*منصف الوهايبي
من السمات التي تتّسم بها العربيّة عند الأجانب عامّة، أنّها لغة صعبة. وهي مسألة يتشعّب فيها البحث، وتتعدّد فيها الآراء والنظريّات؛ ولا يمكن بأيّ حال أن نستوفيها حقّها في حيّز محدود كهذا. بل هي في تقدير معهد الخدمة الخارجيّة لتعلّم اللغات الأجنبيّة التابع لوزارة الخارجيّة الأمريكيّة، أصعب اللغات؛ وتأتي بعدها الصينيّة واليابانيّة والكوريّة. بل هي عندهم أصعب من الأمهريّة (لغة اثيوبيا الرسميّة، وهي من بين الساميّات الأوسع انتشارا بعد العربيّة) والعبريّة والسنهاليّة (لغة السنهاليّين في سريلانكا) ولغة الخمير، على ما قرأت في كتاب ديفيد جوستيس «علم دلالة المبنى في العربيّة في مجلي اللغات الأوروبيّة». وقد ذكر في إشارة لطيفة منه إلى ضرورة تنسيب هذا الحكم؛ أنّ الناطقين بالإنكليزيّة يعتبرون الألمانيّة أصعب من الفرنسيّة، بالرغم من أنّها أمسّ رحما بالإنكليزيّة، وأقرب نسبا إليها. وينبغي أن نقرّ، ونحن نمهّد السّبيل إلى جواب سائغ مقبول، أنّه ليس من حقّ أيّ منّا في مقال خاطف كهذا، أن يستصدر حكم قيمة على لغة عريقة مثل العربيّة، أو على مجامع اللغة العربيّة وبيوت الحكمة التي تنهض من بين ما تنهض به؛ بتطوير العربيّة وتذليلها أو تيسيرها سواء للناطقين بها أو غير الناطقين (وأنا أنتمي إلى أحدها منذ خمس سنوات وهو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون: بيت الحكمة) وهي المؤسّسات التي تؤدّي عملها في ظروف مادّية صعبة.
ثمّة سرّ ما في العربيّة يذهلنا نحن أهلها عن «صعوبتها»، ويجعلنا نضعها في المكانة الأسمى؛ ولعلّ ذلك السرّ هو في قوّة نظامها فضلا عن قوّة شعريّتها. أمّا من حيث نظامها اللغويّ المجرّد وهو البنيويّ الخالص، فلا علاقة له بهذه الصعوبة كما يقول ديفيد جوستيس؛ عن حقّ، ذلك أنّنا إذا ما انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، وقفنا من حيث البنية على لغة مطّردة مصقولة على نحو غير معهود. والعربيّة بشهادة هؤلاء الأجانب، وأنا أقصر كلامي عليهم في هذا المقال، «لغة رياضيّة» محكومة بخطّة الاشتقاق الوزني، وتطّرد على نسق محكم من سلاسة الأوزان وسهولة المأخذ. ولا أزال أتذكّر وأنا طالب في السنة الأولى، قول المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير؛ في درس له أواخر الستينيات في الجامعة التونسيّة، وهي في أوّل حُدثانها؛ أنّ «الجذر التربيعي» هو كُنه اللغة العربيّة وأصلها. والعربيّة هي اللغة الساميّة الوحيدة التي ترتكز على وزن واحد، كما ذكرت في مقال سابق؛ تتولّد منه فروع اللغة وأغصانها وأوراقها. ومن الميسور في كلّ الحالات تقريبا، إرجاع كلّ الكلمات العربيّة من أسماء وأفعال، إلى ذلك الجذر؛ ما جاء منها على وزن اسم الفاعل أو على وزن اسم المفعول أو المصدر أو اسم الآلة أو أفعل التفضيل… والأغرب الآسر، أنّ كلّ هذه الصيغ الاشتقاقيّة صيغ وزنيّة إيقاعيّة. وبسبب من ذلك سمّاها العرب أوزانا، لا في علم العروض فقط، وإنّما في علم الصرف أيضا. وعددها لا يتجاوز العشرين. وربّما شذّ بعضها، ولكن دون أن يخلّ بالقالب أو ينال منه. وهو رأي سلفستر دي ساسي أيضا، إذ يوضّح ما تتميّز به العربيّة من قابليّة الجذر الواحد لأن تشتقّ منه صيغ كثيرة. وهذه في تقديره أمارة على غنى العربيّة، بل تجعلها أكثر سهولة.
وهذا وغيره ممّا قد يحسر فكر القارئ العادي أو يكدّ ذهنه، قد يسوّغ القول بـ»صعوبة» العربيّة، إذا صرفنا النظر عن مشكلة جمع الاسم وعدم كتابة الحركات ورموز الكتابة التي تمثّل عقبة كأداء للأجنبي؛ أو يجعلنا نردّ هذه «الصعوبة» إلى كون العربيّة لغة أدبيّة مكتوبة. يقول انطون شبيتالر إنّ اللّغويّين العرب في القرن الرّابع الهجري (العاشر للميلاد)، كانوا يذهبون إلى البدو ليدرسوا لغتهم؛ بحثا عمّا يفتقدونه في المدن، وهو العربيّة. والمقصود بها في هذه الحالة هو لغة الشّعر العربيّ القديم على الأخصّ التي قد تكون ضمرت، بسبب من ذيوع العربيّة المولّدة في المدن، وتراخي قليل أو كثير من الحضر في التمكّن اللّغويّ الفصيح. ولا عجب أن يجدوا ضالّتهم عند البدو؛ لأنّ لغة الشّعر القديم التي مثّلت مددا سخيّا لهم في وضع القواعد ووجوه التّخريجات اللّغوية كانت متداولة في بيئة البدو «الذين تُرْضى عربيّتهم» بعبارة سيبويه، أو قوله «العرب الموثوق بعربيّتهم»، لسبب لا نخاله يخفى وهو أنّ الشّعر القديم كان في مجمله شعرا بدويّا.
ولعلّ علم النّحو كما وضعه النحاة الأوائل، أن يزكّي هذا التّأويل ويرجّحه. فهو نحو معياريّ يتّخذ من الفصحى باعتبارها لغة مثالا أو لغة معياريّة موضوعا له، على حساب الاستعمالات اللّغويّة الأخرى، ويعزّز وشائج القربى بين مفهوم النّحويّة ومفهوم الصّواب النّحويّ. ولم يكن غرضه وصف قدرة المتكلّم اللّغويّة؛ وإنّما إكسابه هذه القدرة وتمكينه من الاستعمالات الفصيحة. وهو ما تؤكّده مدوّنة النّحو المعروفة وتلك المؤلّفة في «لحن العامّة «، فلم يكن غرضها وصف لهجات البدو أو العربيّة المولّدة وإنّما إثبات الصّواب اللّغويّ والتّنصيص على أخطاء العامّة في اللّغة ونطقهم بأسلوب مخالف للمألوف. يرجّح الألماني يوهان فك في كتابه «العربيّة: دراسات في اللّغة واللهّجات والأساليب»، وهو أشبه بدائرة معارف واسعة، إنّ اللّحن استعمل أوّل مرّة بهذا المعنى عندما تنبّه العرب، بعد اختلاطهم بالأعاجم، إلى فرق ما بين التّعبير الصّحيح والتّعبير الملحون.
من البديهيّ إذن أن نعدّ مبدأ «تهذيب اللّغة» الذي أخذ به علماء اللّغة والنّحو منذ أواخر القرن الأوّل للهجرة ثمرة أوضاع لغويّة وتاريخيّة مخصوصة، وأن نقف فيه على مشادّة بين أداء شفهيّ وآخر كتابيّ، تؤكّدها الأوضاع التي بنيت عليها مصنّفات اللّغة والنّحو. فهي تخرّج قارئها تصفّحا وقراءة على نحو ما تخرّجه البادية سماعا وتلقينا، وهي التي أخذ أصحابها في تدوين اللّغة وجمعها بأنواع وطرائق من التحمّل كالسّماع والعرض والإجازة والقراءة… تدين كلّها للأداء الشّفهيّ ويربطها به نسب لا يخفى. على أنّ هذا المبدأ، «مبدأ تهذيب اللغة»، يظلّ قرين لغة مكتوبة تتميّز عن الّلغة المنطوقة بعدد من الخصائص مثل استخدام قواعد النّحو ومفردا ت اللّغة استخداما محكما حتّى لا يعتريها اللّبس والغموض.
ويعزو انطوان ماييه ذلك إلى الكتابة، فليس لها ما للمتكلّمين من «تعبيريّة الجسد» أو ما يملكونه من مناسبة وحركات ونغمة أو نبرة في الصّوت توضّح الكلام الملفوظ، فإنّه لا بدّ لها من أن تستخدم في دقّة قواعد النّحو ومفردات اللّغة استخداما محكما وإلاّ جاءت غامضة غير مفهومة. ومن ثمّ فاللغة المكتوبة توضّح الصّيغ النّحويّة كما توضح قيم المفردات. فلا غرابة أن تكون المحافظة على الاستعمالات القديمة والتخلّف عن مجاراة اللّغة المنطوقة من أظهر خصائص اللّغة المكتوبة التي كثيرا ما تكون لغة خاصّة لا علاقة لها باللّغة المنطوقة؛ كأنْ تكون لغة دينيّة أو لغة شعريّة كما هو الشأن في العربيّة الفصحى لغة القرآن والشّعر.
ولعلّ حديث اللّغويين عن « السّليقيّة « ممّا يؤكّد هذا الاختلاف الذي كان يضيق أو يتّسع بين الفصحى ولغة التّخاطب عند البدو. فإذا كانت الأولى معربة تُكتسب بالدّربة والمراس والرويّة؛ فإنّ الثّانية متحرّرة من علامات الإعراب وتصاريف القواعد جريا على السّليقة. وربّما كان هذ ا» التحرّر» القاسم المشترك المميّز بين العربيّة المولّدة ولغة التّخاطب عند البدو. وفي ما عداه احتفظت كلّ منهما بقواعدها وأعرافها وطرائق أدائها. ومع ذلك يبقى السؤال قائما في المنظور الأجنبي: هل العربيّة لغة صعبة؟ وإذا كانت كذلك فما هي أوجه صعوبتها؟
قد يكون مردّ الصعوبة إلى أسباب من خارج اللغة، كما يقول ديفيد جوستيس، وقد اختار وجها أو سببا واحدا كما يفعل المحامي عادة؛ هو في تقديره تاريخيّ اجتماعيّ أدبيّ في ذات الآن. فالعربيّة كما يقول ذات تراث أدبيّ غنيّ لا مثيل له، ولغة دين عالميّ وممالك وامبراطوريّات؛ ولكنّها لغة كتابيّة أكثر منها لغة استعمال يوميّ أو معيش. ونحن نقرّ بأنّ السمع هو أبو الملكات اللسانيّة كما يقول ابن خلدون، والكلمة مسموعة تنطبع في الذهن والذاكرة أفضل ممّا تنطبع الكلمة مكتوبة. ولعلّ هذا ممّا جعل أندريه رومان يقرّر وهو يتقصّى خصائص العربيّة الصوتيّة، أنّها لغة مثال أو لغة أنموذج.
_______
*القدس العربي