تأنيث الفكر

*نبيل سليمان

في آخر عهدي بالجامعة قبل نصف قرن ونيف، وبين المزاح والجد، شغلني السؤال عن فراغ تراثنا النقدي من النساء. لدينا ابن سلام وابن رشيق وابن طباطبا، ولكن ليس لدينا بنت سلام ولا بنت رشيق ولا بنت طباطبا. لدينا الجرجاني والآمدي والحاتمي، ولكن أين الجرجانية والآمدية والحاتمية؟ بالكاد لدينا شاعرة هنا وأخرى هناك، فلماذا؟

بعد قليل، بعدما سَبَتْني سيمون دو بوفوار، تبدل السؤال عن الناقدة ليصير عن المفكرة وعن الفيلسوفة. لدينا ابن سينا، وليس لدينا بنت سينا، ولدينا الفارابي والكندي، ولكن أين الفارابية والكندية؟

بعد قليل أيضاً داهمت نوال السعداوي الجيلَ سنة 1969 بكتابها «المرأة والجنس»، وبعد سنتين بكتابها «الأنثى هي الأصل»، ثم كرّت السّبحة: (الرجل والجنس – الوجه العاري للمرأة العربية – المرأة والصراع النفسي)، وهذه إذن مفكرة ترجّ الذكورة المتأصلة في الفكر والثقافة والحياة الاجتماعية. وبالتوازي قدمت سلوى الخماش كتابيها الهامين «المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف» و»دراسات في العقلية العربية – الخرافة» (بالاشتراك مع إبراهيم بدران). ولئن راحت نوال السعداوي تتوسل الرواية من بعد لبثّ أفكارها، فقد أخذت رجّتها تهدأ، على الرغم من محاولاتها في الفضاء العام وفي الكتب: (قضايا المرأة المصرية السياسية والجنسية – توأم السلطة والجنس – المرأة والدين والأخلاق، بالاشتراك مع هبة رؤوف عزت – كسر الحدود).

هبّة

غير أن الرجّة توالت أكبر وأعمق على يد فاطمة المرنيسي (1940 ـ 2016)، كتاباً تلو كتاب: «الحريم السياسي» ترجمة الراحل عبد الهادي عباس، ثم بترجمة فاطمة أزرويل: «ماوراء الحجاب»، «سلطانات منسيات»، «الحجاب والنخبة الذكورية»، «الخوف من الحداثة». ولم تفتأ فاطمة المرنيسي تفكك المخيال الذكوري، وتقلق الركود الثقافي في إبداعها الفكري حتى رحيلها. ولئن كانت الرواية قد استمالتها لمرة في «نساء على أجنحة الحلم» فقد أبدعت في تسريد الفكرية، كما في كتاب «أحلام النساء الحريم» الذي لوّنته أيضاً السيرة، فكان بجدارة من السيرة الروائية أو الرواية السيرية. وكذلك جاءت دراستها «الزعامة النسوية في المخيال الاجتماعي»، وما رسمت من صور النساء اللواتي حكمن في الديار الإسلامية.

في ثمانينات القرن الماضي ابتدأت تباشير الهبة الروائية النسائية التي ستتأكد في العقد التالي، حيث ابتدأت أيضاً تباشير نظيرتها في الفن التشكيلي. ومما نغّص عليّ ابتهاجي بالهبتين سلسلة الكتب التي حملت عنوان: «الفيلسوف والمرأة» وقدمها إمام عبد الفتاح إمام، دحضاً للقول الرائج بغلبة العاطفة والانفعال على تفكير المرأة، وبأن عقليتها أقل من عقل الرجل، ودحضاً لحكم أرسطو في كتابه «السياسة» بأن الذكر أصلح للرئاسة من الأنثى، وتسلّطه بالتالي عليها أمر طبيعي. وهذا ما تابعه فلاسفة كثيرون، كهيجل الذي حكم على النساء بالعجز عن التفلسف، وكانط الذي دعاهن إلى عدم التفلسف كيلا يصبن بالعقم والقبح.. وقد جلا إمام عبد الفتاح إمام كيف منعت البيئة الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية والثقافية المرأة من التفلسف، ودعا إلى أن تنفض عنها غبار السنين من الجهل والتخلف.

الفخ

بين بدء الهبة النسائية العربية في الرواية والفن التشكيلي، واليوم، جرت في النهر مياه كثيرة، ولم يعد الحديث عن (إبداعاتهن في الفكر والفلسفة) كما كان، دون أن يعني ذلك أن الأمور باتت على ما يرام.
بالنسبة لي، كان اللقاء بكتاب منى فياض «السجن مجتمع بري» (1999) بينما كنت أهيئ لروايتي «سمر الليالي» حدثاً مهماً، وقد أفدت من سرديات هذا الكتاب ومن الالتماعات التي يذخر بها، والتي ستذخر بها مؤلفات منى فياض التالية، بدءاً بـ «فخ الجسد تجليات نزوات وأسرار» (2000) حيث تفاعلت علوم الاجتماع والنفس والإناسة والسياسة والأسطورة، وحيث اتقد الجسد السياسي والصامت والجميل والمركب والمشوه وجسد الرئيس وجسد مارلين مونرو… وما أرسل في الجسد أبو نواس أو جاك دريدا أو… ولعلي لا أبالغ إن رأيت الكتاب نصاً أدبياً فكرياً وأنموذجاً لشعرية الكتابة الفكرية. وقد تابعت منى فياض السبيل فكان لها في فلسفة العلوم (العلم في نقد العلم) وانخرطت في الشأن العام كما في «أن نتعامل مع العنف»، ومثل المرنيسي والسعداوي وشيرين أبو النجا، استمالتها الرواية أيضاً.

مغاربيات

في هذا السياق، وللمضيّ إلى المغرب أعود إلى الاحتفال بمئوية كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة» في القاهرة، حيث التقيت بفاطمة الزهراء أزرويل التي كانت ترجماتها لمؤلفات فاطمة المرنيسي هي الفضلى، والتي أكبّت على البحث الميداني في تجارة الجسد، وفي شأن المرأة بين التعليم والعمل. ومن مؤلفات أزرويل الهامة «المسألة النسائية في الخطاب العربي الحديث من التحرير إلى التحرر»، كما كانت لها عنايتها بنقد الرواية. ومن اللافت في هذا السياق ما جاء من الإنجاز الفكري والفلسفي للمرأة في المغرب باللغة الفرنسية، كما هو حال حورية سيناسور التي تدرّس في السوربون وفي الرباط، والخبيرة بنظريات وتاريخ الرياضيات. ومثلها التونسية مليكة ولباني المتخصصة في فلسفة المنطق وفلسفة اللغة. وإذا كان تمام القول في هذا، وفي مجمل الإبداع الفكري والفلسفي للمرأة في بلدان المغرب العربي، هو لأهل الدار، وأهل مكة أدرى بشعابها، إلا أن ذلك قد يدع لمثلي تمتمةً في منجز ألفة يوسف في تونس. ففيما تيسر لي من هذا المنجز، وبخاصة من حاضره، أي مما بلغه بعد مشوار طويل ومعقد، أناديكم إلى: «وليس الذكر كالأنثى» وإلى «ناقصات عقل ودين» حيث تفكك ألفة يوسف بامتياز الجنس لغوياً وفي المخيال الاجتماعي، بينما تشغّل في كتابتها العامل الصوفيّ والنفسي، وتلونها بالسرد. أما آمال القرامي فقد عرفت لها «ظاهرة الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: الأسباب والدلالات» حيث تعلن المنهجية عن نسبها في فلسفة التفكيك والاختلاف. وحسبي الإشارة إلى دراسة القرامي لظواهر الاستعلاء والاستنقاص والتهميش والدونية والهيمنة والخضوع في علاقات الجنسين، وكذلك تحليلها المعمق للأحاديث المؤسسة للاختلاف الثقافي، ولمأسسة الجندر (النوع/‏ الجنس) في مجتمع الدعوة.

فحولة

وتلتمع في هذا السياق مساهمة رجاء بن سلامة في كتابها «نقد إنسان الجموع» وقبله «بنيان الفحولة: أبحاث في المذكر والمؤنث».

حاولت رجاء بن سلامة أن تأتي أبحاثها (بالأحرى: مقالاتها) على نهج بوردو في (المعرفة الملتزمة) التي تنفر من ادعاء الحياد العلمي والبرودة الأكاديمية. وبالتالي جاء (بنيان الفحولة…) ملفوعاً بحرارة السجال، كما في الحديث عن الفحل السياسي، حيث نظرت الكاتبة في قول الخطاب الديني في أهلية المرأة للمشاركة في العمل السياسي. وقد فككت أسطورة الفحل الحيواني ـ الزعيم الأوحد، حيث الحديث عن أسطورة سياسية فحولية تمثل قاعاً حاضراً غائباً لمناهضة دخول المرأة الفضاء العام وترقيها في سلّمه. وترى رجاء بن سلامة أن في صورة الزعيم المستبد الأوحد المخلص شيئاً من صورة الفحل الأوحد المتغلب، فالسلطة الاستبدادية وجه فحولي، والفحولية ليست قوانين ومقررات لتفوق الرجال على النساء، بل هي بنية نفسية وفكرية للدولة التسلطية، تقتضي أن يكون الرئيس ذكراً متغلباً، محولاً بني جنسه إلى مرؤوسين تابعين. وقد دعت الكاتبة إلى الانتقال من ثقافة الفحولة إلى ثقافة المواطنة.

آليات

من تجليات هذا الصوت الجديد في مصر، أذكر بخاصة شيرين أبو النجا، منذ كتابيها «نسائي أم نسوي» و «الحجاب بين المحلي والعولمي». ولئن كانت قد عُنيتْ أيضاً بالنقد الأدبي، فهي كباحثة ومفكرة مهجوسة بالشأن العام. ومن ذلك كتابها «المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد»، الذي تتفجر فيه الأسئلة الكاوية منذ المقدمة، كالسؤال عن سر افتقاد المثقف للقدرة على التأثير في الشارع، وعن سر انصراف الشارع عنه، مقابل اكتساب الخطاب الديني الجاذبية على حساب أي خطاب ثقافي. وبالأسئلة الكاوية أيضاً تتحدد منطلقات الكتاب على إيقاع ثورة 25 يناير 2011، كالسؤال عن المثقف «القديم» الذي تشكل وعيه في ظل أنظمة سابقة استبدادية، ولم يكن معارضاً لولادة عالم جديد، بل كان يتوق إليه. كذلك هو السؤال عما يمكن للمثقف المذعور أن يقدمه في المرحلة الانتقالية، وعن المرجعية المختلفة التي ينهل منها الجيل الجديد.

تروم شيرين أبو النجا أن يرصد ويحلل كتابها ما حدث على الساحة الثقافية في المرحلة الانتقالية، وكذلك تأثير الأحداث على آليات تفكير وخطاب المثقف. وبالتالي، لا يسعى الكتاب إلى تقييم ما حدث، بل إلى الإجابة عما إذا كان المثقف قد أوجد آليات جديدة للتعامل مع مرحلة جديدة، أم إنه مازال يوظف الآليات القديمة نفسها في التعامل مع معطيات سياسية جديدة تعمل لصالحه وضده في آن. وهل استوعب المثقف الأبوي خطاب المثقف الجديد، أم هما عالمان مختلفان لن يلتقيا إلا في منطقة الشد والجذب؟

زائدة

من تسييس الثقافة إلى الذبح الثقافي ـ رمزي هو أم اقتصادي؟ ـ إلى سياسات منح الشرعية في الفكر الأدبي، ومنه الفكر النقدي، إلى ذهنية التحريم الديني والثقافي، يمضي كتاب (المثقف الانتقالي…) في حضور لافت لنصوص أدبية من صلاح جاهين ونجيب محفوظ وأدونيس وبيكيت… ولأفكار غرامشي وإدوارد سعيد وهابرماس وأمبرتو إيكو وفوكو وبورديو. ومن الأهم الذي ينتهي إليه الكتاب أن المثقف كان قد تحول دون دراية منه إلى واجهة يزين بها النظام السابق وجهه القبيح. ثم تحول المثقف إلى زائدة، يود معظم من هم جدد أن يتخلصوا منها. والمثقف بعد 2011 بات يسعى إلى حماية الثقافي من السياسي. وإذا كان المثقف القديم قد عاد إلى سيرته الأولى في الندوات والمقالات، وإذا كان يميل قليلاً إلى الإصلاح من الداخل، فالمثقف الجديد لا يعبأ بالسياسة، بل يصوغ وعيه السياسي في الشارع، والشارع بوصلته، وهو يستهدف الجديد في المسرح والسرد والتواصل الاجتماعي والجرافيتي والغناء… وتشدد شيرين أبو النجا على أن (الجديد) لا يتعلق بالعمر فقط، فالجدة تعني الخبرة والرؤية أيضاً. وبينما يواصل التيار اليميني العسكري أو الديني هجمته على الإبداع، يعبر اختلاف المثقفين عن تعددية فكرية تفتقدها الخطابات السياسية. وعلى أية حال لايزال الطريق طويلاً، ولن يكتمل إلا بدمج الخبرات القديمة والحديثة من أجل نسج منظومة ثقافية جديدة.

هكذا يبدو أن هذا الصوت النسائي الجديد يكابد بحرارة الإجابة على السؤال عن المفكرة والفيلسوفة، بلا تلعثم، وبلا ادعاء. وهذا الصوت مشغول جداً بالزلزال الذي تفجر في بلاد العرب سنة 2011. وفي الوقت نفسه يركز على الجندر والنسوية والجنس والجسد والدين، بينما لازالت قضايا أخرى كثيرة وخطيرة تنتظر كسر الاحتكار الذكوري للكتابة الفكرية والفلسفية.

الفيلسوف والمرأة

في الجزء الأخير بعنوان «نساء فلاسفة» (1996) من سلسلة «الفيلسوف والمرأة»، قدّم إمام عبد الفتاح إمام الفيلسوفات الرائدات: أرستوكلي أستاذة فيثاغورس، وزوجته ثيانو القائلة: «لأن تكوني فوق حصان جامح خير لك من أن تكوني امرأة مفكرة». ومثل ثيانو كانت بناتها الثلاث، وكليوبولينا التي ربما كانت والدة طاليس، وإسبازيا التي خصص لها أفلاطون واحدة من محاوراته، وديوتيما معلّمة سقراط، وصولاً إلى هيباتيا الإسكندرانية. وقد وددت لو أن إمام عبد الفتاح إمام حشر زنوبيا بين أولاء اليونانيات، وبخاصة أنها درست في الإسكندرية، وكانت فيلسوفة قبل أن تكون ملكة تدمر، ولسوف تتمحور حولها كفيلسوفة رواية تيسير خلف «مذبحة الفلاسفة».
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *