*واسيني الأعرج
هل تستطيع الرواية أن يستوعب ما نراه اليوم ونعيشه من هزات عنيفة، غير مسبوقة؟ أليست الرواية اليوم، فوق كونها حالة جمالية، وبنية فنية، هي سؤال يعنينا كما يعني بعمق، عالما قادما أو مستمرا بلا قطيعة، ظل يحفر بصمت في الوجدان العربي، حتى انتصر، انتصار الماضي المريض بدينه المفسر بشكل مرضي، وتأريخه وثقافته، على حاضر جريح وضائع وبلا وجهة؟ يسير من دوننا، غير آبه بما يحدث لنا.
نحن سادة مصير رهناه بجهلنا وتخلفنا الذهني. زمن شكل أيقونة للكتاب بامتياز لأنهم حاربوه ويحاربونه حتى النفس الأخير. دفعهم الثمن باهظا كما يحدث عادة للذين يسبقون مجتمعاتهم بمسافة. مع أنه لا مستحيل. المسألة تحتاج إلى تبصر عميق، إلى حسم التناقضات الداخلية والتمزقات. الكتاب الكبار عالميا لا يمكنهم أن يبقوا على الهامش كأن شيئا لم يحدث، ولكنهم رمت بأنفسهم في عمق الدوامة التي قالتها رواياتهم بقوة لدرجة الدوار. يبدو أن الزمن الذي يفصلنا عن بعض أحداث الماضي، عن رواد الحداثة، ليس زمنا سهلا، ولا قليلا، لكنه شديد القسوة، قرابة القرن، وهذا يعطينا حق المساءلة. ما الذي تغير فينا وفي محيطنا الذي يحدد حركتنا وشرطيتنا، إذ من خلال ذلك يمكننا أن نقيس وضع المرأة مثلا التي هي عصب أساسي في تطورنا أو تخلفنا، وفي لحظتنا المعاشة. المسألة ليست تأريخية فقط أو خيارا مزاجيا من أجل استنهاض موضوع جديد للكتابة الروائية. الكتابة عن المرأة يصنعها أولا في أفق الحاضر كقضية إنسانية، وما أكثرها القضايا التي كانت فيها المرأة ضحية مثالية لتثبيت سلطة ذكورية مهزومة في جوهرها. قد تكون أيضا مطية لمناقشة مسار بكامله قطعته المجتمعات العربية وهي تركض بلا هوادة من دون القدرة على الخروج من النفق المظلم الذي كلما قطعنا مسافة أدركنا أن الظلمة تزداد سوادا. عندما نلامس الوضع عن قرب، سنكتشف، من مجرد الموازنة البسيطة، أن لا شيء تغير، بل إن المخاطر ضد المرأة تزداد ضراوة بدفنها من جديد في الأغلفة الرمزية التي تمسحها نهائيا من عن الوجود وتحولها إلى ظل هارب، بحيث لا وظيفة لها إلا إسعاد ذكورة مهزومة لم يعد لها ما تفخر به، تحول سيفها البتار التأريخي المدافع، كيفما كانت قبليته ومجدوديتها، عن القيم المجتمعية والأخلاقية، إلى لعبة من لعب ستار وورز star wars المعشقة بأنوار التكنولوجية الجديدة واللايزر. فقد أصبحت هذه الذكورة تحت وصاية أكبر منهت، التخلف المضمر أو الظاهر، والمجنح الذي اخترق كل الحدود العربية بلا أي مانع.
