الشائع أننا نعيش في عصر السرعة. لا يكاد الإنسان يلتقط أنفاسه حتى تداهمه قاطرة الزمن التي لا تتوقف. المغزى، على صعيد الثقافة والفكر، أن إنسان هذا العصر لم يعد يمتلك فضاءً زمنياً/ مكانياً كافياً ليتابع فيه التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، أو لم تعد مشاغله تمنحه فرصة التمعن والتأمل حتى في ما بين يديه. أقرب صورة لهذه الوضعية هي انتشار الكتب والمقالات والتعليقات السريعة، الموجزة والقصيرة، ورسائل الهواتف النقالة المختصرة. بعض الناس يماثل بين هذه الوضعية وصورة مطاعم الوجبات السريعة في الشوارع الرئيسية وفي الأزقة الداخلية، ومشهد المتزاحمين والعابرين على أبوابها، والكل يطلب وجبته الخفيفة لتتسنى له العودة سريعاً إلى مشاغله، سواء كانت عملاً وظيفياً أو قضاء وقت راحة بعد يوم مرهق. كذلك هو الأمر مع قراءة نص أدبي أو مشاهدة عرض مسرحي أو حضور أمسية ثقافية.
يدلل بعض كتاب «الوجبات السريعة» على مبرر، بل وضرورة هذا النمط من التناول من قبل الطرفين، الكاتب والقارئ، بالإشارة إلى روايات القرن التاسع عشر الغربية، وتوابعها العربية، المسهبة بتفاصيلها، وقد تحولت في زمننا هذا إلى ما يشبه المختصرات أو البرقيات أحياناً. كما يشيرون إلى تعدد وسائل «الثقافة» بين ورقية وبصرية وسمعية ولغوية وإيمائية تعدداً يكفي جزء منها ليشغل الحواس، ويغني عن بقية الأجزاء.
يقولون لا وقت للتأمل، لا وقت للتفاصيل، لا وقت للمطولات الشعرية والروائية والمقالات، لا وقت للتفكير، بل لا وقت حتى للمسة إنسانية في عصر تصنع حاجاته وتلبيها الآلة، وتقدم فيه الآلة بدائل تغني عن وظيفة «كاتب» أو «مترجم» أو «رسام» أو «خطاط». ونقول، صحيح أننا في عصر تلتهمنا فيه وسائط الإعلام السريعة والواسعة الانتشار، وتهددنا بتسطيح كل تواصل، وتحوله إلى سطح واحد أملس متجانس، بل وتحدث تغييراً في وسائطنا التقليدية، فتولد أشباهٌ، مثل الرواية الصحفية، والقصيدة الترفيهية، ومسرحيات التسلية والتهريج.. إلخ، ولكن للآداب والفنون الأصيلة قوانينها الخاصة، فهي إن اتخذت أشكالا مختلفة عن أشكالها في الماضي، أي إذا أصبحت مثلا موجزة أكثر، ومركزة أكثر، فما ذلك إلا بتأثير ضرورات فنية نابعة من مسيرتها وتطورها. ولئن استغرق سرد رواية السطر أو السطرين، وأصبحت ثلاثة أسطر كافية لاكتمال قصيدة، واستغنت اللوحة التشكيلية عن التفاصيل واكتفى الرسام بضربة فرشاة واحدة، أو ترك القماشة بيضاء، وأصبح الفكر ومضات ولمحات، فما ذلك إلا لأن ها هنا تجسيد لمقولة يردّدها قصاصون شعبيون: «يجري الزمن بلا زمن في الحكاية»، في إشارة لطيفة إلى أن الحكواتي أو الفنان بعامة، يهمل التفاصيل غير الضرورية لأنه يقيس نصه بوظيفته وليس بزخارف زائدة عن الحاجة. ولا تعلق لهذا الأمر بالزمن الواقعي، الزمن الخارجي، أو بما ألم بعصرنا من ظواهر انعدام الوقوف والتمعن، والجري في كل الاتجاهات في وقت واحد. فقد يتباطأ زمن السرد، وقد يتوقف، وقد يدور حول نفسه. وسواء تمدّد الزمن أو تم تقليصه، المهم منح السرد أكبر قوة ممكنة، ولكن هذه صفحة مكتوبة في تاريخ الفنون والآداب بأنامل إنسانية، ولم تنتظر مجيء عصر الآلة ليكتبها.
زمننا العربي الراهن يطالب الثقافة والفكر بالتركيز أكثر مما طالبت به أزمانُ الماضي، على عكس ما يذهب إليه أدباء «الوجبات السريعة» وهم يقدمون وصفات إنتاج أعمال تُستهلك من دون إعمال فكر أو تأمل. ووراء هذا سببٌ خاصٌ بتاريخنا تحديداً؛ نحن من أمة تستيقظ وتستعيد ذاكرتها، ولا سبيل إلى هذه اليقظة سوى الوصول إلى الرؤية الحضارية في الأعمال الفكرية والأدبية والفنية، بما يعنيه ذلك من استلهام للتراث المحلي والعالمي، والحاجة إلى زمن للمعرفة والمراجعة والتأمل، والتوقف عند هذه الزاوية أو تلك. هذا موقف قد يعمل ضد زمن «الوجبات السريعة»، ويقاوم الرائج من نتاجات تتخذ من بعض ظواهر العصر حجة لإفراغ الإبداع، أي إبداع، من مضمونه الإنساني الجاد، أو لأقل وظيفته، وتحويله إلى وسيلة تسلية وترفيه بهذه الحجة أو تلك.
وبالعودة إلى الوراء، نجد في ثقافة وفكر الوطن العربي قديماً إيغالا في الإيجاز والتركيز في الإبداع يتناقص مع التقدم في الزمن وصولا إلى الوقت الراهن، أي أن ما يتخيله بعض القائلين بطبيعة العصر ومقتضياته، من أن إنسان العصور القديمة كان شبه متبطل مكاناً وزماناً، يسعى وراء المطولات والمجلدات الضخمة ومجالس الثرثرة، ولم يتخفف من تبطله إلا في زمن السرعة والشواغل المحيط به في الأزمنة الحديثة، فرضية لا تقوم على أساس معرفي راسخ. إنها تخيّلٌ رسخته العادة والتكرار ينسى أصحابه أن ثقافتنا في عصورها القديمة مجّدت الإيجاز واعتبرته أحد عناصر البلاغة، فكان «خير الكلام ما قلّ ودلّ»، وليس ما فاض وتدفق وسال على جوانب الخطاب سواء كان فكرياً أو فنياً أو أدبياً.
وهنا أيضاً علينا القول إن عصر الإيجاز والتركيز وتمجيد الأقل الدالّ، لم يكن يعني السرعة واللهاث، أو قلة الانتباه والتأمل والتفكير، بل يعني ما عناه فعل حكيم صيني كلفه أحد الأباطرة برسم كائن بحري، فطلب مهلة عشر سنين يقيم فيها في قصر على نفقة الإمبراطور، وبعد انقضاء السنين العشر طلب خمساً زيادة، فحصل عليها، وأخيراً جاءه مبعوث الإمبراطور يطلب اللوحة، فتناول الحكيم فرشاة ألوان وقطعة قماش، ورسم بضربات فرشاته وخلال دقائق معدودة أروع كائن بحري شاهده إنسان.
ويمكن تمثيل ما حدث مع هذا الحكيم، بالزمن الطويل الذي قضاه شخص يتدرب على إطلاق سهم من قوس، زمن يبلغ خمس سنوات، فقط ليستطيع إطلاق السهم بعفوية بالغة ومن دون جهد، كأن السهم ينطلق من تلقاء ذاته.
في هذين المثالين، يتوصل المبدع، أديباً كان أو فناناً أو مفكراً، إلى اكتساب «العفوية» التي ينجز فيها عمله في لحظات على أكمل وجه، بعد تدريب يستغرق زمناً طويلا. لحظة الخلق الخاطفة هذه جربها كثيرون من المبدعين، وهي تقع خارج كل هذا الحديث الدائر عن ضرورات عصر السرعة، ومقتضيات أجهزة الاتصال، ومشاغل الإنسان الذي لم يعد يجد وقتاً لتجويد فكرته أوثقافته أوفنه أو أدبه. لأنها لحظة تنتمي إلى عالم له قوانينه الخاصة به، عالم يظل يتطور ويتغير ويبتكر أساليب وطرقاً للتعبير انطلاقاً من ضرورات باطنة، لا يفرضها إيقاع حياة سريع أو بطيء، ولا مزاعم «قراء» تأخذهم من أنفسهم «ثقافات» تسلية وتزجية وقت.
ولئن فرضت ظروف الحياة على مستهلكي الأعمال الثقافية عدم التوقف والتقاط الأنفاس، فما شأن المثقف، الأديب والفنان والمفكر، ليهرع وتتقطع أنفاسه، وهو المنتج وصانع الفكر والمخيلة، والمسؤول عن منتجاته وليس عن تسويقها وترويجها؟
يقال إن العاملين في مصانع صبغ الثياب يستطيعون تمييز عدد وافر من درجات لون واحد، وليكن الأسود مثلا، يعجز عن تمييزها من لا شأن لهم بالصباغة والثياب، أي أن تعامل هؤلاء الصناع مع صنعتهم منحهم سمات نظر مختلفة نوعياً عن سمات نظر غيرهم. إذا أحدثنا تناظراً بين هذه الصورة وصورة الأديب أو الفنان، سنجد أن نظرة الأدباء والفنانين، وصناع الثقافة بشكل عام، إلى العالم من حولهم، وإلى مهماتهم وواجباتهم، ستكون مختلفة نوعياً بالضرورة عن نظرة بقية خلق الله، بما في ذلك من يقرأ ويبصر ويسمع، ونراه يتردد على صالات المعروضات الفنية، أو يصغي في قاعة محاضرات، أو يتناول كتاباً في مكتبة، أو يطلب توقيع هذا الكاتب أو ذاك. ولا بد أن حضور مثل هذا التمييز سيكون مفيداً في الجدال إذا صادفنا أحد كتاب أو فناني الوجبات السريعة.. وما أكثرهم.
________
*الخليج الثقافي