خاص- ثقافات
*سمير البوحجاري
يزدان المسجد بطلعته البهية، وفي حضرة صوته الجهوري القوي؛ تصاخ الأسماع وتخشع الأبصار، فتزف الخطابة من على محرابه، عروسا كل يوم جمعة.
ذلك الشيخ الوقور، أصبح حديث الخاص والعام مذ حلّ بالقرية مطلع العام الجديد إماما وخطيبا، يتداول الأهالي مناقبه الحميدة، ويتناقلون خطبه بتأثر وحماسة، ويستبقون كفّه يقبلونها، تبركا وامتنانا.. كلّهم عدا فتى منذ استيقن سحنته وهو ينظر إليه بازدراء.
في البدء كان يلازم مؤخرة المسجد؛ ملتصقا ظهره بالحائط، يحدّق إليه، ثم شرع يتسلق الصفوف في الجُمع، إلى أن صار قاب قوسين أو أدنى.
أما الشيخ فلم يعبأ ولم يبد انزعاجا؛ إلا والفتى نشاز في حضرة المريدين، لا اغرورقت له عين تخشعا، ولا رفّ له جفن تأثرا، ولا اندس بين الخلق ينشد كفّه يقبلها تيمنا وتوقيرا.. لا شيء منه يبدر، هذا الفتى الطائش عدا نظرة استخفاف وجحود يجترّها كل يوم جمعة حينما يعتلي الشيخ المنبر، أو يفرغ من صلاة.
وهاهو ذا وقد تأبط صبره طويلا، وتدثّر بحلم الحكماء، يستنفذ ذخيرة أناه، ويضيق ذرعا بتصرفات الناقم؛ لكنه لا يجرؤ على مكاشفة أهالي القرية والبوح لهم، خشية أن يبطشوا به أو يسيئوا معه تصرفا، أما كل ما يستطيعه أمام استفزازه فأن يشيح بوجهه عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، علّه يداري ارتباكه، لكنه يخفق وتتكسر شوكته أمام نظرة صارمة ذات مغزى.
وتلتقي ذات جمعة؛ والشيخ من فوق منبره، يعظ ويوصي بالأمانة وإغاثة الملهوف، نظرتيهما، ويتبادلانها حينا، دون أن يسترسل الشيخ ارتجاله، وتبرق عينه فجأة بذكرى بعيدة، تشحذها تقاسيم وجه الفتى، نظرته القاسية، وسياق الخطبة.. فيسمع أنين احتضار رجلين، أحدهما خلف مقود سيارته، والثاني يجاوره؛ مضرجين في دمائهما وقد انغرست أشلاء زجاج السيارة الأمامي، في بقاع شتى من جسديهما، وصبي يبكي أباه السائق؛ خفف من وقع ارتطامه رزمة على ركبتيه، ويد آثمة تمتد إلى محفظة نقود لطخها سائل أحمر قان، تتتبعها عيون جاحظة، تكاد تنفلت من محجرها؛ كانت يد الشيخ..
ويعمّر الصمت طويلا وتغرورق عيونه، وينتحب الشيخ مطرقا برأسه من على منبره، ويترجل، تتلقى راحتيه الكريمتين جموع المصلين، ويتداول الخطبة العصماء أهالي القرية؛ حامدين شاكرين فضل الإله عليهم وعطيته شيخ الوعاظ، الثقاة الورعين..
إلا فتى ينظر إليه بأثر رجعي؛ وحده فقط، هو من العارفين.