الرواية المخابراتية إبداع مستمر وإهمال نقدي

*حنان عقيل

في كتابه الصادر مطلع هذا العام عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر بعنوان “الرواية المخابراتية في الأدب العربي الحديث”، يستعرض عادل نيل، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر، عوامل نشأة الرواية المخابراتية في الأدب الحديث ودور الصراع العربي الإسرائيلي في ترسيخ ذلك الاتجاه لدى روائيين عرب، مستعرضًا المفاهيم الملتبسة التي ارتبطت بذلك النمط الأدبي والتي تمثل كثير منها في الخلط بينه وبين ألوان روائية أخرى.

يُبين نيل في كتابه أن الرواية المخابراتية عمل فني تقوم فكرته الأساسية على صراع معلوماتي بين طرفين يمثلان دولتين أو أكثر، ويستند غالبًا إلى حقائق واقعية وتتداخل فيه الأبعاد الإنسانية التي تجسّدها حركة الشخصيات معتمدا على وسائل سردية لتوفير عوامل الإثارة والتشويق والترقب، وتجاوز الطابع الوثائقي الذي تعتمد عليه طبيعة تلك النصوص من حيث اعتماد أحداثه على استقصاء معلوماتي له مآربه التي تتجاوز التعبير عن نوازع وتصرفات فردية.

يرى نيل أن مصطلح أدب الجاسوسية ورغم أنه يحمل نفس المعنى لأدب المخابراتية إلا أن الأخير به قدر أكبر من الدقة لأنه يفصح عن المحور الأساسي في أحداث هذا النوع من الروايات وهو الأجهزة الاستخباراتية فيما لا يقدم مصطلح أدب الجاسوسية تعبيرًا عن الطرف الآخر في الصراع.

اعتماد الرواية المخابراتية في جلّ الأعمال على حقائق وأحداث واقعية تحمل أبعادا توثيقية كان سببًا في رفض بعض النقاد الاعتراف بفنيته، إلا أن الكاتب ينوّه بأن اتجاهات الرواية تتفق في سرد أحداث بطرائق مختلفة وأنماط متعددة من الشخصيات وتختلف في الاعتماد على صراع درامي دون غيره، تتنوع وفقًا له تلك الاتجاهات بين رواية رومانسية أو اجتماعية أو سياسية أو تاريخية أو غير ذلك؛ إذ تلتقي الرواية المخابراتية مع اتجاهات روائية أخرى تأتي في مقدمتها الرواية التاريخية استنادًا إلى أنها تسجيل لأحداث ووقائع التاريخ، كما تتلاقى مع الرواية السياسية في بعض الأحداث التي تصوّر حركات التحرر والصراع مع قوى الاستعمار. كما أن جانبًا منها يلتقي مع الاتجاه العاطفي في تصويرها لجوانب إنسانية من حياة أبطال الرواية.

النشأة

جاءت الرواية المخابراتية في الأدب العربي استجابة لتغيرات ومستجدات الواقع العربي وما أرسته تلك التطورات من عوامل تطور الفن الروائي. ويمكن رصد بدايات التوجه نحو ذلك النمط الأدبي مع بدايات الصراع العربي الإسرائيلي الذي برز فيه النشاط الصهيوني في مجال الاستخبارات ودور المخابرات الإسرائيلية الذي تم تعزيزه لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية.

ومع الهزيمة العربية في فلسطين عام 1948 ثم نكسة يونيو/حزيران 1967 وما أرساه ذلك الانهزام في العالم العربي من هزيمة نفسية. كان الأدب صورة من ذلك الانهزام النفسي والخوار المعنوي الذي اختلفت وجوه وأشكال التأثر به؛ فبينما آثر فريق من المبدعين العودة إلى أحضان الريف والقرى فيما يكتبونه، آثر فريق آخر من الكُتّاب أن يعرّي عوامل الزيف والهزيمة التي أوصلت المجتمعات العربية إلى هذه الحال، من جهة أخرى ظهر نمط من الكتابات تحاول إعادة الثقة في الشخصية العربية بإبراز دور أجهزة المخابرات وجهودهم في الحرب ضد القوى الاستعمارية.

