يتقاسم المهتمون بالأشكال والأنواع الأدبية الرأي، على أن الفن القصصي، القصير والروائي، يعيش راهناً سنواته الذهبية، لبنانياً وعربياً ودولياً. قديماً قيل أن الشعر ديوان العرب، تقهقر الشعر أخيراً، باستثناء بعض شعراء مبدعين ما زالوا يحتفظون ببعض قرائهم، بعدما صارت المطالعة «موضة قديمة» في زحمة غزوة وسائل التواصل الاجتماعي، وحيث على مبدأ «كل مواطن خفير»، كل مواطن، مهما بلغت درجة ثقافته، الدنيا والقصوى، يمكن أن يعتبر نفسه شاعراً بطريقة ما وفي مكان ما.
الكتابة القصصية والروائية في مبادئها وتوجهاتها وأهدافها، تجسّد إبداعاً آخر لا يجيده سوى أصحابه، وليس له مكان على وسائل التواصل الاجتماعي؛ نظراً لجديته ولصعوبته ولقرائه. تفترض القصة والرواية، حسب الروائي حسن داود، الذي اختصر موقفه بالقول: «هو الشكل الأكثر تداولاً لدى من تبقى من القراء في الدول العربية، وهم أقلية تزداد أقلية يوماً تلو آخر، لارتباط الأجيال الجديدة بالتقنيات والمشهديات على الشاشات المحمولة».
يفصل الناقد سليمان بختي، ما بين فن القصة القصيرة والرواية الطويلة، «هناك تراجع لافت عن كتابة القصة القصيرة على الصعيدين العربي والدولي لأسباب كثيرة، في مقدمتها أن القصة القصيرة تحتاج إلى أسلوب السهل الممتنع. فإن كان الاقتصاد أصعب العلوم المالية، فإن اقتصاد الكلمات في القصة القصيرة واعتماد الإيجاز للتعبير عن موضوع كبير ومتشعب، هو أصعب أنواع الأدب، واحترافه يحتاج إلى براعة لغوية وقاموس واسع من الأفعال والأسماء والصفات والمفردات، تمكّن القصاص من اختصار جملة كاملة بكلمة أو كلمتين».
في مقابل ذلك، يكشف بختي عن الأسباب التي أدت إلى ذيوع وانتشار القصة الطويلة المسماة رواية، «فهي تحمل قدرة احتواء ومعالجة القضايا التي تواجهها مجتمعاتنا، وأيضاً بسبب الجوائز الروائية التي أسهمت في تشجيع الروائيين ودور النشر على خوض غمارها، والمنافسة على الفوز بأكبر عدد من القراء من خلالها».
هل يعني ذلك اكتمال المشهد الروائي العربي بشروطه الأدبية والإبداعية، وهذا ما عجزت عنه القصة القصيرة؟
يرى بختي «أن الاثنتين مقصرتان حتى الآن». يضيف «القصة قصيرة كانت أم طويلة دونهما أهوال ومصاعب.. كتابتهما تحتاج إلى براعة واختصاص وموهبة. ثلاثية الإبداع التي تمكن القصاص والروائي من التصدي للوقائع القاسية والمرة، كما الجميلة والمؤثرة.. وفي الحالين، وكما تبين أرقام المبيعات، أرى في النهاية محاولة صادقة تشير إلى وعي الكاتب والقارئ معاً، إلى عصف تغييري يبدأ في الفن والثقافة، وليعكس تداعياته الإيجابية على المجتمع».
الدكتور محمد أبوعلي عميد كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، والاختصاصي في اللغة العربية، ربط ازدهار القصة القصيرة والرواية أو تقاعس الاثنتين عن تحقيق إنجازات تتطلب مهارات لغوية وخيالاً واسعاً وقدرة إبداعية على ربط الأحداث بعضها إلى بعض بما أسماه «النسق العام الذي يحكم التحولات في العولمة وبدونها..» ورأى أن المجتمعات الاستهلاكية أو السوبر استهلاكية في حالتها الراهنة، تبحث عن لغة مطمئنة.
وأقول ببساطة، إن ازدهار القصة أمام تقهقر الشعر مرده إلى طبيعة هذا المجتمع الاستهلاكي، الذي يلهث في إيقاع سريع عن المعلومة بالطريقة الأيسر والأسهل، وهذا ما تؤديه القصة القصيرة والرواية الطويلة على أكمل وجه. الاثنتان تعينان القارئ على استحواذ شيء من الطمأنينة الظرفية، وسط هذا الخواء المتمادي بفعل التطورات التقنية المتلاحقة والمتسارعة، التي أخضعت المجتمعات لشروطها ومتطلباتها، وهي مناخات تتعارض مع الإبداع الشعري الذي كان في أيام مضت «ديوان العرب» ودعني أذكر أن بعض المجتمع الجاهلي كان يقرأ الشعر على قبور الموتى، ونحن اليوم نقرأ القصة أو الرواية، أو نشاهدهما أحداثاً درامية ونحن أحياء نلهث خلف الموت.
الكاتب والناقد عباس بيضون يؤكد أن الوقت الحالي، أكان في لبنان أم على الساحة العربية، هو وقت الرواية، «فنحن اليوم لا نستطيع إحصاء عدد الروائيين والقصاصين الذين يظهرون كالفطر كل يوم».
ويوضح بيضون: «في السنوات الأخيرة، لم تعد القصة القصيرة أو الطويلة فن أقلية.. ففي لبنان مثلاً، كان بالكاد يسعنا العثور على سبعة قصاصين وقصاصات، واليوم نعجز عن متابعة ماذا يجري في عالم الرواية، ولا عدد الكتّاب في هذا المجال، الذين عليهم كما أرى، أن ينتظروا على الرف قبل أن ينفذوا إلى البلدان الأخرى المحيطة، وقبل أن يحققوا ولو بعض الشهرة في هذه البلدان».
ويلفت بيضون إلى ما صار كلاماً مألوفاً عن عجز الفرد العربي «الذي بالكاد يقرأ في السنة بضع صفحات من كتاب.. ومع ذلك نتساءل: ماذا عند العرب غير الرواية والشعر للقراءة؟، فإن نحينا جانباً الشعرَ الذي بات صعباً وجفّت كلماته، تبقَ القصة والرواية الفن الكتابي العربي الوحيد إلى حد كبير، كما أن القصة والرواية باتتا ميزان الموهبة الأدبية الوحيد تقريباً». ويستطرد: «في العالم نرى الرواية على عرشها الذي تبوأته منذ عشرات السنين، وهي اليوم في مرحلة انتقالية. الروائيون الذين جرى تتويجهم في القرن الماضي، يغيبون الواحد تلو الآخر عن المسرح، وبالتالي بات الناقد عاجزاً عن تحديد أطر الرواية الحالية التي باتت تجمع كل شيء: دراما، فانتازيا، ثقافة.. رواية تتمرد على كل الصيغ الروائية المعروفة، متحررة، متنوعة ومتعددة».
الروائي والناقد محمد أبي سمرا لفت إلى أن طغيان النصوص القصصية والروائية على الشعر. ظاهرة تبدّت بوضوح منذ حوالي عشرين سنة مع أفول شعراء المقاهي – ولم يكونوا شعراء بالمعنى الحقيقي- هذا لا يعني أن النصوص النثرية، الروائية والقصصية، كانت غائبة عن الساحات الأدبية اللبنانية والعربية، لكن هذه النصوص عادت اليوم لتفرض سيطرتها وتشد الأغلبية الساحقة من القراء إليها».
أبي سمرا عدّد أسباباً كثيرة لبروز القصة النثرية وغياب الشعر الذي غالباً ما كان يطلع من حياة ثقافية تسيطر على بؤر محددة أو تدعمه شلل معينة، في حين أن النصوص القصصية والروائية انطلقت بغير معايير ولا أرضية ثقافية، لدرجة أن أشخاصاً يفتقدون أقل الشروط الأدبية يكتبون اليوم الرواية، ويعملون على نشرها من خلال دور النشر، أو بمبادرات ذاتية، ما يفيد أن هذه الكتابة يمكن أن يقدم عليها أحدهم وهو يفتقد الحساسية الكتابية أو الأدبية.
إلى ذلك، يضيف أبو سمرا، «ساهمت وسائل التواصل الحديثة والمتزايدة حداثة وإقبالاً من جمهور الشباب والشابات، في إبراز ظاهرة طغيان القصة والرواية على الساحات الأدبية اللبنانية والعربية، وغالباً ما نقرأ لكتّاب مجهولين على صفحات «الفيس بوك» فنتساءل، هل وصل الأدب إلى هذا الدرك من الأخطاء اللغوية والنحوية لدرجة استخدام مفردات أجنبية، أمريكية على الأغلب، ما يؤكد سهولة التعاطي مع هذا الفن الأدبي، الذي أبدع فيه عشرات القصاصين والروائيين الأوروبيين والروس منذ بدايات القرن الثامن عشر وحتى اليوم؟».
في حين أن ما يدونه «الفيسبوكيون» ليس أكثر من مدونات يومية، تفتقد إلى أصالة فكرية أو ذهنية.. إنما هذا الانحطاط لا ينفي وجود أعمال روائية ناجحة وذات معنى، إنما قليلة حتى لا نقول نادرة.
_______
*الخليج الثقافي