هل آخرُ السّلالِمِ أوّلُها، حقّاً؟

*أدونيس

– 1 –

لم يَعُدْ لدينا مكانٌ ولا قدرةٌ لكي نتابع رؤيةَ ما نرى.

المَرئيُّ أصابَنا بدُوارٍ أتْخَمَنا. أتْخمَ البصرَ وبقيّةَ الحواسّ. أتْخمَ البصيرةَ أيضاً. ما أغناكَ أيُّها العالَم، بالفَقر والبؤس والمَسكَنة –

طفلٌ يرضع التُّرابَ والحصى.

رجلٌ يأكلُ طفلاً.

شعبٌ يزدَرِدُ شعوباً.

– 2 –

بَلى، أصابَتنا كذلك تُخْمَةُ الخضوع.

الخضوع لكي نرى، هذه المرّة، كلَّ ما لا يُرى.

وهذا اللامَرئيّ لا يعني الغيْبَ. لا يعني، على الأخصّ، كلَّ ما يتعلَّق بما وراء الطّبيعة. يعني حصراً، ويا للغرابة، ما يدخل في حركة الواقع. ما ينسج الشِّباكَ، والعُقَدَ، والعلاقات.

وليس هذا اللّامرئيُّ ما نُمنَع، لسبب أو آخر، من رؤيته، وإنّما هو ما نراه ولا نقدر أن نبرهن على رؤيتنا. أو هو ما إذا رأيناه وأعلنّا عنه، يكذّبنا «الواقع». ولا يصدّقنا حتى «أصدقاؤنا».

هذا «الواقع» الذي ليس واقعاً، أبداً، كيفما نظرت إليه، هو، بالضّبط، كما يعلّمنا «القادة» أهل الحلّ والعقد، عمود الثّقافة العربيّة الأوّل، واللبنة الأولى في عمارة أخلاقنا العربيّة السّائدة.

مرئيّ، لكنّه غير مرئيّ. لا مرئيّ– لكنّه مرئيٌّ لكي يشهد الرّائي، بالصّمت، على الأقلّ، أنّه لا مَرئي.

موهبةُ عدم الرّؤية : تلك هي حجرٌ أساسٌ في عمارة الحياة العربيّة.

أنتَ ترى ما يفعله النِّظامُ العربيّ: وغيرُك يراه أيضاً. لكن كلٌّ يراه بعين العلاقة مع النّظام سلباً أو إيجاباً– هذا أو ذاك أو ذلك– ولا يراه بعين العلاقة مع الواقع والحقيقة. هكذا يتحوّل عمليّاً، إلى «شيء غير مرئيّ».

– 3 –

لا تُدرِك العينُ العربيّةُ السّياسيّةُ والثّقافيّة ما يتحرّك أمامها. غير أنّها في اللحظة ذاتها تدرك ما ليس له وجودٌ في الواقع، وما لا تمكن رؤيتُه. كأنّها تتخيّل ما لا يمكن تخيُّلُه، وتفكِّر في ما ليس صالحاً أو قابلاً لأيّ تفكير. كأنّها هي نفسها، كمثل ما تراه: «موجودة»، «غير موجودة». ترى الشيءَ ولا تراه، في اللحظة ذاتها.

– 4 –

إذا كان ما تراه هذه العينُ العربيّة «غير موجود»، أفلا تكون رؤية الشّيء أو تخيُّله، هما أيضاً، غيرَ موجودَين؟

أفلا تكون المعرفة في هذه الحالة هي في ذاتها وهميّة؟

أفلا يرقى «الوهم» هنا، بالنسبة للواهم، إلى مستوى المعرفة العليا؟

– 5 –

لكن، ماذا نرى، عندما لا نرى شيئاً؟ وفي أيّ شيء نفكّر، عندما لا نفكّر في أيّ شيء؟ يسأل فنّان يقول عن نفسه دائماً بأنّه « لا يُبالي «.

– 6 –

«رؤيةُ ما لا يُرى»: أهِي موهبةٌ ؟

«التّفكير في ما لا يُفَكَّرُ فيه»: أهُوَ تَحدٍّ للفهم، أو للحساسيّة، أو للمعنى، أو لهذه جميعاً؟

و«الموهبة» هنا، أهي حقيقيّةٌ أم وهميّةٌ ؟

لكن، لماذا يتكاثَرُ الذين يكتبون عمّا لا يفكّرون فيه أبداً؟

ومن أين تجيئهم القدرة على الكتابة عن شيءٍ لم يفكِّروا فيه؟

– 7 –

يُقالُ، تاريخيّاً، وهو قَوْلٌ يحتاجُ إلى تَمحيصٍ تاريخيّ:

البحثُ والكتابة في الأشياء غير الموجودة، خاصّيّة أساسيّة في التّفكير العربيّ، وفي الثّقافة العربيّة.

«ومن أين تجيء، إذاً، هذه الموهبة– المقدرة: الإيمان بأنّنا نرى، وبأنّنا نفكّر، لحظة لا نرى شيئاً، ولا نفكّر في أيّ شيء؟ «

يحتجُّ متسائلاً، باحِثٌ يشكُّ حتّى في لفظة «تاريخ». ولا أريد الآن، أن أعلِّق على هذا الاحتجاج.

– 8 –

يقول الفيلسوف الألمانيّ كانط: « الإنسان حيوانٌ يحتاج، منذ اللحظة التي يعيش فيها بين أفرادٍ من نوعه، إلى معلّم. وهذا المعلِّم هو مثله كذلك، حيوانٌ يحتاج إلى معلِّم …»

لكن، من أين يجيء «العلم»؟

مِن «المرئيّ»، أو مِن «اللامَرئيّ»، أو منهما معاً، وكيف؟

وتزداد المسألة تعقيداً في ثقافة ليست ظاهرةَ بَحْثٍ وتساؤلٍ وكشْفٍ واستقصاء، بمقدار ما هي ظاهرةٌ سيكولوجيّة. إذ لا بُدَّ آنذاك من فهم العلاقات التي تقوم بين فعل السّياسة وفعل التّحليل النّفسيّ. ومَن يقدر أن يقوم بهذه المهمّة في الثّقافة العربيّة، مثلاً؟ حيث لا مكانَ إلاّ للفكر المُرَوَّضِ وللواحِدِيّة التي ترفض الآخَريّة. وحيث لا تُؤَسَّسُ العلاقة إلاّ لنَفْيِ العلاقة. وحيث العلاقة ليست في الحقيقة إلاّ لاعلاقة. وحيث الآخرُ منبوذٌ سَلَفاً، أو حيث الشّكل الأوّل للآخَريّة، نَفْيٌ للآخَريّة. وحيث الجَماعةُ آلةٌ، وفعلُها إنّما هو فعلُ الآلة.

– 9 –

«معلِّمٌ، يحتاجُ بدوره إلى معلِّم، يحتاج بدوره إلى معلِّم… إلخ»:

وهكذا علّمَنا «ربيعُنا»، حتّى أصبحنا جميعاً، في هذا « العلم «– «التعلُّم»، أطبّاء– مرضى، أو مرضى – أطبّاء. وحتّى بدا بعضُنا خصوصاً في مرآة الغرائب (الكريهة، طبعاً)، والمتعلِّقة بسوريا والعراق، على الأخصّ، أنّ من الممكن أن نرى حولنا سوريين وعراقيين يرفضون انتماءهم إلى سورية أو العراق ولا يريدون أن يروهما إلاّ خرائبَ وأنقاضاً.

لكن، أيُّها «المعلّم»، أليس من المُرعب القاتل، في مستوى آخر، ألاّ تكون سورية «تغيّرت» منذ نحو خمسة عشر قرناً؟

وما يُقال عن سورية، يُقال كذلك عن العراق: سلطة ذات بنية خلافية عثمانية، ذات أسس قبليّة– عشائريّة– مذهبية.

– 10 –

«ما لجرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ»، يقول المتنبّي.

«وسوى الرّوم خلفَ ظهرِكَ رومٌ،

فعلى أيِّ جانبيكَ تميلُ»؟

يقول المتنبّي أيضاً.

– 11 –

« الآخر هو أنا»: تلك هي، كما يبدو، حكمةُ «المعلّم العربيّ». وترجمتها هنا، خلافاً لأصلها الصّوفيّ: «أنا» ليست أيّ شيء إلاّ ما يريده «الآخر».

– 12 –

على أولئك الذين سيقترحون دستوراً لسورية المُقبِلة أن يتذكّروا هذه الوقائع، المأخوذة من «القمّة العالمية للحكومات « في دُبَي، بين 12 و14 شباط (فبراير) 2017، وضمّت جلساتُها على مدى ثلاثة أيام (150) مئةً وخمسين متحدِّثاً في 114 جلسة، حضرَتْها أكثر من أربعة آلاف (4000) شخصيّة إقليمية وعالمية من مئة وثمانية وثلاثين دولة (138).

هذه الوقائع – الحقائق هي الآتية:

1 – 57 مليون عربيّ لا يعرفون القراءة والكتابة.

2 – 5.13 مليون طفل عربيّ لم يلتحقوا بالمدارس هذا العام.

3 – 30 مليون عربي يعيشون تحت خطّ الفقر.

4 – 8 في المئة زيادة في معدلات الفقر في العامين الأخيرين.

5 – تريليون دولار كلفة الفساد في المنطقة العربية.

6 – خمس دول عربية في قائمة الدّوَل العشر الأكثر فساداً في العالم.

7 – على رغم أنّ العالم العربيّ يمثّل خمسة بالمئة من سكّان العالم، فهو يعاني 45 في المئة من الهجمات الإرهابيّة عالميّاً.

8 – 75 في المئة من لاجئي العالم، عرب.

9 – 68 في المئة من وفيات الحروب عالميّاً عرب.

10 – 20 ألف كتاب فقط ينتجها العالم العربيّ سنويّاً، أي أقلّ من دولة صغيرة مثل رومانيا.

11 – 410 مليون عربيّ لديهم 2900 براءة اختراع فقط، بينما 50 مليون كوري لديهم 20201 (عشرون ألف ومئتان وواحد) براءة اختراع!

12 – من عام 2011 حتى 2017 تشريد 14 مليون عربيّ.

13 – من عام 2011 حتى 2017 خسائر بشرية تصل إلى 4.1 مليون قتيل وجريح عربيّ.

14 – خسائر «الربيع العربيّ»: 833.7 مليار دولار.

15 – الخسائر التي لا يمكن تقديرها بثمن مادّيّ، ولا يمكن تعويضها، هي الخسائر المعنويّة الحضاريّة التي تدلّ على التوحُّش والبربريّة: تدمير الإبداعات البشريّة، وسرقة المتاحف، ووضع النساء في أقفاص وبيعهنّ بوصفهنّ ملكاً، وذبح البشر، و «اغتيال» الأطفال جنسيّاً…

مع هذه « الوقائع « كلّها، لا يزال الشغل الشّاغل للعرب هو أن يسأل أحدهم الآخر: أنت سنّيّ أم شيعيّ؟ مسيحيّ أم مسلم؟

وسؤالي الشّخصيّ لأصحاب «البلاغة القوميّة» في ضوء هذه العجالة الإحصائيّة، وفي ضوء التاريخ العربيّ الحديث، منذ سقوط الخلافة في شكلها العثمانيّ:

هل ما يعيشه العرب، اليوم، في مختلف الميادين، دلائل تقدُّم، أم دلائل تخلُّف؟ أهو علامات صُعودٍ، أم علامات انقراض؟

– 13 –

شكراً لكَ، أنتَ، أيّها الغريبُ الذي فيَّ، أنت مَن يعلّمني كيف أعرف نفسي، وكيف أكون صادِقاً معها. أنتَ مَن يؤكِّد لي حاجتي الكيانيّة إلى صخرة سيزيف، التي تؤكِّد هي أيضاً أنّ الإنسانَ لا يستطيع أن يبتكر أيّةَ صورةٍ لأيّةِ نجمةٍ إذا لم يتدحرَج مثلها على جبل المعنى.

شكراً، أنتَ مَن يقول لي دائماً: إحذَر من أن تتوقّف أو تقيم في أيّة ذروة. في الذّروة أكثرُ من موتٍ لأكثرَ من حياة. والذّروات أسافِلُ أيضاً في سلالمَ تلامِسُ آخرَ ما تكتنز به أحشاءُ الكون ومحيطاتُه.
________

*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *