أن ألكُم ماذا؟

خاص- ثقافات

*جابر السلّامي

أحيانا، تتملّكني رغبة في لكمِ شيء ما. لكم وجهٍ على سبيل المثال، جدار مبنى عتيق أو لكْم سطح الماء. يتردّد صدى اللّكم في ذهني كذبذبات جامحة تنتفض مرتطمة بحاجز الوعي. لكن اللّكم، كحركة، عادة ما يفضي إلى نتائج مؤلمة. هذا ما يؤجّل اتّخاذي لقرار اللّكم حتى حين. ودون نسيان حاجتي إلى اللّكم، واصلتُ سيرورة حياتي بروح ناسكٍ. أصطاد المعنى.

كنت أتردّد على نادٍ فكريّ مرّة في الأسبوع، نناقش أفكارا فلسفيّة في حلقات حوار مع ثلّة من الطّلبة والمتقاعدين والباحثين عن المعنى. أذكر أنّنا ناقشنا الأسبوع الفارط موضوع السّفر عبر الزّمن. كان موضوعا شيّقا. وانتهينا إلى فكرة استحالة العودة إلى العصور الغابرة في الوقت الرّاهن. خلّف ذلك حزنا عميقا هزّ كيان طالبة انثروبولوجيا مهتمّة ببحوث الفيزياء الكمّيّة.
– لا نستطيع الرّجوع بالزّمن إلى الوراء. قال رجل متقاعد من سلك البريد.
– البحوث متقدّمة في هذا المجال، لا غرابة في العودة إلى زمن الدّيناصورات. أجابه أستاذ علم الأحياء بحماسة.
التفت طالب مسرح إلى الأستاذ بعفويّة قائلا:
– سيشاطرونك رحلة شيّقة إلى حتفك.
ومكثنا نقهقه لبرهة. كان ذلك الأسبوع الماضي. ونحن، الباحثون دائما عن المعنى، لا ننفكّ نبتكر مواضيع شتّى استنادا إلى أيّ شيء غير ذي معنى. اليوم سأبتكر موضوعا للنّقاش. المواضيع المطروحة من قبل مرتادي النّادي تخضع لترتيب معيّن. وحسب التّرتيب المنصوص عليه في النّظام الدّاخلي للنّادي حان اليوم دوري في اختيار موضوع نقاش هذا الأسبوع. اتّخذنا أماكننا المعتادة مكوّنين حلقة. همهمات وشذرات أفكار تسبق النّقاش. توجّه إليّ منشّط النّادي قائلا:
– اليوم نستمع إليك، لك حرّية اختيار موضوع هذا الأسبوع.
كانت فكرة إدراج موضوع اللّكم في حلقة النّقاش أمرا مربكا نوعا ما. ذلك أنّ الإقرار بفاعليّة جدواه كمحور اهتمام غير مضمون. تردّدت قليلا قبل أن أجازف قائلا:
– أفكّر في الحاجة إلى لكْم الأشياء.
تناثرت النّظرات حولي بين ساهمة ومتوجّسة.
– اللّكم فرصة لتبديد غضب دفين. قالت طالبة الأنثروبولوجيا.
– أو إجابة فعليّة لحركة ما إثر شجار لفظيّ على سبيل المثال. أجاب موظّف البريد.
كانت معظم الإجابات مراوحة بين تبديد الغضب واستنزاف النّشاط الإضافيّ. كنت أفكّر في لكْم سطح بحيرة راكدة وأن تطرب أذني لصوت الماء المضطرب. لكْمُ الماء يبدو كزرع فكرة داخل فراغ مليء بالإسفنج بصوت رنّان مليء بالمعنى.  ووجدت راحة قصوى في تخيّل لكم الماء، تلك الرّاحة التي ما إن تستفق من نشوتها الذّهنيّة حتى تحاول من جديد لملمة معناها المتلاشي في العدم.
– الفارق يكمن في مدى طراوة الأشياء الملكومة أو صلابتها. بمعنى أن ندرك إدراكا مطلقا نتيجة اللّكم المزمع تنفيذه.
كانت تلك مداخلة لمحامية حديثة عهد بالنّادي الفكريّ. خضعت فكرتها لمنطق فيزيائيّ حصرا فلا وجود للّامعنى في حديثها. أستشفّ هذا من مداخلتها بسلاسة. لكنّني كنت أبحث عن إجابة لسؤال الحاجة إلى اللّكم، إجابة لا تخضع للمنطق بتاتا لأنطلق بها إلى المعنى الشّافي. كانت الإجابات على اختلافها عقلانيّة، لا تنبش في الجانب اللّامعقول لفعل اللّكم. واستمرّ النقاش يمهّد للمعنى المراد استخلاصه رغم محاولات بعض الحاضرين ابتكار أجوبة لا معقولة.
باغتني سؤال مفاجئ، سؤال كلفحة هواء قطبيّ حيث لا تستطيع فعل شيء حياله سوى إدراك البرد.
– ما يمنعك من اللّكم الآن؟ قال موظّف سلك البريد. لم أجد إجابة سريعة أو بالأحرى عفويّة لأنّني لم أكن قد حدّدت هدف اللّكم بعد. تداخلت الإجابات في ذهني كشياطين مرفرفة ترمي حلقة النّقاش بسهام ملتهبة، وطوّقني انتظار الحاضرين بلجام من صمت. فكّرت أن الإجابات تكون حتما آثمة إذا ما تطلّبت وقتا طويلا لكي تُنطق. تكاد تكون مسؤوليّة ضخمة، كاتّخاذ قرار إعلان حرب أو هدنة. أآثمون نحن عندما نسأل ونواجَه بسؤال؟
ابتلعتْ فكرة الإثم اللّامبرّر سؤالي حول ماهية الحاجة إلى اللّكم. كانت حلقة النّقاش كساحة عِقاب زادها الوقت ضيقا وصرت أحرّك رأسي يمنة ويسرة كأسير يناور أغلاله، وادلهمّ الفضاء أمامي إلاّ من وميض هلاميّ يظهر كفكرة لطيفة، ثمّ ما لبث أن صار يتّخذ أشكالا هندسيّة إلى أن استقرّ على شكل مربّع.  بدا لي المربّع كإجابة رائعة لأسئلة موضوع اللّكم، إجابة واضحة بلا شوائب. وانطلقت نحو هدفي ألكمه بقبضة مليئة بالغضب والفرح معا متناسيا أغلال الأسئلة. طفقت ألكم بلا هوادة، بقبضتي اليمنى ثم باليسرى حتى امتلأ ذهني بإجابات شتّى عن الحاجة إلى اللّكم وانتبهت إلى تناثر دماء يدي على الأرضيّة.  كانت الأنظار متوجّهة بفزع نحو إطار زجاجيّ مهشّم للوحة زيتيّة لوجهٍ متفسّخ الملامح بآثار دماء متفرّقة كشياطين صغيرة مبتسمة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *