خاص- ثقافات
*محمد بقوح
1
.. تعثر.. ثم توقف عن الجري فجأة. أنفاسه تتوالى.. قلبه يكاد يخرج من صدره. وجهه الواسع والملتحي يتصبب عرقا.. كان متعبا جدا. فهو لم يسبق له أن بذل مثل هذا الجهد البدني منذ وقت طويل. ربما منذ زمن الطفولة والصبا. حين كان يطارد رفقة أقرانه في ملعب الحي الكرة البلاستيكية التي اشتروها بأموال إعانات المارين في الشارع العام. فكر في الجلوس. لكنه تردد. الشارع أمامه طويل، يكاد يخلو من الحركة، عدا حركة بعض الكلاب الضالة التي تحتك فيما بينها.. هنا وهناك.
البرد قارس جدا. التفت عبّون إلى الوراء. لا وقت للجلوس. في آخر الشارع، تبين له نور المصباحين اليدويين يتحركان. تأكد عبون آنذاك أن الشرطيين لا يزالان وراءه، يطاردانه. انطلق من جديد يعدو كحصان هائج. تابع جريه بكل ما لديه من قوة. مال بعد لحظات إلى يسار منزل كبير من طبقتين. دخل زقاقا مظلما وضيقا. إن عبّون ابن منطقة “جمافو”، يعرف دروبها وأزقتها كما يعرف ملابسه. وقد سبق له أن زار هذا الزقاق فقط في بداية الأسبوع الجاري، حين التقى بأحد معارفه هنا في حفل قيام هذا الأخير من فراش مرض، على إثر تعرضه لحادثة سير.. هذا ما تمت إشاعته في المدينة. اختفى عبون نهائيا في الظلام الدامس والكثيف. بعد قليل، سمع حديث الشرطيين الواقفان بجوار عمود كهربائي.
– الأول : قد يتيه بين تلك المنازل هناك.. فلنسرع..
– الثاني : ( بعصبية وانفعال ).. ولد الكلب.. كأن الأرض ابتلعته..
– الأول : إذن.. فلت منا.. من جديد، كجميع المرات.. لا يمكن أن يحدث هذا..
– الثاني : ( يلتفت، باحثا بعينيه الوهاجتين يمينا ويسارا ). لو كنت أقدر على دفن رأسي، تحت هذه التربة ( ضرب الأرض برجله اليمنى ) لفعلت..، أحسن لي من العودة.. هكذا إلى المخفر بدون هذا الملعون التعيس، وخالي اليدين..
– الأول : ابن الزانية.. كل مرة يفلت من قبضتنا.. وكأنه يشغّل معه الشياطين..
2
حين هدأ الجو، وأدرك عبّون بحسه المرهف المعهود أنه نجح بالفعل في هزم الشرطيين للمرة الثالثة على التوالي، وأنه نجا من قبضتهما التي كانت وشيكة هذه المرة ككل المرات، ظهر بجسده القوي، وبقامته الصلبة والطويلة. تنفّس الصعداء. شعر بنوع من الارتياح يسري في داخله. لكنه، ارتياح غير مأمن. فعيناه المشعتان في حركة دائمة. لأن الشرطيين قد يقفان أمامه في أية لحظة. فكر، وهو يمشي في اتجاه الغابة كما يفعل دوما، بعد كل هروب ناجح، يحققه من قبضة البوليس. لكنه، هذه المرة، أخذ يفكر جديا ” لماذا لا يتركونني وشأني. لا أسرق. ولا أتعرض لطريق الناس. إني أكسب قوتي بالكيفية التي أقدر عليها. أعرفهم. لن يروا ذلك اليوم الذي يحلمون به. أفضل الذهاب إلى الزنزانة من الخضوع لتهديداتهم.. أنا القمر الفضي الذي يظهر ويختفي. أنا القمر المسكون بكل الأشجار والوديان والجبال ولون الأمطار.. بكل طيور العالم. أنا أقوى منهم (قالها بانفعال).. وقدماي أسرع وأطول من آذان “كلابهم” التي لا تنام “.
عندما وصل قرب شجرة الكاليبتوس الكبيرة والضخمة.. جلس، ثم أخرج سيجارة من جيبه مع قطعة حشيش.. فشرع في تحضير سيجارته المركبة المختارة. بعدها، أشعلها، فأحس بنشوة فريدة ونادرة لم يشعر بها من قبل. استحضر شريط الأحداث التي وقعت له خلال هذه الليلة.. ليلة تواجدهم وراء باب منزله، من أجل القبض عليه. شعر بحدسه أن الدقات العنيفة على الباب هي دقاتهم بلا شك. تأكد بالفعل من هوية الطارق العنيف، بعد أن وصلت إليه كلمات الشرطيين الصاخبة، وحديثهما المستفز مع والدته المسنة أمام الدار في زقاق الحيّ.
قفز عبّون كالظبي على مائدة العشاء الخشبية، وارتدى معطفه الأسود في سلّم الدار. كان يقفز من درجة إلى أخرى، غير مبال بالعدد الكبير من الدرجات التي يحلق فوقها أحيانا، ليجد نفسه في النهاية، بعد دقائق معدودة بين سطوح منازل الجيران. أخذ يتنقل من سطح إلى سطح. عيونه عيون ذئب، وجسده القوي لا يتعب من الحركة والجري. ذكاءه كان ذكاء طفل حذر.. ومجازف، والذي لا يعرف معنى للخوف والاستسلام. أما الليل، فقد كان أكبر مستبد على أشياء وفضاء المدينة ككل. لسوء حظه، أو ربما لحسن حظه، القمر أظهر في وجهه خلال هذه الليلة اللعينة شحّه غير المتوقع منه. يسود ظلام دامس جدا. لكن من ناحية أخرى، ساعده هذا الظلام، ليختفي عن أنظار الشرطيين المطاردين، وكذا أنظار كلابهم المتربصين به دائما. إنه لا يشك أبدا في أنهم كانت لهم اليد الطويلة في عملية هذه الليلة. لكنه يتحداهم.. كما تحداهم في العمليات السابقة. فكر ( لي كل الحق في أن أعيش حياتي بالطريقة التي أقدر عليها، بالتعاون معهم.. هم أنفسهم. إنهم يضربونك بنفس اليد التي يمنحونك بها الهدايا.. نحن في غابة مفترسة.. ولابد أن تكون لي معهم أسلحتهم التي يحاربون بها أمثالي، من المغضوب عليهم.. رغم أنني “كنخلّص” لهم بطريقتي.. إنهم جياع و لا يشبعون ).
تابع عبّون، وحيدا وقويا، هروبه الخارق، متسلقا الجدران المثقوبة، وكأنه هيأها من قبل لهذه الغاية بالذات.. يبدو كقط متوحش.. لينتهي في آخر المطاف إلى رصيف الشارع الطويل.. بالقرب من حي جمافو، المعروف بمنازله الوضيعة، حيث تباع الخمور.. خموره، بأثمان رخيصة.. كل أنواع الخمور، يمكنك إيجادها هنا، لكن خمرة عبّون هي الأجود والأشهر.. إنها من صنع يده الخبيرة. فقط، يجب عليك أن تعرف كيف بإمكانك الوصول إلى نوع من الكائنات البشرية التي يعتبر وجودها في الحي شرطا أساسيا لتحقيق هدفك.. ينعتون بسماسرة العسل. ولفظة “العسل” يطلقونها على خمرة عبّون. وهو تعبير مجازي للاسم الشعبي الذي تعرف به في الحي وما جاوره. هو ( المَاحِيا ). إنه اللقب الذي يعرفون به خمرة عبّون حتى في خارج حدود حي “جمافو”.
حين تجاوز العتبة الأولى للحي، بدت على شفتي عبّون ابتسامة المنتصر الماكر. ألقى بمصفاة السيجارة التي بقيت مطفأة بين أصابعه. توقف.. فكر قليلا، ثم مشى كالنخلة السامقة مخترقا سواد الليل تجاه بيته البسيط.. بيت مبني بقطع صخر الوادي الممزوج بالطين والتبن، والمطلي باللون الأبيض الناصع. وقد بناه بكلتي يديه بالتعاون مع ثلة من أصحابه الأوفياء.
3
فتح الباب الخشبي الكبير بمفتاحه القصير. باب تتوسطه في أعلاه حلقة معدنية، مثقلة بما يشبه يد خماسية الأصابع، وضعت خصيصا لإحداث الدق المسموع على الجزء المعدني في أسفلها، لتنبيه أهل الدار في الداخل بوجود طالب للدخول في خارج البيت. مثل هذه الأبواب القديمة غير موجودة في المنطقة ككل. جد عبّون، الحاج العربي بلمهمدي الذي لا يزال على قيد الحياة، بسن ناهز المائة سنة، أطال الله عمره، يقيم مع زوجة ثانية، وأبناء آخرين كثر، مع العلم أن ابنه الوحيد مع زوجته الأولى التي هي أم عبّون، والمسمّى الهاشم، توفي في العام الماضي، وهو في السن السبعين على إثر سقوطه المفاجئ في بئر عميقة بإحدى حقول تركا. ويعتبر جدّ عبّون هذا، من أهم رجال المقاومة الأشداء الذين حاربوا المستعمر الفرنسي في ريعان شبابه. وقد حاولت معه مؤخرا لجنة من الدولة، لكي يبيع لهم هذا الباب التحفة والمتميز الذي نعتوه بالتراث البشري. الحاج عبون العربي بلمهدي لم يفهم في البداية، ماذا قالوا له في ذلك اليوم المشؤوم. لكنه كان أذكى منهم، وفطن إلى كذبتهم. رغم أنه تحدث معهم في البداية بأدب. حيث قال لهم، أنه لا يعقل أن يبيع لهم الباب ويبقى بيته ( مشرعا ) بدون باب يحميه. يعني يبقى بيته عاريا ومكشوفا في زقاق الحي. ثم أنه غير متعود على بيع أشيائه بالمرة. لكنهم، لم يقتنعوا بكلامه، فطردهم الشيخ من داره شر طرد.
فكر عبّون، الابن، في كل هذه الأمور وهو يدخل بهو الدار، متخفيا بالظلام. استقبلته أمه العجوز قائلة:
– أعرف يا عبوني.. أنك ستعود إليّ ( محتضنة رأس عبون..).
– نعم يا أمي عدت، لأن الله ورضاك كانا معي.( أخذ رأس أمه بكلتي يديه، وقبله بحرارة ثم قال، وهو يخلع معطفه الصيفي ):
– الله إعطيك الخير يا بني.
– إني متعب يا أمي العزيزة.. أريد أن أنام.
-.. والعشاء.. ألا تتناول عشاءك..؟ إنه مازال دافئا وجاهزا.
– شكرا أمي.. ليست لي رغبة فيه ..
4
في الصباح الباكر، أشرقت شمس المدينة. يسميها عبّون سفينة الحياة. نظرا لتواجد منازلها البسيطة على مجرى الوادي. لقد باتت حكاية هروب عبّون ونجاحه في الوقوع في أيدي البوليس.. حكاية الليلة الماضية على طرف كل لسان ساكنة حي (جمافو). حتى الصغار منهم، باتوا يلهون ويطرحون أسئلة خطيرة، وأكبر من سنهم، حول البطل سي عبّون، هكذا يلقبونه. كيف استطاع هذا الرجل البسيط والقوي، والمتواضع والكريم، أن يهزم من جديد رجال البوليس المدربين، والأقوياء بأسلحتهم وشراسة )كلابهم( التي لا تنام ؟ وككل مرة، يخرج من الامتحان ناجحا، كعهد حيه به. يعود إليه ظافرا وقويا وسليما بدون جراح في جسده، ولا بأسنان مكسرة.. كما حصل بالنسبة لبائع الحشيش “بوقلمون” في الحي المجاور. إنهم حولوه إلى شبه جثة هامدة بفعل الضرب المبرح، والرفس العنيف بالأرجل واللكم.. قبل حمله داخل سيارتهم إلى الكوميسيريا، حيث أشبعوه المزيد من الضرب والسبّ والشتم.. وقيل أيضا أنهم أقعدوه على قنينة في المرحاض الذي أمضى فيه ثلاثة أيام، قبل تقديمه أمام وكيل الملك، ويحاكم بسنة نافذة بعد ذلك. المثير للإعجاب بالنسبة لساكنة حيه، أن سي عبّون عاد في نفس الليلة التي طاردوه فيها عبر أزقة المدينة التي يعرفها جيدا، كما يعرف أشياء غرفته، واستطاع أن ينام في فراشه الشخصي بين جدران بيته حتى الصباح. إنه بطل حقيقي بالنسبة لهم. ومهما كانت قوتهم البدنية، وقوة (طول) آذان “كلابهم” المفترسة، وعيون حساده الكثيرين الذين ينقلون للبوليس كل صغيرة وكبيرة عن أنشطته وتحركاته، إلا أنهم يفشلون دوما في خططهم أمام قدراته الحدسية الهائلة، ويقظته الكبيرة، وردة فعله الذكية والسريعة التي لا تقهر كلما أخبره حسه العجيب باقترابهم الوشيك إلى حيث هو موجود..