يرصد الكاتب في بحثه أوائل الأعمال التي ظهرت في هذا الاتجاه الأخير محور البحث، فكتاب “قصتي مع الجاسوس” الذي نُشر عام 1970 للكاتب ماهر عبدالحميد، وهو أحد الضباط في القوات المسلحة المصرية، يعدّ من أوّل الأعمال في الأدب المخابراتي؛ إذ توالت أعماله في نفس الاتجاه فيما بعد بعدد من الأعمال منها “كنت صديقًا لديان” و”جاسوس فوق البحر الأحمر”.

ويرى نيل أن نجاح عبدالحميد في ريادة هذا اللون الأدبي جاءت لاعتماده على تجاربه الفعلية من واقع عمله وقدرته على توظيف أدواته الفنية لإبراز معالم السرد في أعماله الأدبية، كما أن طبيعة المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها تلك الأعمال كان فيها المتلقي على استعداد ورغبة في الاستجابة لمرامي وأهداف هذا اللون الأدبي.

تابع الريادة في هذا اللون الأدبي فيما بعد الأديب المصري صالح مرسي الذي ساهم في إحداث نقلة نوعية للرواية المخابراتية، ونشر عددًا من الأعمال التي ساهمت في ترسيخ هذا النمط الروائي بداية من مجموعته القصصية “الصعود إلى الهاوية” عام 1976 التي تتناول الصراع بين المخابرات المصرية والموساد، مرورًا برواية “الحفار”، ثم الروايات ذات الأجزاء المتعددة، والتي كان لها نصيب وافر من اهتمام الدراما ومنها “رأفت الهجان: كنت جاسوسًا في إسرائيل”، و”سامية فهمي”، انتهاءً بروايته “دموع في عيون وقحة” عام 1993.

حققت أعمال رائد أدب الجاسوسية صالح مرسي ذيوعًا واهتمامًا كبيرين، لتظهر فيما بعد كتابات نبيل فاروق في الاتجاه ذاته، إذ ساهم في مزيد من الشيوع لأدب الجاسوسية عبر أعماله المتعددة ومن أبرزها سلسلة “رجل المستحيل” و”حرب الجواسيس”. وتبع أعمال فاروق عدد من الكتابات المتفرقة، كما يرصد نيل، ومنها رواية “جاسوس” للكاتب عبدالله يسري عام 2008، ورواية “الثعبان” للكاتب إلهامي راشد التي كتبها من نسج خياله وليس اعتمادًا على أحداث حقيقية.

ينوّه الكاتب بأن ذلك النمط الروائي وعلى الرغم من ريادة ماهر عبدالحميد إلا أنه ينسب بشكل كامل في البيبلوجرافيات إلى صالح مرسي الذي كانت كتاباته أكثر انتشارًا وأكثر قبولًا من قبل النقاد. كما أن خطاب الروايات المخابراتية السردية تأثر من جهة بالتكوين المعرفي للعسكريين الذين اعتمدوا على حشد قدر كبير من المعلومات العسكرية من واقع عملهم، ومن جهة أخرى لم ينقطع هذا اللون الكتابي بانتهاء الصراعات العسكرية، فمع خفوت هذا اللون في الغرب بانتهاء الحرب الباردة وتغير الأوضاع السياسية ظلت الرواية المخابراتية حاضرة في الأدب العربي حتى مع انتهاء الظروف التي ولدت فيها.

رواية قضية

تحمل الرواية المخابراتية أهمية استثنائية لما ينسب ويلقى على كاهلها من مهام وطنية أو قومية تتعلق بأهميتها في تعميق الهوية العربية وتعزيز الشعور بالذات في مواجهة الآخر؛ فالباعث الوطني في ذلك اللون الأدبي أحد أهم عناصر تكوينها وقد تسهم في إحداث هزيمة نفسية للأعداء مع وصولها إليهم، فضلًا عن قدرتها على سرد أحداث الماضي وإبراز حقائق التاريخ وصراعاته، إذ أن أحداثها المستقاة من الواقع تعدّ تأريخًا لمراحل من الصراع بين الأمة العربية ومقوّمات وحدتها، حسب ما يؤكد نيل في دراسته.

يرى الكاتب أن ثمة عوامل ساهمت في محدودية انتشار الرواية المخابراتية مقارنة بغيرها من الألوان الإبداعية، ومنها صعوبة الحصول على المعلومات اللازمة لبناء القصة في الرواية لما يفرض من سياج وسرية على العمل المخابراتي يحول دون وجود معلومات كافية لقصص أكثر ثراء من جهة، ومن جهة أخرى ثمة إهمال نقدي لهذا اللون الأدبي جاء نتيجة اعتقاد البعض من النقاد أنه يفتقر لمقوّمات الإبداع والخيال باعتماده على أحداث حقيقية على الأرجح، كما أن طبيعة الصراع في تلك الأعمال يفرض تكرار الشخصيات وإطارا فنيا محدودا للشخصيات والنتائج المتوقعة في العمل.

هذه المحدودية في الاهتمام النقدي بالرواية المخابراتية يقابلها ذيوع وانتشار واسع لها في الدراما والسينما اللتين اهتمتا بتحويل جلّ هذه الكتابات إلى أعمال تلفزيونية استأثرت باهتمام المشاهدين وساهمت في نقل النص الأدبي إلى العوام؛ إذ جاءت البداية بمجموعة صالح مرسي “الصعود إلى الهاوية” التي تحولت إلى فيلم عام 1978، ثم في الدراما ظهر عدد من الأعمال منها “دموع في عيون وقحة”، و”رأفت الهجان”، و”سامية فهمي” الذي ظهر في الدراما عام 2009 بعنوان “حرب الجواسيس”. فضلًا عن أعمال أخرى للكاتب إبراهيم مسعود منها “إعدام ميت” و”بئر الخيانة” و”فخ الجواسيس” ليتوالى اهتمام الدراما بالنصوص المخابراتية في عدد من الأعمال الأخرى.

يتفق الباحثون على أن ثمة وشائج تربط ما بين الرواية المخابراتية والبوليسية تنبع من اعتبار الرواية المخابراتية فرعًا من فروع الرواية البوليسية التي يرى الناقد محمود قاسم في كتابه “رواية التجسس والصراع العربي الإسرائيلي” أنها “نوع أدبي أُمّ للعديد من الأنواع الأدبية التي ازدهرت في القرن العشرين، وانبثقت منها رواية التجسس”.

يلتقي النمطان في طبيعة الحبكة الدرامية من حيث الغموض والاعتماد على عناصر الإثارة والتشويق والمغامرة، إلا أن ثمة نقاط اختلاف جوهرية بين النمطين، يوجزها الباحث في عدد من النقاط؛ فالرواية البوليسية تعتمد على الخيال في تكوين أحداثها فيما تعتمد الرواية المخابراتية في أغلب الأعمال على حقائق وشخصيات واقعية ووثائق مثبتة.

كما أن الصراع في الرواية البوليسية يتعلق بارتكاب جريمة في حق جماعة أو فرد بينما في الرواية المخابراتية يتعلق بأمن الوطن، ويظل العنف بطلًا رئيسيًا في الرواية البوليسية بينما نظيرتها المخابراتية تعتمد بشكل أكبر على القدرات الذهنية أكثر من القدرة البدنية.

يوضح نيل أن الرواية البوليسية يمكن النظر إليها باعتبارها رواية اجتماعية بمقاربتها لقضايا الجريمة والفساد وغيره، بينما لا تهتم الرواية المخابراتية برصد الواقع الاجتماعي، أيضًا ثمة بواعث مختلفة تقف وراء البوليسية التي تبدي اهتمامًا أكبر بالبواعث الإجرامية.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *