القاصة والروائية الإماراتية فاطمة الناهض تكتب نصوصها بروية واتقان، تعمل على رسم شخصياتها ضمن حبكات متعددة ومركبة تستدعي من القارئ التركيز حتى الصفحة الأخيرة، بل الجملة الأخيرة التي تختتم بها مفاجأتها غير التقليدية، تهب القارئ أكثر من رؤية يستشفها من النسيج الدرامي للعمل الذي يأتي عادة هادئاً وعميقاً في ذات الوقت، يتوغل في الوجدان ليصوغ فكراً جديداً، أو نظرة مغايرة للمألوف، وهذا من أهم مستلزمات الأدب الجاد.
في روايتها الجديدة “بيت البحر” يلتج الموج السردي داخل ذلك البيت متميز الموقع، مرآة للبحر الشاسع بكل ما يخفي من أسرار وحكايات، تمتزج حيناً ثم تتباعد حيناً آخر، في حركة مدٍ وجزر انساني، لا تمضي طبعاً في وتيرة واحدة، تترصدها الكاتبة عن كثب، متأملة ردود الأفعال المرتكزة في تفاوتها على الأبعاد السيكولوجية للشخصيات الباحثة عن جوهر الانتماء الحقيقي بعد تجوال طويل بين الأوطان والأقدار الغامضة والغضبى، تلك الشخصيات تتشبث بفرصة الحصول على البيت الذي بني أصلاً كرمز للانتماء، انتماء العائلة الصغيرة إلى أرضٍ وحاضر ومستقبل في بلاد بعيدة ومختلفة الأجواء المناخية والثقافية والاجتماعية، لكنها تحتضن كل الجنسيات والأعراق والأصول التي قد تتلاشى من الذاكرة جيلاً بعد جيل تحت وطأة الزمن.
مفردة (الانتماء) تحيلنا عادة إلى حب الوطن وتمجيده، والحنين إليه عندما تطول بنا الغربة وتقبض قسوتها على مصائرنا، لكن الرواية هنا تفجِّر العديد من التساؤلات الوجودية التي تطرحها علينا الحياة باستمرار، من خلال شخصيات تعيش عدة أعمار من الغربة على اختلاف أشكالها، تتكشف خباياها على امتداد فصول الرواية، المتجاوزة ذكر أغلب الأماكن، كما تتجاوز حاجز اللهجة واللغة لتصهر أحلام تلك الشخصيات وضياعها ورغباتها وتحولاتها في بودقة واحدة، تشير إلى جدلية فكرية قد لا يجد الكثيرون لها إجابة محددة، إلا في نهاية رحلاتهم الحياتية، ربما، وقد يخلفون تلك الحيرة لأولادهم من بعدهم، وهذا ما يدركه القارئ من خلال الشخصيات النسائية المحورية خاصة، عبر حكايات تتجاذب فيما بينها، ترفد إحداها الأخرى، تمضي في مسارات متوازية، بأسلوبٍ يميل إلى التكثيف دون إهمال التفاصيل التي تصقل وحدة النص، تنتهي لتنبثق مجدداً من ذلك البيت ـ شبه المنعزل عن صخب المدينة، وكل مدينة ـ الذي يشد الانتباه ولو عن بعد، بطرازه المعماري الحديث، مع حفاظه على الأصالة، كما لو أنه صورة مصغرة للبلاد المشار إليها، بالتلميح لا بالتصريح ـ ليكون سبيل الخروج من الحلقات المفرغة ومفترقات الطرق غير المنتهية، ولو من خلال الرغبة بيعه بالنسبة لمالكة الدار غير المهتمة بالحصول على أعلى سعر بقدر اهتمامها بانتقاء من يستحق الحصول على موطن أهم مرحلة من ذاتها.
ذلك البيت الذي تم إعادة بناء جزء منه في فترة سابقة، يعيد تشكيل الشخصيات كي تستطيع امتلاك القدرة على الاختيار الحر، بعيداً عن القيود الاجتماعية والأسرية، أو حتى الارتداد إلى الماضي لرؤيته بصورة مغايرة وفق المستجدات التي تعيشها كل من جنى ومها وأمل على وجه الخصوص، لعل أكثر ما جمعهنَّ في “قطار الحياة” هوة الانتماء والبحث عن الكينونة، الوجدانية والعائلية، التي تحدد بدورها مساراً جديداً لتلك الشخصيات، يفاجئن به أنفسهن قبل غيرهنّ، باحثات عن الاستقرار النفسي الذي لا ينفرنّ به بعد حين بحكم متغيرات جديدة تقود لتمردٍ آخر، وإن كان بمنأى عن “بيت البحر”.
أما الكاتبة فاطمة الناهض فلا تنفك عن التمرد عند كتابة كل نص يضيف الكثير إلى مسيرتها الأدبية التي تمضي فيها بوعي طموح نحو المزيد من التميز.