الدلالات اللغوية وقصيدة النثر…الشاعرة ميادة العاني أنموذجاً

خاص- ثقافات

*داود سلمان الشويلي

تعرف “سوزان برنار” قصيدة النثر بقولها: هي “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور… خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية”. ولقصيدة النثر تاريخ طويل، منذ أن كتب فيها في الشعر الفرنسي، ثم الشعر العربي (في ستينات القرن الماضي) ودور مجلة شعر في ذلك، وكتابها أدونيس، أنسي الحاج، محمد الماغوط، … وغيرهم، حتى كان لها كتّاب من العراق في تسعينات القرن الماضي، هذا التاريخ ضم الكثير من الشعراء، وجلهم استسهل كتابتها إلا انه فشل في ذلك ، لأنها- أي قصيدة النثر – تحتاج الى شاعر مقتدر في إنتاجها، وليست هي عبارة عن كتابة نثر فقط . إن الذين أجادوا في إنتاج هكذا قصيدة هم قلائل، لأنها تتطلب تقنية وأسلوباً ولغة تختلف عما في الشعر العربي القديم والحديث “العمودي وشعر التفعيلة”، هذه التقنية جديدة على كتابها، وأسلوب جديد مغاير لما كان عليه في الشعر المخالف لقصيدة النثر، ولغة جديدة غير اللغة التي كانت تكتب بها القصيدة التي سبقت قصيدة النثر. لقصيدة النثر إيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية، والتي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها، والحالة العامة للقصيدة. يقول أنسي الحاج – أحد أهم شعراء قصيدة النثر العربية إن لم يكن أهمهم – عن شروط قصيدة النثر: “لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الايجاز والتوهج والمجانية”.
إذن يمكن القول إن قصيدة النثر لها سمات منها:
– التحرر من نظام العروض الفراهيدي، ان كان في شعر البناء العمودي، أو كان في شعر التفعيلة.
– إن المادة الأساسية لها هو النثر، وإذا كان من صفات النثر – بصورة عامة – هو الاسترسال والإطناب والشرح، فانه في الشعر يستخدم لأغراض فنية – جمالية مغادرا تلك الصفات.
– خالية من التقطيع بين الأبيات.
– ليس لها موسيقى يمكن الإحساس بها بصورة منفردة. إلا أن جماليتها تأتي من كونها:
– الإرادة الواعية للنظام في قصيده النثر.
– تنبع من وعي متقدم بنثرية الشعر.
– بنية الفقرة و الجملة التي تسحب القارئ حتى ينهي قراءتها.
– التبادل الوظيفي للحواس يدفع بوعي القارئ الى الاشتغال لما يوحيه الشعر من صور.
– غرائبية الصورة التي يبنيها هذا الشعر.
– الإيجاز والتكثيف في الشعور، والأحاسيس واللغة والصورة الشعرية والرؤى، والمكان والزمان.
– الشكل الإيقاعي ووحدته كمنجز إبداعي يعطي للقصيدة وزنها .
إن ما تريد ان تقوله القصيدة النثرية ليس مخططا له وإنما هو غرض جمالي فني حسب .
ان تلك الصفات والسمات غير قارة، وإنما متغيرة دائما ، لمنح قصيدة النثر جماليتها وأسس بقائها لتنقل للآخر المستمع أو القارئ ما يجيش في صدور الشعراء من مشاعر وأحاسيس.
***
وإذا كانت جل ما تقدمه لنا قصيدة النثر لتكون شعرا، هو ما قلناه في السطور السابقة، فهي – القصيدة – عند الشاعرة ميادة العاني تبنى على تقنية تتطلب المفارقة، إن كانت هذه المفارقة في الرؤية، أو الفكرة، أو اللغة. والشعر الذي سنبحث عنه يقف في منطقة وسطى حرجة بين الشعر والنثر، الشعر ما يمتلكه من نبع صاف من المشاعر والأحاسيس ، فضلا عن الوزن والقافية – إلى حد ما – ، والإيقاع ، واللغة التي توصف بأنها شعرية، من خلال التكثيف، والصور الشعرية النابضة بالحياة، يقابله النثر بما له من استرسال، وإطناب، وإبلاغ، والسؤال: ما الذي يجعل النثر شعرا؟ هذا ما سنجد بعضه في شعر النثر الذي ستدرسه هذه السطور . الدلالات اللغوية لها تأثير كبير في بناء قصيدة النثر، فلا يمكن ان نطلق هذه التسمية على أي نثر ما، وإنما على الشعر الغني بالدلالات اللغوية التي تتولد في القصيدة. والدلالات اللغوية عند العاني تأخذ مناحي عدة، حيث استطاعت أن تكيف مفرداتها مع السياقات الفكرية التي تنطلق منها ،وهي ذات سعة في مضامينها المعنوية فتتوسع الدلالة بحسب المعنى المراد منه.
