الكتاب الذي أعود إليه اليوم هو «تاريخ موجز للأدب السرياني» (1966) من وضع المستشرق البريطاني «وليم رايت» (1830-1889). الكتاب توسيع وتنقيح لمادة كانت في الأصل ضمن مندرجات دائرة المعارف البريطانية في العام 1894، أي تم توسيعها بعد ما يقارب سبعين عاماً. أما لماذا العودة إليه وفي هذا الوقت بالذات، فلسبب ضروري وجلي في ذهني على الأقل؛ للرد على ما بدأ يحتطبه بليلنا البهيم عددٌ من حملة الألقاب العلمية على شاشات فضائية تعد وتصمم برامج تسهل على هؤلاء ضخ معلومات مضللة، لغوية وتاريخية وعقائدية، أمام جمهور قابع في العتمة، غير مختص، ولم يصل إليه علم وطيد باللغات القديمة، وخاصة بالآرامية، التي تسمى «السريانية»، والعربية القديمة والحديثة، والعلاقة بينهما.
أول عهدي بهذا الاحتطاب العشوائي كان عبر برنامج تلفازي منذ وقت قريب يقرّر فيه أحد هؤلاء «العلماء» المتلفزين بكل بساطة أن العرب لم تكن لديهم لغة ولا أبجدية، بل ولم يكونوا على شيء من العلم، كانوا جهلة غير متحضرين، في زمن نزول القرآن الكريم، ولهذا نزل القرآن، بلغة سريانية وكتب بالأبجدية السريانية، ثم اخترع العرب بعد ذلك ما تسمى اللغة العربية. ويسأل هذا المحتطب المذيع:«هل تعرف معنى كلمة (حوب)؟»، فيرد هذا بكلمة «لا»، ليعلن السائل انتصاره: «هذه كلمة سريانية». معنى هذا الكلام أن القرآن كتب بالسريانية أولاً، ثم ترجم إلى «العربية» المخترعة بعد نزوله!.
بتأثير هذا التهريج اللغوي، القريب من الدجل، راجعت بعض الدراسات في اللغات القديمة، والعلاقة بين عائلة «اللغات العربية» التي أطلق عليها مستشرق نمساوي «اللغات السامية»، هرباً من صفة العربية، مثلما تواصل هذا الهرب في شتى الحقول الجغرافية والتاريخية والأدبية، ووصل بأصحابه، وبعضهم من العرب، حتى إلى إنكار أن يكون هناك وجود للعرب، في الماضي والحاضر.
خلال هذه المراجعة وقع بيدي كتاب لباحث ألماني يدعى «كريستوف لوكسنبرغ» عنوانه «قراءة القرآن باللغة السيريانية/الآرامية: مساهمة في فك رموز لغة القرآن». وهنا أدركت مصدر «معلومات» هؤلاء المحتطبين العرب، السعداء بإطلالاتهم الفضائية أمام «محاور» لاقطٌّ له ولا قطة في موضوع أحاديثهم.
كتاب المستشرق البريطاني، وإن تضمن مغالطات مثل رؤيته في سيادة العربية تلاشياً للآرامية وليس اندماجاً بين لهجة قوم وعودتها إلى اللسان الأصلي، ومثل حرصه على معاملة الثقافة السريانية بوصفها ثقافة «مسيحية» لا عربية، جرياً مع تصنيف غير منطقي، لأن اعتناق دين ما لا يعني انتفاء صفة معتنقيه القومية الجامعة، إلا أنه لم يصل إلى حد نفي وجود متكلمين بالعربية في صدر الإسلام، أو أنهم كانوا بلا لغة، أو أبجدية مكتوبة كما هو شائع على نطاق واسع حتى الآن.
ولكن الملحوظ أن معظم الأدب السرياني، الذي تناوله موجز هذا المستشرق، هو أدب ديني يتعلق بتواريخ الكنائس الشرقية، وهذا الجانب على أهميته لم يكن إلا جزءاً من الصورة؛ فإلى جانب كتبة هذه التواريخ، هناك فلاسفة ونحاة ومترجمون كان لأعمالهم دور كبير في الثقافة العربية، وهو دور يتجاوز مجرد النقل عن اليونانية، إذا عرفنا أن لا اللهجة الآرامية ولا الاهتمامات الدينية بعيدة عن اللسان العربي، واهتمامات العرب المتنصرين، بما فيهم الآراميون، منذ القرون الميلادية الأولى وصولاً إلى قرون الحضارة العربية في مرحلتها الإسلامية التي عادت فيها لهجات أسرة اللغات العربية إلى لغتها العروبية في المشرق والمغرب، ولم يكن هناك «تعريب» كما هو شائع، بل عودة اللهجات إلى اللسان الأصلي.وهذا الجانب هو الأكثر أهمية بالنسبة لموضوع علاقة العرب السريان ببيئتهم العربية، ومع ذلك لم يحظ باهتمام «رايت» ولا من تابعه من المستشرقين. وظلت مراحل مهمة دالة على التمازج وعودة أصحاب اللهجات إلى لسانهم القومي في الظل وكأنها لم تكن، وخاصة مع امتداد الفتوح العربية إلى أعالي وادي الرافدين، وضم الممالك العربية الصغيرة، بعربها المسيحيين وعربها الوثنيين، مثل مملكة اللخميين في الحيرة، وكندة وثعلبة والغساسنة، وبدأ يتزايد استخدام اللسان العربي القادم من الجزيرة، واضمحلال اللهجات المحلية بما فيها الآرامية. ومع ازدهار الأدب العربي في مرحلته الجديدة بدأت تصب فيه كل روافد الأدب القديم، وتساهم فيه شتى التيارات المحلية بوصفه الإطار الجامع لطور حضاري جديد.
ولأن هذا الجانب من التاريخ الثقافي ظل بعيداً عن ثقافة الإنسان العربي، ولأن كتابة هذا التاريخ وتحريره ظلت بيد المستشرقين والإطلال عليه من نوافذهم، سهل على كل محتطب بليل أن ينشر ما يشاء من أوهام وأضاليل. وأكبر أسباب دوام هذا الحال هو تجاهل العلاقة الحميمة بين الآرامية والعربية، تلك التي لا تتجاوز علاقة أي لسان بإحدى لهجاته. وفي ضوء هذا من المدهش أن نجد أستاذين للغة السريانية في الجامعة اللبنانية، «فولوس غبريال» و«كميل البستاني»، لا يستطيعان التعرف على عبارة عربية مثل «مالي وله؟» الآرامية المنطوقة هكذا، بل ويترجمانها بعبارة «ماذا يهمني أمره؟»، وكان الأولى بهما أن ينقلا العبارة من الحرف الآرامي إلى الحرف العربي فقط، لا القيام بترجمة لا مبرر لها، لأن نطق العبارة ومعناها واحد، سواء نطقها سرياني أو عربي. بعد اكتشافي مصدر التخريف الذي جاء به ذلك «العالم» المتلفز، في النص الألماني وترجمته إلى الإنكليزية، لا أجد ضرورة لملاحقته، الأكثر جدوى قراءة ماذا يقول ذلك الألماني الذي ينطلق في كتابه من فرضية خطأ، وهي أن لغة القرآن محتشدة بالرموز، ولذا يلجأ إلى قراءته باللغة السريانية/ الآرامية، ويصدر كتاباً بهذا المعنى في العام 2000، ثم يصدر طبعة جديدة في العام 2004، لتجد عندنا من يتلقفها، ويستعد لإصدار طبعات أخرى. أما لماذا لا يلجأ إلى المعاجم العربية، فلأنها كما يفترض متأخرة. يقول بداية: «لا تزعم هذه الدراسة بقراءتها السريانية/الآرامية للقرآن أنها تحلّ كل ألغاز لغة القرآن. إنها مجرد محاولة لإضاءة عدد من الغوامض في لغة القرآن.. من منظور أن السريانية/ الآرامية المعنية كانت أكثر اللغات الثقافية المكتوبة أهمية في المنطقة التي ظهر فيها القرآن، في وقت لم تكن فيه العربية لغة مكتوبة بعد، وفي وقت استخدم فيه العرب المتعلمون الآرامية كلغة مكتوبة».مغالطات وأخطاء هذا الباحث كثيرة، وعلى رأسها اعتباره لغة القرآن ملغزة، شأنها في ذلك شأن الهيروغليفية مثلا، وتحتاج رموزها إلى فك. بالنسبة لمن؟ لم يجب على سؤال مثل هذا على الأرجح لأنه لا يريد أن يعرف أن هناك عرباً ولغة عربية، بل يود أن يواصل وهم أن القرآن لم يُكتب بأبجدية عربية، بل ولم تكن ألفاظه عربية، وربما لم يكن للعرب وجود. ويضيف افتراضه الذي يشاركه فيه عدد كبير من الجهلة أن العربية لم تكن لغة مكتوبة قبل نزول القرآن، أساساً افتراضياً آخر لا يقل خطأ عن رأس افتراضاته. العربية كانت مكتوبة وتكتب في زمن نزول القرآن وقبل ذلك ببضعة آلاف من السنين، ولكن بأبجديات مختلفة، فقد كتبت العربية الأكادية، وفرعيها البابلي والآشوري، بالخط المسماري، وكتبت بالخط المصري القديم (الهيروغليفي)، وبالخط المسند اليماني في كل أنحاء الجزيرة العربية. هناك دراسات ممتازة عن عربية الأكادية وفرعيها لم تحظ حتى الآن بالانتشار، وهناك قراءة الهمداني، صاحب «صفة جزيرة العرب» للخط المسند قراءة متمكنة، ولكن الأكثر إثارة قراءة عالم الآثار المصري «أحمد كمال باشا» (1851- 1923) للهيروغليفية، أبجدية اللغة المصرية القديمة؛ وخير ما نختم به موضوعنا هذا المقتطف من محاضرة عالم الآثار هذا، المجهول منجزه حتى في وطنه في العام 1914:
«إن كثرة مطالعاتي في اللغة المصرية القديمة منذ كنتُ في الثامنة عشرة من عمري إلى أن بلغت الستين، مهدتْ لي سبيل الوصول إلى اكتشاف غريب مفيد، ألا وهو أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة من أصل واحد، إن لم يكونا لغة واحدة، افترقتا بما دخلهما من القلب والإبدال، كما حصل في كل اللغات القديمة».