عن دار “لو كاستور أسترال” الفرنسية صدر للباحث والشاعر السوري صالح دياب كتاب “الشعر السوري المعاصر”. يشكل الكتاب مرجعاً، ليس عن الشعر السوري فحسب بل عن الشعر العربي الحديث الذي يؤرخ له عبر الشعراء السوريين. الكتاب الذي يصل تعداد صفحاته إلى حوالي أربعمائة صفحة تقريبا، عمل عليه دياب مدة عشر سنوات تقريبا، يسد نقصا كبيرا طالما وجد في المكتبات الفرانكوفونية.
يقدم الكاتب بانوراما للتيارات الشعرية التي عصفت بالحركة الشعرية العربية الحديثة، منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى أيامنا هذه، عبر مساهمات الشعراء السوريين. متوقفا عند المشكلات الفنية والنقاشات التي دارت وتدور حول علاقة الشعر بالنثر والوزن، وموقف الشاعر من اللغة وعلاقته بالعالم وبالذات.
يحتوي الكتاب على نماذج شعرية لسبعة وعشرين صوتا شعريا ولدوا في سوريا (1947ـ 2012) من أب وأم سوريين. يتقاسم خلفياتهم السياسية، باستثناء شاعرين مستقلين، حزبان سياسيان هما الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخمسينات والستينات و الحزب الشيوعي السوري في السبعينات والثمانينات. فيما تغيب عن الكتاب أي مساهمة لأي شاعر ينتمي إلى الأحزاب القومية، كأنما هذه الأخيرة لم تنتج شاعرا رائدا واحدا.
النماذج الشعرية اختيرت اعتمادا على قراءة دياب الشخصية للأعمال الشعرية الكاملة لكل شاعر. وقد وزعت على حداثات ثلاث، تشكل متن الكتاب. بعض هذه الأسماء ساهم في حركة الشعر العربي الحديث ووضع لبنات أساسية في عمارته، وشكل منعطفا جماليا وحلقة من حلقاته المتسلسلة.
شكلت مدينة حلب فضاء الحداثة الأولى، أما الثانية فهي نتاج ورشة مجلة شعر، أما الثالثة فتخص شعر السبعينات فقد مهدت لها جماعة كركوك خصوصا صلاح فائق، وترجمات شعر أوروبا الشرقية.
لا يحتفل دياب بـ”شعر سوري” بل بالشعراء السوريين الاكثر طليعية في تاريخ سوريا. فبحسب رأيه يرتبط الشعر المكتوب في سوريا ارتباطا وثيقاً بالشعر المكتوب في سائر بلدان المشرق، كما يخضع للمصادر والتأثيرات نفسها تقريبا. لم يقصرالكاتب خيارته على نوع شعري معين، فالأنواع الشعرية الثلاثة: الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، والقصيدة النثرية تتجاور في الكتاب وتتآلف.
تأخذ مدينة حلب وشعراؤها حيزا مهما، إذ يُفتتح الكتاب بشاعرين من حلب هما خير الدين الأسدي وأورخان ميسر، يثمن دياب اقتراحاتهما الجمالية التي جعلت منهما رائدين، وساهمت نصوصهما باكرا في التمهيد للقصيدة النثرية. ثم يمر على شعر عمر أبو ريشة متتبعا مصادره وتأثيراته بالشعراء اللبنانيين وشعراء المهجر. وينتهي الكتاب بمدينة حلب محتفلا بشعراء الملتقى الأدبي لجامعة حلب آخر مختبر شعري سوري ساهم فيه أصوات كردية وعربية احتضنتها جامعتها، جاءت من الدرباسية، والحسكة والقامشلي، والرقة وجبل سمعان. تلك أصوات أعادت النظر في شعر مجلة “شعر” وشعر السبعينات المكتوب في سوريا. وعلى الرغم من قلة نتاجها إلا أنه كان نوعيا، يعكسه وعيها الشعري الكبير. وشعرها يشكل نموذجا لا يمكن تجاوزه في الدراسات الشعرية التي تعنى بالتيارات الطليعية في الشعر المكتوب في سوريا في الثمانينيات.
بيروت الستينات هي المدينة الثانية التي يأخذ شعراؤها السوريون حيزا كبيرا في الكتاب، فهي التي احتضنت أهم الشعراء السوريين الذين نقلوا الشعر العربي إلى أراض شعرية بكر، لم يكن بالإمكان اكتشافها وسبرها لولا مساهماتهم. مثل أدونيس ومحمد الماغوط وكمال خير بيك وفؤاد رفقة. يمر الكتاب بمدينة اللاذقية ويثَّمر قصائد بدوي الجبل الصوفية مشيرا إلى أهمية الرؤيا الشعرية التي كان يؤمن بها. ومن دمشق يختار نزار قباني معيدا الاعتبار إلى أهميته ومساهمته مع الماغوط في التمهيد لقصيدة السبعينات التي تحكي التفاصيل اليومية وتذهب إلى الحياة اليومية، وتشكل تجربة شعراء القصيدة الشفوية عمادها كمنذر مصري وبندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش ورياض الصالح حسين…
لوحة الغلاف ليوسف عبدلكي
________
*المدن