5
أمّا المرأة العجوز ميمونة، التي يلقبّها أطفال وصبيان الحي بالحمقاء حينا، وبالحكيمة حينا آخر، فهي الأخرى لم تخف إعجابها بما قام به سي عبّون، خاصة أن الأمر يتعلق بمراوغة البوليس الذين تمقتهم حتى النخاع، لأنهم كانوا السبب المباشر في مقتل ابنها يوسف. فلم تتحمل صدمة الحدث، فأصيبت بحالة من الجنون القاسية التي مازالت تعيش ويلاتها حتى اللحظة.
قالت، وعصاها الخشبية تلوح بها في السماء بعيدا، رغم انحناءة ظهرها البارزة:
-
وَسَمْعو.. يا لّي عْيُونْهُمْ مسْدُودَا.. سْدي عْبّونْ، طلّعْ لِكُمْ الرّاسْ لْفُوقْ.. سْدِي عْبّونْ قَمْرَة
هاذْ لْحَيْ لْعْظيمْ.. وكْتَبْ اسْمكُمْ (جْمَافّو) في دفتر تاريخْ هاذ لمْدينا المُقاوِما. لْبارحْ، حَاربْنا النّصارى المَاكْرينْ.. واليومْ هاحْنا كَنْحارْبُو لْمَخزَنْ.. الأسف، كنْحاربو ْلمخزنْ ديالنا.. ولادنا همْ حُرّاسْ هذا المدينا. والمخزنْ.. لّايَعْمِيها لِيهْ..
( صفق الأطفال، وبعض الشباب لميمونة العجوز، لأنهم أدركوا بعض الحكمة في قولها كالعادة دائما، عندما تعلق على إحدى المواقف المستجدة في حيّهم.. جمافو ). عادت لمخاطبتهم:
-
صحيحْ .. سي عبّون كيبيعْ الشرابْ.. لكن، كيْبيعُو لولاد الشعب، بثمن رخيصْ.. واشْ غير هما ليبغاو يشربوا، وينْشطوا في لوطيلاتْ والبيرانْ.. ولادنا لّا.. ويلا كيمنْعو علينا الشرابْ، علاش هما كيبيعوه في البيسريات.. وينّي بلاد.. دْ لحُكرا هذي…!!
( جلست العجوز على صخرة ملساء، كانت تتخذها دوما للجلوس كلما تقدمت في التخاطب.. موجهة كلامها إلى من يستمع إليها من أبناء الحي الحاضرين.. وبعد لحظة صمت، وقفت على الصخرة وكأنها ستلقي بخطاب.. أو كلمة رسمية.. قائلة ):
-
عرفت، بأن الله كيبغي سدي عبّون. ويكفيه حبّ الله.. وحبنا حنا.. دَكشّي عْلاشْ ماقادّينْشْ إِشْدّوهْ، ويدّيوهْ لْحَبْسْ. سدي عبّون.. مرضي دْ الولدينْ. بْحالُو بْحالْ ولْدي يُوسفْ. ( بدأت تبكي كطفل رضيع.. حاول أحد الشباب الاقتراب منها، لكنها ضربته بعصاها التي كانت بين يديها. تراجع الشاب إلى الوراء، لكنه ظل بالقرب منها ).
-
وَلْدي سِدي يوسفْ، ما كانْ كَيْبِيعْ لَا لْحشيشْ.. ولَا الشّرابْ.. وقَتْلُوهْ.. قَتْلُو المَخزنْ.. ولدي يوسفْ.. مُجردْ بحّارْ.. وعزيزْ عليهْ البحَرْ.. وعزيزْ عليهْ الحُوتْ.. وَاشْ حتى البْحَرْ مَمنوعْ نَمْشيوْ ليه ؟ قالوا ليّ: وَلْدَكْ كَيهْضَرْ فالسّياسا.. وكيْفهَمْ كثيرْ مَلْقِياسْ.. قُلتْ ليهُم: إوا بْغِيتُو وَلْدي يكونْ حْمَارْ.. بَشْ دِيرو مَا بْغيتو فَلبْلادْ.. أولادْ الْهمّ.. ( عاود الحضور التصفيق. لكن، ظلوا مع ذلك مندهشين ومستغربين أمام كلمات العجوز ميمونة الحكيمة.. والقوية، هذه المرة. ولأول مرة تتحدث في موضوع ابنها يوسف بكل هذا الوضوح والدقة والتفصيل، والجرأة النادرة.. ).