خاص-ثقافات
*إيمان البستاني
هي رواية للكاتب والروائي التشيلي ( خوسيه ميغيل باراس )،الحائز على أعلى جائزة أدبية في تشيلي وهي الجائزة الوطنية للآداب عام ٢٠٠٦
ترجمها المترجم برتبة( كولونيل ترجمة) الفلسطيني الأصل السوري المولد (صالح علماني) وهو من أمضى ربع قرن في خدمة الأدب اللاتيني لينقل لنا روايات من لغة إسبانية عوالمها مليئة بالدهشة وحبكة الصياغة
صالح علماني
الرواية عبارة عن مجموعة من الرسائل المتبادلة بنكهة مذكرات بين رسام تشيلي اسمه (هويركيو) ينتمي
أقلية المابوتشي سكان امريكا الاصليين
إلى أقلية ( المابوتشي) أي سكان امريكا الأصليين،مع عم زوجته وهو بروفيسور جيكي في الأدب يعيش على مقربة من براغ،وهو أحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية، تزوج الرسام ابنة أخ البروفيسورعندما كان طالباً في تشيكوسلوفاكيا، وصحبها إلى بغداد بعد حصولها على عمل تدريسي في معهد الفنون الجميلة لتدريس فنون النسيج في بغداد
الرسائل تتحدث عن بغداد والعراق ومغامرات الرسام ووصفه الأماكن والحوادث السياسية خلال عهد قاسم وعشية انقلاب ١٩٦٣ وإقامته فيها لمدة ثلاث سنوات انتهت باختفاء الرسام في بغداد حيث لم يعرف له مصير
يؤرخ الروائي( خوسيه ميغيل باراس ) زمن فتح الرسائل العام ١٩٧٣ أي قبل أربعة أشهر من انقلاب ( بينوشيه ) العسكري ضد حكومة الرئيس التشيلي المنتخب ( سلفادور الليندي) جاء في مقدمة الروايةان الرسام قُتل او اختفت آثاره في بغداد، وحاولت الحكومة التشيلية العثور عليه ولم تفلح،أرسل العم الرسائل الى صحيفة تشيلية كي تنشرها، ولكنها بقيت في الأدراج كحزمة اوراق تجمع الغبار،الى ان سلمها أحد رؤساء التحرير مدير جريدة ( السيجلو ) او جريدة العصر إلى ( خوسيه باراس) وسيجد القارئ للرواية خيطاً بدا كما لو أن الصدفة نسجته، بين أحداث تشيلي السياسية والأحداث التي يرويها الرسام عن العراق نهاية الخمسينات ومطلع الستينات،ولكننا سنركز على الجانب العراقي منها
وقد تعثرت الرواية عربياً،حيث رفضتها دار عراقية شهيرة ، بدعوى إساءتها للشخصية العراقية للزعيم عبدالكريم قاسم،ولكننا في مسعانا هذا لا ننوي الإساءة لأحد
سنبدأ بنتف ريش الرواية الان …. وهي تبدأ بسفر الزوجين الرسام التشيلي ( هويركيو ) الذي لا يهمه سوى البحث عن ثيمة للوحاته و زوجته الجيكية الشقراء ( إيفا ) على متن طائرة متجهة لبغداد ومزدحمة بقيادات اتحادات طلابية من حوالي عشرين بلداً من العالم لحضورالمؤتمر السادس لاتحاد الطلاب العالمي في بغداد عام ١٩٦٠, مرح المندوبين البرازيلين الذي لا يرتوى اصاب الجميع بعدواه على متن تلك الرحلة،كان المرح موسيقياً بطعم السامبا, محتضنين بحماس احدى المضيفات الروسيات المربوعات الى ان بدت لهم بغداد من الجو صحراء يتلوى فيها نهر بلون القهوة مع بعض الاحزمة النحيلة الخضراء على الضفتين
درجت الطائرة و توقفت امام مبنى المطار،كان هناك صف من جنود مسلحين ببنادق آلية،بدلاتهم العسكرية ضاربة للصفرة ومجعدة وتشبه بغداد من الجو
فمنذ لحظة صعودهم للحافلة التي ستقلهم لمبنى الطلبة ذو اللون الرمادي والذي يعج مدخله بالفوضى،اكتشفت الوفود الطلابية أن هناك مظاهرة تندد بأعدام رئيس اتحاد طلبة العراق مع مجموعة من الطلاب بتهمة ( التآمر على الثورة) وعندما تدخلت الوفود عند الرئيس قاسم ، قال إنه حكم محكمة لا يستطيع تغييره ، وإن كان سيحاول تأجيل التنفيذ فترة انعقاد المؤتمر وكان يبدي لحظتها شيئاً من المعارضة وقليلاً من الحزن
الجولة في بغداد،في اليوم التالي،سببت انطباعاً عنيفاً،لم يروا قصوراً،كان يترأى لهم على بعد قبة مسجد مذهبة،الشوارع ضيقة تعج بحشود صاخبة،حافلات بغداد لندنية حمراء بطابقين تنطلق بسرعة لا تصدق وسط جمهرة بشرية لا تخطئ طريقها،وكانت تمضي في الشارع عربات تجرها أحصنة ضامرة،حمالون حفاة بحبال ملفوفة على خصورهم،سادة مهيبون يرتدون قمصان و ربطات عنق،شباب بقميص وبنطال،باعة متجولون مزق التجوال وجوههم،نساء حفاة يتشحن بالسواد على رؤوسهن حزم هائلة،اما الاطفال فكانوا بكثرة الذباب
في شارع هارون الرشيد،يبيعون صوراً فوتوغرافية معروضة فوق الصحف او معلقة على الجدران،صور كثيرة لزعيم الثورة،قاسم واقف،قاسم جالس،قاسم عابس،قاسم ضاحك،قاسم بقبعة عسكرية،قاسم جانبي، قاسم جبهي،قاسم ثلاثة ارباع،وكل صوره وحيد تماما َ, بعضها ملون يدوياً،خداه ورديان وعينان زرق،تأتي بعده في المرتبة الثانية في وفرتها صور الممثلة ( جينا لولو بريجيدا ) بينما يحتل فيدل كاسترو المرتبة الثالثة ويسمونه اهل بغداد كاستر
في اليوم الأول من ايام المؤتمر،كان الحدث الأهم هو اللقاء مع الرئيس،عبدالكريم قاسم،قائد الثورة العراقية،في قاعة الاستقبال الفخمة التابعة لوزارة الدفاع
نقلوهم الى هناك في حافلات وتركوهم ينتظرون طويلاً في الشارع مع صخب اللاتينين الذي يمكنكم تخيله،وأخيراً،قال احدهم : ( لقد وصل !) فأنطلق الطلاب العراقيون،وهم نحو خمسين طالباً مختاراً،بهتافات التحية
ظهر الموكب وكانت تتقدمه عربة مصفحة،غريبة الشكل تجمع بين الدبابة والشاحنة،لها برج فوق قمرتها،وفي البرج جندي بزي الميدان مع خوذته و بندقيته الرشاشة النظامية،وراء العربة التي تتقدم بسرعة مثيرة الغبار كشيطان،كانت هناك سيارتان جيب فيهما جنود،وبعدها اربع سيارات حديثة لها زعانف اسماك قرش،ممتلئة برجال يرتدون الزي العسكري،فحراسة قاسم شخصياً مؤلفة من ضباط فقط
خرج الزعيم من إحدى السيارات وتقدم برشاقة نمر،كان يرتدي بزة عسكرية لونها بيج ومن جوخ فاخر،لا علاقة لها ببدلات جنوده المجعدة والشبيهة بالخرق،دون قبعة فوق شعر كالملح والفلفل،تقدم موجهاً نظرات احتراس ذات اليسار و ذات اليمين،مبتسماً و ملوحاً بيده اليمنى في شكر على التصفيق،كان الرجل مغمور بموجة تصفيق حتى من رسامنا ( هويركيو )،بينما الزعيم كان يمر عبر طريق يشقه له بين جمهرة الشبان حراسه ببزات عسكرية وايديهم اليمنى على المسدس العالق على خصرهم
مشى بخطوات واسعة مع رجاله عبر الحديقة،بين مساكب زهور بديعة،فوق عشب شديد الخضرة والنضارة لا ينقصه إلا أن يتكلم الإنكليزية . كم تكلف رعاية مرج عشب كهذا في مثل هكذا مناخ ؟ بينما هو يتقدم كان الوطنيون يلحقون به مطلقين الهتافات، وكانوا يصفقون بإيقاع متقطع تتخللها شعارات بإسمه،والكل مشى خلفه كالخراف ودون ان يتوقف عن التلويح بيده اليمنى
بينما كان نُدل بسترات بيضاء يقدمون في صوانٍ كبيرة كئوساً من الماء والكوكا كولا مع الثلج،كانت هناك نصف ساعة من تقبيل الأيدي،كل واحد من المدعوين صافح الزعيم قاسم وتبادل معه بضع كلمات،وعندما جاء دور الرسام ( هويركيو ) في النهاية تقريبا،وتمكن من رؤيته عن قرب،بدا له الزعيم ذا خدين شديدا البياض،كما لو انهما مبودران،وشفته شديدة الحمرة،مد يداً قوية و كثيفة الشعر،و وجه بضع كلمات عربية،رد عليه رسامنا بكلمة مجاملة بالإنكليزية،كان هناك مترجم او شرطي بملابس مدنية يحمل بين يديه قائمة طويلة ( تراها تضم اسماء المدعوين ؟ ) همس شيئاَ في أذنه،فأطلق الزعيم قهقهة متألقة ذات أسنان بيضاء و تلبيسات من الذهب
صفق أحدهم بيديه مثلما يفعلون في تشيلي للإعلان عن انطلاق القطارات،وانقض الجميع على الطعام،كانت الموائد الطويلة تنوء تحت ثقل الأطعمة ; خراف كاملة مشوية،محشوة بالأرز مع الزعفران،أرغفة خشنة ولذيذة من طبقتين،محشوة باللحم والبصل واللوز ( اظنه يقصد بها كبة الموصل )،حلويات دقيقة الصنع،معطرة و مغمسة بالقطر،لحوم في صلصات حارة و حلوة في الوقت نفسه،أسماك كبيرة بيضاء مشوية،جبال من الأرز مع الزبيب واللوز،أطباق كبيرة من الفاكهة،وكان الاكل وقوفاَ على العشب،كانت هناك أدوات مائدة،لكن المحليين يتجاهلونها،فحذوا الجميع حذوهم دون خجل،ما ان بدأ رسامنا بتذوق قطعة سمك حتى ( تك ) انتهت حفلة الاستقبال
قاسم الذي لم يكن قد تناول سوى قضمة من قطعة حلوى،قام فجأة بانحناءة تحية وتبادل بضع كلمات مع أشد ضباطه ضراوة،فخرج هذا راكضاً كي ينبه السائقين الذين ينتظرون خارجاً في السيارات
هدرت المحركات،قام الزعيم بتوجيه تحية عامة وغادر وسط عاصفة جديدة من التصفيق و ترديد الشعارات السابقة نفسها،تولاها الكورال الطلابي
رئيس البروتوكول أو شخص من هذا القبيل أفهمهم أمراً بأنه عليهم المغادرة،لم ينصع بعض المندوبين لأمر الابتعاد عن الموائد،و كانت لاتزال شبه ممتلئة بالمأكولات،فأشار لهم الموظف بحركات نشطة أن يخرجوا،ولو قليل لكان بعض الأعوان بالزي المدني أخرجوهم بالدفع
راحوا الجميع يخرجون في جماعات،ظل الرسام متأخراَ بعض الشئ مختلطاً بالمندوبين البرازيلين والتشيليين ومندوب كولومبي عندما نظر أحد البرازيلين الى الوراء و قال مذهولاً ( ما هذا )،التفت الجميع و رأوا كيف ان جمع رجال و نساء مهلهلين،يتضورون جوعاً،حفاة رؤوسهم مغطاة بكوفيات متطايرة،يدخلون راكضين من باب جانبي فتحه لهم جنود الحراسة وكان أخرون يتسلقون السور الحديدي المرتفع كالسعادين كي يقفزوا بعد ذلك من فوقه الى الحدائق،جميعهم اندفعوا الى الموائد كالضواري و راحوا يلتهمون بقايا المأدبة متدافعين،يوجه بعضهم لبعض ضربات المرافق والركلات،بعضهم يسقطون وينهضون متنازعين بالشد عظام الخراف و حفنات الرز متبادلين السباب بأفواه ممتلئة،كانت تطير في الهواء قطع من الأطعمة،وبين الماضغين ,كان هناك خمسة او ستة من جنود حراس الوزارة يناضلون بأيديهم،وكي يتمتعوا بحرية كاملة في الحركة،تركوا بنادقهم الأوتوماتيكية بعيدة مسندة الى شجرة نخيل
وقف رسامنا فاغر الفم،فتقدم اثنان أو ثلاثة من الشبان العراقيين وأبعدوهم عن المشهد بمزيج من الدعوات والدفع،و فلسف البرازيلي المشهد بالقول هكذا يتم اقتحام الثورة
مع مرور الأيام،راح النظام الاداري للمؤتمر يتردى،في البدء تهاوت المواقيت،فالجلسات العامة جدلية و متشابكة في نزاعات إجرائية،كانت تنتهي بتأخير متزايد يوماً بعد يوم،قسم الترجمة وطباعة الوثائق صار يتخلف،و عندما كانت نهاية المؤتمر تقترب،كانت قد أُنجزت للتو الطباعة الأولية لخطابات الجلسة العامة الثانية
ترهل الانضباط،وكان هناك مندوبين اختفوا نهائياَ،فالإيطالي على سبيل المثال ذهب ولم يعد الى المؤتمر،آخرون يأتون وهم يتثاءبون في الساعة الثالثة عصراً،فيلقون نظرة ساهية على احد اللجان و يخرجون بمرافقة شبان عراقيين حتى اتخذ المؤتمر الإيروتيكي الموازي مزيداً من الاهمية
المناقشات السياسية ازدادت حدّة،فالمندوب الصيني يتوجه بشتائم متكررة بصوت عال يرافقها رذاذ من اللعاب ضد الزعيم الطلابي الكندي الذي يمثل الأمبريالية الغدارة و الوحيد الذي حافظ على أعتداله السكسوني،بالرغم من أحمراره مثل بندورة من الغضب،و رئيس الوفد السوفييتي،وهو دب سيبيري بطول متر و تسعين سنتيمتراً،و عرض متر و سبعين،أشقر له وجه طفل رضيع،عندما تدخل قائلاً أنه من الملائم جداً للسلام العالمي ان تشارك اتحادات طلابية من أمريكا و كندا تمثل الرأسمالية شريطة ان تمثل الطلاب حقاً
هدد بعض المندوبين الأوروبيين بالانسحاب بسبب استبعاد إسرائيل،كان الأكراد يريدون المشاركة بالمؤتمر وهذه اول مرة يسمع رسامنا بالمسألة الكردية و رأى اكراداً من لحم و عظم لا يتميزون عن العرب سوى بوضعهم عمائم مدورة
كان المناخ الأيروتيكي يتزايد بأزدياد درجات الحرارة،فزادت الغزوات الجريئة على سراي الحريم في الطابق الثاني حيث يقيمون كما حدثت تبدلات غير متوقعة من شبان بينهم عراقيين يتبادلون المداعبات والقبلات بكثير من التلقائية وسط عبارات المزاح الثقيل التي تصدر من الأميركيين اللاتينيين حيث قام احد مندوبين كولومبيا بقلب عينيه لتصير بياضاً حين قال له احد الدومينيكان ( أنظر ياحياتي،سأذهب مع ياسر للنزهة على دجلة ! )،و طالب بيروي كهرب الجلسة بأحتجاجه بصوت أجش على السخط الأخلاقي،لأن السجناء العاديين يغتصبون الطلاب الجامعيين الذي تعتقلهم الدكتاتورية في سجون البيرو،بعدها بساعات فاجأه احد التشيلين وهو يتبادل قبلات طويلة مع أفريقي ازرق
تعّرف( هويركيو ) خلال المؤتمر على ( زكية ) التي تبين بأنها كردية فقد عاشت سنوات في سويسرا بفضل معجزة زواج ابيها من موظفة في الصليب الاحمر وكانت تتقن الفرنسية فبدا ذلك للرسام مفرحاً خاصة وأنه على خلاف مع اللغة الإنكليزية
أخذته زكية في جولة للمتحف الوطني العراقي وكيف ان موجودات المتحف جلها نماذج جبسية لأصل موجود في متاحف العالم وقالت له ( نعم لقد سرقوا كل شيء )،كما روت له كيف قامت الثورة بانتفاضة شعبية دامت ثلاثة أيام انتهت بالهجوم على القصر الملكي وكيف أٌبيدت العائلة الملكية الهاشمية،كان أكثر شخصية مكروهة هو رئيس الوزراء نوري السعيد وكانت تصفه برجل بدين جداَ حتى انها تفتح ذراعيها على اتساعهما عند الحديث عنه وكيف هرب متنكراً بزي امرأة،لكنهم تعرفوا عليه وكان هدفاَ لعملية إعدام سريعة ,حتى اخرجت له من حقيبتها قارورة صغيرة مملوءة بسائل شفاف،فيها رقاقة غير منتظمة الحواف بقدر سنتمترين وقالت – قطعة من نوري السعيد،كثير من الناس يحتفظون بمثل هذه القطع كتذكار،وبهذا القرف بدت زكية أقل سويسرية مما يتصور البعض
اول منظر استهوى الرسام هو صور فوتوغرافية معلقة بأطر لبرج بابل،هيكل البناء يبرز على خلفية سماء مكفهرة و المشهد مقفر تماما كصحراء مكسيكية،فأشارت له زكية بأنه زقورة فأخرج الرسام دفتر يحمله في جيبه دوماً و راح يرسم مخططات لما رآه
المشهد الثاني الذي حوله الى لوحة هو المشهد الخارق الذي تفاجأ به بعد خروجهم من اجتماع ليلي بأحد قيادات الحزب الشيوعي الذي كان يلتمس المعونة في موضوع المطابع …كان المشهد نحو مئة جسد ممدد على تراب الشارع،ملتفين بملابس عربية فأوضح لهم مرافقهم العراقي بأنهم فلاحون يأتون من الجنوب ولا تسمح لهم الشرطة بالذهاب الى مكان اخر،واضاف المرافق بأنهم هاربون من الاصلاح الزراعي بعد ان شن الشيوخ حملات انتقامية ضدهم ادت بهم للهرب
كان يسكن و زوجته إيفا في بيت استأجروه مع الحق باستخدام السطح كمرسم والذي هو برج حمام اجمل ما فيه وفرة الضوء وازعج ما فيه حاجته للتنظيف والضجيج الدائم من هديل ولهاث الحمام،كما انه عثر على متجر يبيع ادوات رسم واصباغ فاخرة،ملئ المرسم بعشرات اللوحات لمشهد (تمرة ) تلك الفاكهة التي لا يحبها لكون حلاوتها مفرطة و منظرها يوحي بالصراصير ولكن كل ما يفتنه هو اللون
اكثر ما كان يعانيه رسامنا ( هويركيو ) هو تأمين ايصال رسائله القصيرة التي يسميها بالتشيكي( الزابيسكا ) لعم زوجته ولصديقه البروفسور،فكان يستخدم المسافرون في اجازة للبلاد لايصالها و فكر مرة باستخدام البريد السياسي ولكنه استبعد الفكرة لكون نظام الحقيبة الدبلوماسي بيروقراطي و بطيء فضلاً على انه غير متكتم فلا حرمة للرسائل،لجأ لمبنى بريد بغداد وهاله ما شاهد من منظر كيفية توزيع الرسائل على السعاة فرسم ذلك في لوحة اخرى
بينتو – ذاك الدبلوماسي الفرنسي من اصول مغربية – شخص ضخم أسمر،له شعر زيتي وأجعد،يتكلم قشتالية اسبانية براءات فرنسية،يجيد اللهجة العراقية،انه صعلوك أبدي،مطلع على كل شيء،ومستعد للضحك من أي شيء،تميزه في ملبسه ربطات العنق،لديه مالايقل عن خمسين ربطة عنق،واحدة لكل يوم،جميعها حرير إيطالي،بزهور كبيرة وعرضها يملئ مساحة صدره،مع اهمال كبير لبقية ملابسه التي ليس لها ذاكرة مع المكواة و ملوثة ببقع أكل نتيجة شراهته ونهمه،يعمل في التجارة ويتجنب الحديث عنها
قادته صداقته لبينتو ان يعرّفه الاخير الى مالك احد مصانع السجائر،سيد وقور،يضع في يده اليسرى خاتما ذهبياَ بضخامة لا تُصدق،يستخدم حراس شخصيين من الوزن الثقيل يجلسون على منضدة مجاورة ولا يرفعون بصرهم عنه ولو لحظة واحدة،بولاء يفوق ولاء كلب،بينما الاخرون يحركون رؤوسهم حركة دائرية تغطي المكان،وايديهم تحت المنضدة !،وعندما زاروا المصنع الذي هو عبارة عن عنبر
خشبي مشبع بغبار التبغ،كانت هناك مناضد طويلة تجلس عليها نساء متشحات بالسواد او بلون رمادي كالفئران ينتجن مراحل تصنيع السجائر،بدت كأنها صناعة ماقبل عصر الصناعة،المشهد اغرى رسامنا بالبدء في تحويله الى تخطيطات وسط استغراب رئيس العمال الذي ابدى انحناء و تملق كبير في البداية
كما اخذه بينتو لعائلة تمتهن تجارة الخيول الأصيلة وتربيتها يعيشون في بغداد وهم في الأصل من الصحراء الغربية،يحافظون بغيرة على عاداتهم التقليدية ويسكنون قصر فخم،تمت استضافته على وليمة فاخرة واطعموه كفرخ انتهت بحالة تسمم معوي كادت زوجته ( إيفا ) ان تجن لمنظره عندما احضروه لها بعد اكله كل شيء حتى الجراد البري
لكن تلك المعرفة ادت الى رسم لوحة بديعة لحصان السبق ( سموم ) التي تستأثره العائلة على بقية الخيول،وحين تم تعليق اللوحة في ديوان الشيخ بكى لجمالها ودس ابنه مغلف كبير بالنقود في يد الرسام امتناناً لهذا التخليد
اللوحة الاخرى التي سجل تفاصيلها من حادثة وقوفه على غرق شاب في دجلة اكتشفه الصيادون الذين يقدمون سمك( المسكوف) على الشواطئ. كان الشاب مطعونا بمدية لأنه ناشط طلابي، ولكن الرسام الذي رأى فيه صورة المسيح، أدركه من ثلاث زوايا في لوحة يتحدث عنها: زاوية مطعم للارستقراطية العراقية مطل على دجلة زبائنه رجال ببدلات سموكن والسيدات ملتفات بفراء ثمين تظهر تحته مجوهرات تساوي كنزاً ، والجرف الذي رست عليه الجثة غريني احمر ، وجسد الشاب المسجى على طاولة الصيادين
والحادثة الاخرى وتلك مفارقة لا نعلم مقدار التوريات فيها، فسوق النخاسة في عراق الخمسينات يبدو محض خرافة ,هي شراء الرسام راقصة مغربية بربرية من سمسار ملهى عراقي ، واسكنها في بيت معزول له حديقة غناء, مالكه عقيد في القوة الجوية ,كان اسمها ( جميلة ) ولم تكن تجد صعوبة في التعري او اتخاذ وضع للرسم او لشيء اخر فقد كانت توليفة لون بشرتها قصيدة تفوق جمالية الحصان ( سموم ) مع جديلة طويلة وثقيلة اذا ما افلتت تتحول الى اشد انواع الوبر فخامة،كان المالك العقيد من عائلة التكريتي و يبدو انه زج نفسه في أمر استوجب ارسال مفرزة لتفتيش الدار،لهذا قررا الرسام و موديله البربري الوحشي الهرب من المنزل وكانت جميلة ذات خبرة تفوق خبرة ( باخ ) في الهرب،اودع الرسام موديله في اغلى فندق ببغداد وعاد الى داره المتغيب عنه اسابيع ليلاقي موجة غاضبة من زوجته .
كان الرسام قد قرر اخذ موديله لباريس مع مشكلة حصول جواز سفر لها لم يتمكن سوى بينتو من حل تلك المعضلة،في باريس عكف على رسم مجموعة تحمل عنوان البربرية،ومع ان مكر الراقصة ينتهي بهروبها مع سمسار آخر، غير أن الحادثة تتصل بمفهوم الإلهام عند الرسام، فقد شاء أن يرسمها ليخرج بلوحات باعها في سويسرا بمبالغ طائلة
بدت زكية بخيوطها العنكبوتية تصيد فريستها لانها لمست فيه تقارب و حب معرفة و تشابه اظهره لها الرسام بأنتمائه لأقلية المابوتشي سكنة امريكا الاصليين ومعركتهم لنيل حقوقهم المغتصبة فبدا للرسام ان ما يجمعه مع زكية هو نبل و شرف قضية اثبات الذات
احضرت له شخص ضئيل اسود يدعى ( طلال ) بلحية تبين انه ليس اسلامياً وانما كردياً ماركسياً،بدأ حديثه طلال للرسام بأنهم في العراق جالسين على برميل بارود لخطورة الموقف،ثم بدأ يحكي عن تاريخ الكرد مع ابتسامات متفرقة كمن يشكو من وجع ضرس،حدثه بأسهاب عن الزعيم العسكري الملا مصطفى البارازاني وعن مسيرته العظمى في الجبال عام ١٩٤٦ بعد سحق شاه إيران جمهورية مهاباد الكردية التي لم تدم طويلاً
ثم تطرق طلال لوضع المنطقة برمتها واتحاد مصر و سورية وقضية استبعاد عارف الرجل الثاني في الثورة بأرساله منفياً كسفير في بون الالمانية بدل اعدامه
ثم تحدث عن مؤازرة الكرد للشيوعيين واخمادهم انقلاب اتباع عارف في العام ١٩٥٩ استخدموا المدافع لكبح الانقلاب وعبأ البارازاني ثلاثون الفاً من البشمركة لسحق التمرد حيث سالت دماء كثيرة, ثم كيف تحول قاسم من ضربه للشيوعيين الى ضرورة مهاجمة الاكراد
وبعد ان تعب طلال من الحديث شارك زكية بنظرة تعلن البدء بالكشف عن نية اللقاء بمفاتحة الرسام لكونه يستطيع السفر بحرية ان يحمل رسائل لايصالها الى ناس يعينهم له طلال و زكية،بأعتبار التقرب لاي عراقي من سفارة اجنبية تهمة كفيلة بمحوه من على سطح الكرة الأرضية
قال لهم الرسام ( سأفكر ) وكان في قرارة نفسه غير مكترث وافترقا بمودة
اصطحبته زكية لسفرة في كردستان لايذكر منها سوى ان نعجة ميتة ابتسمت له وكانت ثيمة للوحة اخرى مهمة في حياته،وسيروي لنا تفاصيل الانقلاب عام ١٩٦٣ قبل ان يختفي للأبد،حيث شُوهد اخر مرة في الرواية وهو يتهيأ مع زكية للسفر لكردستان للانضمام مع جنود البشمركة
الرابع عشر من رمضان،لم يكن الزعيم قاسم،بالمصادفة،في مقره المعهود في وزارة الدفاع عندما بدأت طائرات قاعدة الحبانية هجومها،صباح يوم الجمعة الثامن من فبراير،كانت يوم عطلة الشوارع مقفرة والمتاجر مغلقة
في الساعة الثامنة والنصف توقف بث الإذاعة،جماعة صغيرة من العسكريين تمكنت من السيطرة على محطة البث الإذاعي القائمة في ضاحية بغداد الجنوبية الشرقية،في الوقت نفسه فوجئ قائد سلاح الطيران في منزله باقتحام جماعة أخرى من الضباط،وبمسدس رشاش موجه الى بطنه أجبر على توقيع أمر العملية ضد وزارة الدفاع،وفور توقيعه اعدموه
توالت العملية الثورية،طائرات قادمة من الحبانية،ظهرت في سماء قاعدة عسكرية يطلق عليها ( معسكر الرشيد ) وبما أن الجماعة المتمردة تعرف انها لن تكسب تأييد كل الضباط الطيارين في المعسكر لذا قامت طائرة قاذفة بتدمير كافة الأسراب الموجودة هناك
في أجواء الفوضى السائدة،شُن الهجوم على مبنى وزارة الدفاع،طائرات محلقة على ارتفاع منخفض،متبعة مجرى دجلة،مرت عدة مرات أمام الوزارة،كانت الطائرات توجه قذائفها بدقة ثم تعاود الارتفاع،ظن اهالي بغداد اول الأمر انها مناورات جوية
سرعان ماأذيع البيان رقم ١ عن المجلس الوطني للثورة،وأعلن خطئاً أن الدكتاتور الخائن لم يعد موجوداَ
عند الفجر – وبعد جولته شبه الروتينية في شوارع بغداد – ذهب الزعيم قاسم الى بيته في حي الكرادة،وهناك تفاجئ بالهجوم،ظل طوال ساعتين تقريباً على اتصال بالهاتف مع وزارة الدفاع،الى أن قرر بين – الساعة العاشرة والعاشرة والنصف – ان يذهب بنفسه الى مقر قيادته ليقف على رأس مقاومة الانقلاب،وقبل ان يدخل المبنى المقصوف جال في عدد من أحياء العاصمة،بهدف تقويض التأثير الذي خلفه الإعلان عن موته
في أثناء ذلك،شهد الأهالي مبارزة استثنائية بين الإذاعة والتلفزيون العراقي،فالإذاعة وهي بأيدي المتمردين تعلن موت قاسم،بينما التلفزيون يعلن ان قاسم ما زال حياً ويقود المقاومة،وجرى عرض مشاهد وهو يخطب محرضاً الجموع