مهما انتقدنا الزمن الماضي، تظل الحالة النسائية حالة تراجيدية. كانت المرأة في بدايات القرن العشرين فقط، بوابة الحداثة، تملك تصورا محددا لما يجب فعله، ورهاناتها كلها تتم داخل عصر متحرك منحها فرصة التثقف والعلم. برغم أن هذا العصر لم يرتق في فكره وينظر لها كحالة ثقافية طبيعية لأن الذكاء ليس حكرا على الذكورة. التخلص من المرأة المتعلمة والذكية لا يمكن فهمه إلا وفق رؤى أنثروبولوجية وتأريخية. منظور التخلص، عن وعي، أو عن تخلف متراكم مبطن، من حالة منافسة يجب أن ينتهي وجودها لأنها ستعيد تركيب الأشياء ومنها إعادة النظر في سياقات استقرت حتى أصبحت حقيقة مطلقة، وأحيانا دينا أو شبيهه في القداسة. وهذا ما يقربنا من حالة ثورية مضادة للمعتاد واليقيني. فتصبح الكتابة الروائية عنها ليست خيارا فنيا فقط، لكن ضرورة تأريخية. المجتمع المتماوج الذي تعيش فيه هذه المرأة لا يدفع بها مطلقا إلى الأمام. يصبح التخييل الروائي وسيلة لافتراض ما لم يعد اليوم موجودا. لم يعد شارعنا يدهش بعودته إلى الماضي القاسي على المرأة بالخصوص. فكرة من كل بستان زهرة، أي نظرية الاحتفاظ بالماضي من دون إخضاعه للمنظور النقدي، لم تعد مفيدة ولا مغذية للإبداع. الحداثة خيار لا يقبل القسمة: النقد والقطيعة، وإلا سيظل الإنسان يدور في حلقة واحدة لا تفضي إلا إلى الفراغ. أوروبا في مشروعها الحداثي وتبعتها آسيا وبعض دول أفريقيا، لم يكن أمامها إلا خيار: القبول بكل الكسورات وتحديد الخيارات نهائيا والعمل عليها وعلى تطويرها وتحرير العقل. قد يبدو الأمر سهلا لغويا، لكنه أعمق، وربما أخطر لأنه قد تنجم عنه حروب أهلية قاسية. لكن الذي نعيشه اليوم عربيا من حروب مفجعة ليس إلا إخفاقات هذه الحداثة التي لم تصنع خصوصيتها العربية. والغريب أن الكثير من الدول الإسلامية بالخصوص في آسيا عرفت مسلكا غير مسلك الدول العربية الإسلامية، وخطت خطوات في صلب الحداثة والحكامة ما دفع بها إلى مواجهة الحداثة بقوة والخروج في الكثير من نماذجها من دائرة التخلف حتى أنها أصبحت مساهِمة في الحضارة العالمية. الإسلام ليس مناهضا للحداثة في جوهره، ربما كان الخلل في موقع الدين اجتماعيا، ونظمنا العربية التي هي خليط من القدامة المتحجرة والأحلام المهزومة، وتأويل الدين وفق الحاجة، ووفق كل ما يرجع المجتمعات العربية خطوات إلى الوراء. نسعد كثيرا بأن عدد المثقفات كبير، واتسعت قاعدته، وأن التعليم أصبح إجباريا على الكل وشمل عموما الجميع، ذكورا وإناثا. وهو ما ناضلت الأجيال من أجله لدرجة أن جلب لها ذلك الكثير من العداوات، من المؤسسات الدينية أو الاجتماعية، فاتهمت بتغريب المجتمع العربي عن دينه وتأريخه. لكن هذا التعليم المعمم للمرأة لم يفد كثيرا في تغيير الأوضاع الاجتماعية. سنكتشف بسرعة أننا أمام مجتمع يعيش حالة انفصام حقيقية. كل المنجزات تظل وظيفية ولا تعمل فينا أي شيء، لأنها تظل قيما منفصلة غير فاعلة فينا. أسعد بالحياة بسبب مكاسب التحديث، لكن كلما تعلق بزوجتي أو ابنتي أو حلقتي النسائية، سأصبح أكثر تخلفا مليئا بالشكوك، وأعيد إلى الواجهة الأفكار التي يفترض أنها انتهت كفاعلية. مع الزمن أصبحت الشيزوفرينيا حالة عادية. غير مزعجة. فأنا الاثنان معا. أكون أنا الحداثة عندما أجدني في سياقها وأفيد منها. أنا القدامة المغلقة عندما أجدني فيها حسب الحاجة. فيّ المفتي المغلق والرجل المتحرر. يلتقيان عن بعد. يريان بعضهما لكن لكل واحد ظرفيته فلا اصطدام.
وهذا أخطر شيء لأنه يعطي للإنسان راحة لا تجعله يتقدم لأنه لا يعيد النظر في نفسه. هذه النفس الكاملة والمرتاحة في تخلفها. كيف تعبر الرواية عن هذا كله بصفاء وشجاعة قد يكون ثمنها باهظا وكبيرا. المرأة مقياس حرارة، به نلمس ما يتخفى وراء المشهد المظلل في عمومه ويخاف من الصور الحقيقية. يمكن أن تقتل لأنك تكتب، لأنك تفكر. قد تكون ضحية الجهل الذي قد يحرمك من حريتك، أو حتى من حياتك لأن القاتل قرر، في سياق جهله وتخلفه، أنك مخالف للدين ومفسد للمجتمع. الرواية حرية. وهذه الحرية مساحة مهمة لقول الحقيقة الكبرى، حقيقة الذات. وحدها الرواية باتساع مساحتها التعبيرية يمكنها أن تستعيد المرأة كمحظور، بلا مساحيق ولا خوف أيضا.