختلف مراحل تاريخ الإنسان، يؤدي وظائف سياسية واجتماعية، وتختلف رؤيته والتعامل معه من ثقافة إلى أخرى، بل من موقف إلى آخر، هو «الصوت في مداه الأقصى» عندما نرغب في مواجهة الشر والخطر، بمفرداتهما المختلفة، على المستوى الجمعي أو الفردي، أي لا يتعلق بالجماعة فقط، فقد يقوم أحدنا بضجيج ليلفت الانتباه إلى مشكلة ما يتعرض لها، أو يطلب المساعدة في أحد المواقف، أو يحاول تركيز الأضواء عليه، أو حتى لإزعاج الآخرين، فللضجيج الفردي بدوره استخدامات وإشباعات. وفي حالات الخوف الفردية أيضاً يطلق الإنسان صرخات وصيحات وربما يكون على ثقة بأنه لمفردة، الصراخ هنا معبر عن الألم، عن رفض المجهول.
الضجيج يعبر عن الهوية ووحدة الجماعة، وسيلة للإقناع الصاخب والسهل والرأسي والغرائزي في حالة الديكتاتوريات والإقناع الهادئ الطويل والأفقي في الديموقراطيات، وأداة لتفريغ مكبوتات لا نهاية لها في المباريات الضخمة. وهو أيضاً «صوت من لا صوت لهم» أو«صوت المهمشين».
(2)
للعين ضجيجها الخاص. لاحظ الباحث الاجتماعي سيد عويس، ظاهرة الكتابة على السيارات في مصر، وأطلق على هذه الظاهرة «هتاف الصامتين»، وهو المصطلح الذي اختاره ليكون عنواناً لأحد أشهر كتبه. استمر ما يقرب من ثلاث سنوات من عام 1967 إلى عام 1970، في مراقبة آلاف السيارات من مختلف الأنواع في معظم المدن المصرية التي يكتب عليها أصحابها آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة وعبارات من الموروث الشعبي.. الخ، وجمع آلاف العبارات والكلمات وأخضعها للتحليل الاجتماعي، وإن كانت (الرؤية المثقفنة) دفعت عويس في البداية إلى اعتبار الظاهرة إحدى تجليات هزيمة 5 يونيو 1967 إلاّ أن التحليل الاجتماعي دفعه لكي يفهم دوافعها، فهي ليست في النهاية إلا آلية لمواجهة المجهول.
يقول عويس: «هؤلاء الناس، يقصد أصحاب هذه السيارات، يخرجون من بيوتهم في كل يوم سعياً وراء الرزق..أو كما يقول بعضهم: «على فيض الكريم». والرزق عندهم أمر ليس فقط مجهولاً؛ بل قد يحسدهم عليه الآخرون. وفي سبيل الحصول عليه يرتبط الرزق بأمور أخرى مجهولة، ولكنها في ضوء الخبرات اليومية، أمور متوقعة ومن هذه الأمور ما قد يكون مستحباً ومرغوباً فيه مثل وفرة الرزق والعودة إلى البيوت سالمين، ومن هذه الأمور أيضاً، في ضوء الخبرات اليومية، ما يكون غير مستحب أو غير مطلوب مثل حسد الحاسدين، وضآلة الرزق، وعنت الزبائن.. فضلاً عن الحوادث على اختلاف خطرها وخطورتها التي قد يواجهونها في أثناء عملهم الكادح المستمر أثناء الليل أو في أثناء النهار». هذه الكتابة فضلاً عن وظيفتها الأساسية في الحماية ودرء خطر مبهم يتعلق بتقلبات الحياة اليومية، فإنها تتعدى ذلك إلى آفاق أوسع. آفاق تمس المناخ الاجتماعي الثقافي لهذا المجتمع، وتعكس الكثير من العناصر الثقافية غير المادية التي تملأ هذا المناخ.
الكتابة على السيارات أيضاً وفق عويس، جهاز إعلامي شعبي للبسطاء، كلمات مكتوبة على هياكل السيارات بمثابة تنبيه للآخرين، ولكن في بلد مثل مصر مثلاً تتجاوز الظاهرة رصد عويس، فالكتابة التنبيهية أو الاحتجاجية أو المعبرة عن أمنيات وأحلام نجدها في كل مكان.. على جدران الشوارع وفي المحلات المختلفة، وعلى واجهات بعض البيوت وفي وسائل النقل العام.. الخ، ولا تبدأ بكلمات غاضبة متمردة ولا تنتهي بقصة حب مكتوبة على هذا الجدار أو ذاك، وهنا نتذكر الإعلان الإرشادي الذي ظهر فيه الممثل عمر الشريف بجوار أحد المعابد في مدينة الأقصر مطالباً الشباب بعدم تشويه جدران المعابد بكتابة قصص حبهم عليها.
في التسعينات من القرن العشرين، مارس الكاتب محمود عبد الرازق عفيفي، الضجيج البصري في بعض شوارع القاهرة، كان يطلق على نفسه لقب «أديب الشباب»، ويكتب على الجدران: «كتاباتي أفضل من طه حسين وزكي نجيب محمود»، وتحول من كاتب محتج يحاول أن يلفت انتباه القارئ إلى مؤلف جديد ومغمور، إلى راغب في جذب كل الأنظار حيث كتب ذات مرة «كلينتون برىء»، هنا تتجاوز الكتابة على الجدران فضاء «هتاف الصامتين» أو«الإعلام الشعبي» أو«التعبير البسيط عن الذات» إلى ما يحتاج إلى دراسة أعمق، تتناول الكلمات كرموز ورسائل يود الآخر أن يصل بها إلينا عبر أكثر الفضاءات انفتاحاً وعمومية ونعني الشارع.
للصامتين أنواع أخرى من الضجيج، وهو ضجيج سمعي وبصري، في الأفراح وفي الأسواق الشعبية وفي ظاهرة الموالد، في كل هذه المناسبات والأمكنة لن تحيط بأذنيك الأصوات الزاعقة وحسب، ولكن تشعر أنك تشاهد كذلك لوحة تشكيلية تمتلئ بالألوان وبوجوه منفعلة بشتى المشاعر، وستشم روائح من كل نوع وستضطر إلى الحديث رغماً عنك.. الخ، أي سيخترقك الضجيج من حواسك كافة.
(3)
للروح ضجيجها. «الجحيم هو الآخرون» مقولة شهيرة لسارتر، ربما تصور في أحد معانيها رفض «الضجيج» الذي ينتج عن العلاقة بالآخر بأشكاله المختلفة، يأتي على رأسها الضجيج الذي يتسلل إلينا ليشمل الروح، ونحن نشعر من كتابات سارتر وكامو وسيوران وتشافيزي وتوماس بيرنهارد وبيكيت وألفريدا يلنيك، أننا أمام أرواح لا تعاني من الضجيج وحسب ولكنها تعيد إنتاجه أيضاً. إن هذه القراءات في مرحلة عمرية ما، وإذا كنا نهرب إليها فراراً من الضجيج، سعياً وراء الهدوء والوحدة والتأمل وتلك المتعة الخفية التي كانت تقتحمنا أمام مقولة متمردة أو فكرة خارج السياق العام، فإنها تصيب أرواحنا بالضجيج في مرحلة عمرية أخرى.
في كتابها اللافت «أساتذة اليأس.. النزعة العدمية في الأدب الأوروبي»، تصور لنا نانسي هيوستن، هؤلاء الكتاب بوصفهم مبدعين يحاولون اختراق أرواحنا، أي أن الضجيج يبدأ من عندهم أولاً ونتيجة لعوامل شخصية وتجارب مؤلمة مروا بها بالدرجة الأولى، فالنزعة العدمية ليست ابنة ذلك الكاتب أو المفكر المنعزل عن العالم، يتأمله بصمت ومن ثم يرفضه، ولكنها كانت نتاج خبرات تألم أصحابها نتيجة ضجيج الحياة، معظم هؤلاء عانوا في طفولتهم ومروا بتجارب عاطفية فاشلة، ولم يتزوجوا أو ينجبوا وكانت لهم مواقف شديدة الحدة تجاه تكوين أسرة وتربية أطفال، بل ويكرهون الأطفال، فضلاً عن رؤية سوداوية تجاه مصير الفرد، كانوا يرفضون الحياة من الأساس، يقول بيكيت «ولادتي كانت خسارتي»، أما سيوران فيزعق قائلاً: «منذ البويضة، هي لعبة الموت».
ولنستمع إلى صوت توماس بيرنهارد «الضاجّ باليأس» صارخاً: «هل تفهمون؟ الحياة هي اليأس/ الخالص، شديد الصفاء، شديد العتمة».
(4)
هل يوجد ما يسمى بالصمت؟ يرافق الضجيج الإنسان منذ بداياته وحتى النهاية، في العصور الوسطى كانوا يدقون ناقوس الموت عند رأس المحتضر لإبعاد الأرواح الشريرة.
في بدايات البشر الأولى، امتزج الضجيج السمعي والبصري معاً، يفسر علماء الآثار تلك الرسوم التي وجدوها في كهوف جبال البرانس منذ آلاف السنين، بوصفها أشكالاً رسمها الإنسان البدائي في الأماكن التي تشتد فيها قوة صدى الصوت، وتصبح منبهة للأذن على نحو لافت وكأن الرسمة مع الصوت يمتزجان في خريطة سمعية بصرية ترشد المتحرك في زوايا هذه الكهوف، فهذا البدائي يتحرك في خبيئته نهاراً اعتماداً على الصدى، وعندما يخاف ليلاً من ذلك الصدى فبإمكانه أن يشعل ناراً ليسير متتبعاً أشكاله حتى يصل إلى مأواه بأمان.
هل يوجد ما يسمى بالصمت؟ عندما نصمت قد تضج رؤوسنا بالأفكار، أو تفيض مشاعرنا بعشرات الأحاسيس، وحتى عندما ننام فهناك أحلامنا وكوابيسنا، وعندما نهرب إلى شاشات التليفون المحمول فإننا كثيراً ما نمارس نوعاً من الضجيج في الواقع الافتراضي.
(5)
للضجيج، قاموسه اللغوي الخاص، الذي نقرأ فيه عن الجلبة والزعيق والصريخ والإزعاج.. الخ، وله أدواته الملموسة مثل البوق والناقوس والميكروفون وغيرها، وله أيضاً إحالات معرفية وتاريخية ترتبط بالهوية والحماية والأمان، واستخدامات سياسية ووظائف اجتماعية، ويعبر عن ثقافات عديدة وطبقات ذات موروث ثري. هو رؤية متكاملة.. نفر منه أحياناً إلى ضجيج استبطان الذات وتأملها، أو نهرب إلى ضجيجنا الخاص في الفيسبوك وتويتر، وفي أحيان أخرى نتعاطف مع ضجيج الصامتين، ونتلمس فسحة من المتعة والسعادة عبر الانخراط في احتفالاتهم الصاخبة.
الضجيج في أحواله كافة، في مغزاه السلبي المباشر، الذي يشعرنا أحياناً بالغضب ويدفعنا بمكره إلى الفرار نحو آفاق أخرى من الضجيج، ينبهنا إلى قيمة الحياة وضرورة الانخراط فيها بفرح بعيداً عن صمت الموت.
الهدوء.. سلعة
جعل عازل الصوت الهدوء سلعة خاصة بوجه عام، متاحة للشركات الكبيرة أو الأفراد الأثرياء بدلاً من أولئك الذين يعيشون في ظروف أكثر ضجيجاً واكتظاظاً، وربما الذين هم في أشد الحاجة إليه؛ بل الأسوأ من ذلك وهو ما يعني أن أولئك الأشخاص ونحن منهم. المحتجزون بأمان وراء الجدران العازلة للصوت أصبحوا معتادين على الهدوء، وحساسين بشكل مفرط تجاه الضجيج في الخارج، الذي كما يبدو أنه أصبح فجأة بنبرة أعلى وأكثر تهديداً من قبل، فأصوات الناس التي نعرفها ونحبها أصبحت «فجأة» تضرب آذاننا بوصفها شيئاً غير مرغوب فيه، وعندما نعزل الصوت عنا يصبح الناس في الخارج غرباء بالنسبة لنا، وفي عزلة أنفسنا عن هذا العالم الواسع، نفتقد كل أنواع الأصوات، التي يجب أن نستمع إليها حقاً. جسّد هذا الصمم ببراعة في حلقات المسلسل التلفزيوني «رجال ماد» في الآونة الأخيرة، الذي تدور أحداثه في «جادة ماديسون»؛ وهو الشارع نفسه الموجود به تصميم «كاس كلبرت» لعازل صوت رائع لمبنى التأمين على الحياة، يقضي شخصيات مسلسل «رجال ماد» أيام عملهم في مكتب إعلانات فخم خافت، في محاولة يائسة لمعرفة أحدث التحولات والانعطافات في الذوق العام ويحاولون- ولا يفلحون- في فهم المتغيرات الهائلة في المجتمع الأمريكي، الذي أحدثته الحركة النسوية وحركة الحقوق المدنية. وسوء فهم رجال الإعلان هو الثمن الذي دفعوه؛ لكونهم غير قادرين على سماع اندفاع أسلوب الستينات القادم تجاههم من هارلم وقرية غرينتش.
كما يقول جورج بروشنك في كتاب «السعي وراء الهدوء»: «عازل للصوت رائع كروعة السترات الواقية من الرصاص»؛ لكنه أضاف «ألن يكون من الأفضل عدم القلق من إمكانية تعرضنا لإطلاق النار طوال الوقت؟ يجب أن يكون الجواب المدوي نعم، يمكن معالجة الضجيج بنجاح إذا ما دخلنا معه في الساحة العامة.
من كتاب ديفد هندي «الضجيج..تاريخ إنساني للصوت والإصغاء»، ترجمة بندر محمد الحربي، مشروع كلمة، أبوظبي 2016