أمر المجلس الوطني للثورة قصف مبنى التلفزيون،بهذا فقد قاسم التواصل مع سكان بغداد
مع انتهاء الصباح المضطرب،كان قاسم لايزال يسيطر على وزارة الدفاع،وكان السبعمئة رجل المكلفون بحمايته قد نظموا الدفاع بطريقة لا يمكن معها الا الطائرات أن تهاجمهم
بعد ظهر يوم الجمعة خفت حدة الهجوم،وكانت الإذاعة لا تزال تبث موسيقى عسكرية – مصرية في الغالب – وتعلن بيانات تأييد حقيقية أو مزعومة للحركة،وفي هذه الأثناء،اتصل قاسم هاتفياَ بالعقيد عارف،وحاول دون جدوى التفاوض مع حركة التمرد
الطائرات المهاجمة صارت أقل عدداً،وقد أُسقطت إحداها ببطاريات وزارة الدفاع،وتواصلت مقاومة قاسم،غير أن تعزيزات بدأت تصل الى المتمردين
وفي حوالي الساعة الثامنة عشرة والنصف بدأت تدخل إلى بغداد دبابات معسكر ثالث،مواقعه أكثر بعداَ عن العاصمة،وببطء راحت الدبابات تقترب من وزارة الدفاع،وبدأت تطلق النار على المبنى
استسلم قاسم حوالي الساعة السادسة وأُعدم قرابة الساعة الثالثة عشرة والنصف في قاعة الموسيقى العربية بإذاعة بغداد التي تحولت منذ يوم الجمعة الثامن من فبراير إلى مقر قيادة التمرد
في فيلم الإعدام الذي بثه تلفزيون بغداد يوم السبت ٩ فبراير ليلاً – بين فيلمي رسوم متحركة امريكيين – شوهدت بالقرب من قاسم والثلاثة الأخرين الذين أعُدموا معه،الآت موسيقية عربية تابعة لفرقة الإذاعة الموسيقية
اما الأن سيروي الوقائع للرسام أحد قادة الجيش الذي طلب الحفاظ على سرية أسمه حيث قال
قوات متمردة مع دبابات وعربات نقل جند مصفحة شنت هجوماَ على مقر قيادة قاسم في وزارة الدفاع الساعة التاسعة من يوم الجمعة ٨ فبراير
المقاومة الشرسة التي أبداها ستمئة جندي موالين استمرت يوماً وليلة،إلى أن تمكنت القوى الثورية من شق طريق إلى المبنى الذي تحصن فيه قاسم،ومن وسط أنقاض قيادة الشرطة ظهر قاسم ليستسلم في الساعة الرابعة عشرة من يوم السبت،كان يحمل مذياعاَ نقالاَ تحت إبطه،ولوّح بيده الأخرى قائلاَ ( اريد التكلم مع أخي ) وبدا نزقاً كعادته
خرج العقيد فاضل عباس المهداوي مع قاسم صارخاَ ( أرجوكم،لا تقتلوني،لم أفعل شيئاً ,أنا أخوكم )
تقدم جندي عادي من قاسم و صفعه على وجهه ,قائد القوة المتمردة أخذ قاسم والمهداوي إلى إذاعة بغداد،شكل اثناعشر ضابطاً هناك محكمة ميدانية،وسأله عارف الذي ترأس المحكمة 🙁 من الذي قام بالثورة،أنتَ أم أنا ؟ )
أجاب قاسم : ( أنتَ )
سأله عارف : ( لماذا أكدت أنك من قمت بالثورة وأنني خائن ؟ ) رد قاسم 🙁 لا ,أنا الخائن،ولكن أرجوك أنت أخي،أرجوك دعني أغادر بغداد،دعني اذهب إلى فيينا ) سأله عارف 🙁 لماذا أعدمت أصدقاء و ضباطاً من رفاق السلاح الذين قاموا بالثورة معنا ؟ ) أجاب قاسم : ( لستُ من أمر بإعدامهم،إنها المحكمة العسكرية )
التفت عارف نحو المهداوي قائلاً 🙁 هل هذا هو رئيس المحكمة العسكرية ؟ ما الذي يعرفه من القانون ؟ ) صاح المهداوي 🙁 أرجوك،لا تقتلني )
و وجدت المحكمة الميدانية قاسم والمهداوي مذنبين،فأقتيدا إلى غرفة صغيرة طولها متران و عرضها متران،وأعدما رمياً بالرصاص