وكما أسلفنا، فالدلالة تأخذ معاني كثيرة، منها:
– ما يحول المحسوس إلى اللا محسوس، لتوحي الصورة المنتجة بما اكتنزته من دلالات:
* وأدتني رغبتي ..
خلعت عني أسمال أنوثة رثة..
وأنا أدور رحىً في جبين الفراغ.
أتسلق هذياني ..
واتكئ إلى مرفق السراب
والحلم إلى واقع.
فهناك الوأد والرغبة، الوأد فعل والرغبة شعور، الوأد شيء محسوس ، والرغبة غير محسوس ، وهناك أسمال وأنوثة، محسوس وغير محسوس.
وكذلك:
* عدت لأتسلق هذياني ..
أشرت بيدي
نحو قمة هرم الشمس ..
فلا رأيت الشمس,
ولا عادت يدي.
* القي عليك يمين القلق
فتعجل .. أيها الشاعر
بسكب لعنتك على القوافي
بقصائد ممنوعة من الشعر
فساقيك قد هرم
وكثبان روحك تداول ضجيجها
– تحويل المرئي إلى اللا مرئي في قصيدة النثر ، والقصيدة التي تكتبها العاني ممتلئة بهذا التحويل:
* من يطلق سراحها ؟
كل تلك الفوضى المشتعلة في سماواتي
كم أشفق عليها
وهي تدعوني بصمت
وأنا على مقربة
أمنية منها أو أقل
من يبتاع ينابيع دهشتها ؟
من يحمل عنها صباحاتها
الهاربة من أجنحتها؟
– لغة الشاعرة ثرية – شكلاً ودلالة- من حيث صياغة الجملة الشعرية، ودلالة المعنى، فتات قصيدتها عميقة في الدلالات، وثرية باللغة:
* على جنبات العتمة
يقايضون الياسمين
وحبات العنب
يتربصون خيوط فجر بعيد
ليطلقوا عليه رصاصات الخوف
إنهم أولئك المفزوعون
بأوهامهم
– وقصيدتها تتحرك ضمن عالم الصور الغرائبية، تدهش المتلقي، لكن هذه الدهشة لم تكن متأتية من غرائبية الأفكار أو اللغة، إنها غرائبية الصورة وهي ترسم في القصيدة .
ان الغرائبية هذه تنسج من الألفاظ، لتبني لها صورتها، فتأت بحضور يبهج المتلقي:
* تسللَت نحو فضاءات خوفي ..
كل ذؤابات النهار ..
بمفازات ضجيج
يعج بالبكاء ..
لفظتني,
– التكثيف في الصورة يأخذ أبعادا كثيرة في توليد المعنى عند الملقي:
* ناحت عند راسي فجيعتي,
ألقت بخطواتي إلى الظل
ورمتني من شرفة الصراخ.
أسرق نذورا برائحة الرحيل
أمررها نحو فضاءات معطلة ..
أتهيأ لسفر ممنوع ..
أسرق بقاياي المتعفنة ..
أمنحُ لي ما تبقى
من حزن مبلل بالطين,
وكسرة مساءٍ عبق..
ياااه!!
***
ومن بين موضوعات الشاعرة التي تناولتها قصائدها موضوعة الموت.
وبين الحياة والموت/ النسيان تقف القصائد لتنهض بالحياة، تقول:
لتكن بك الحروف
قصائدا تستحق الحياة
فغدا!!
سيرجمنا الموت بالنسيان
***
وعن الوطن تقول:
* أسفي عليك وطني
قد كنت على موعد مع الانكسار
***
وعن الحب تقول :
* ربما
في أمنية ما
يزدحم وجودك
…. يخترق لحظاتي
فأسافر معك
إلى أقصى التورط
بالاعتراف
وأتشرد بك
دون مدار
***
وعن الآخر تقول:
* لك كل القرارات
ولصوتي رأس
تندلق منه
نقائض زمن
فر من عقاربه
– في ومضة لها تقول:
* وحدك حين ترحل .. يسافر الغيم في دربك
هذه الومضة الشعرية تختزل موروثاً إسلامياً فيها، حيث ينثال هذا الموروث في وعي المتلقي، وهو ما ذكرته الأدبيات الإسلامية في أن النبي محمد قبل البعثة سافر إلى الشام مع عمه وهناك كانت غيمة ترافقه من فوق رأسه.
ما أجمل أن يكون الشعر مسببا لانثيال الصور والحكايات والأساطير.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *