رهان المستقبل.. مهمات عاجلة أمام ثقافتنا

*محمد الأسعد

في آخر العام، أو آخر القرن، أو آخر القرون السالفة، حين نتحدث عمّا حملته ثقافة الماضي وما ستحمله ثقافة الأيام الآتية، تمثل تساؤلات من النادر أن نسمعها أو نقرأها. هذه التساؤلات هي: هل غيّرتْ ثقافتنا صيغة الإشكاليات التي تواجهها، أو تتناولها؛ بل وهل سبق وأن نظرت إلى قضاياها بوصفها قضايا إشكالية؟.
ما يوجه النظر إلى هكذا تساؤلات تخرج على مدار المكرر في هذا العام، وما سبقه من أعوام، هو ما نلاحظه من ثبات في طرائق تداول القضايا الثقافية ومشكلاتها. صحيح أن الأجوبة متنوعة، وتحمل جديداً أحياناً، ولكن الأمر يبدو كما لو أن هناك اتفاقاً عاماً على صيغة واحدة للمشكلات، مهما تعددت المستويات الثقافية بين عصر وآخر، ومهما تراكمت من معارف تقلب في عدة مناسبات مفهوم الثقافة ذاته رأساً على عقب.
لنأخذ هذه الصيغ الثلاث التي دار ويدور في دوامتها الفكر النقدي؛ صيغة صراع الجديد والقديم، صيغة المحدث والأثيل، صيغة التراث والمعاصرة. إذا عدنا في الزمن إلى الوراء نجد أن ما تغير في هذه الثنائيات بين عصر وآخر هو التسمية فقط، فصراع القديم والجديد في عصر من العصور يتخذ تسمية صراع الأجيال في عصر يليه، وتتخذ صيغة المحدث والأثيل تسمية الحداثة والأصالة في القرن العشرين، وتلبس صيغة التراث والمعاصرة لباس الأصالة والمعاصرة، ويترافق تغيير التسميات مع تغيير في عناوين الأجوبة ومصطلحات المفكر أو الكاتب أو الناقد. تغيير الأسماء لا يعني أن ثمة تغييراً بنيوياً قد حدث.

نجد هذا الثبات في بنية التفكير، منعكساً في استبدال اسم «الإمبريالية» الذي هو أحد عناصر بنية تفكير رجل اليسار باسم «الشيطان»، الذي هو عنصر بنيوي في تفكير رجل الدين، مع عدم اختلاف سلوك الرجلين أو مخيلتهما في الممارسة السياسية والاجتماعية، ونلمس هذا الثبات في إيجاد تماثل بين أشخاص أو عصور، ففلان هو «معري» العصر، والشاعر المتسلط على أجهزة الإعلام «متنبي» هذا الزمن.
ويجتهد عدد كبير من النقاد في العثور على تماثل بين عصر مضى بكل ما فيه وأصابه الصمت، وعصر ما زال في طور التشكل. المهم أن «الإنسان» هو الإنسان، سواء كان ساكن كهف أو رائد فضاء. نسمع هذا ونقرأه ونلمسه في سطور كاتب وباحث أو نلمحه وراء سطور وبين سطوره.
ثم تأتي تساؤلات من نوع آخر، ومحورها هذه المرة ما يمكن أن نسميه فعالية الثقافة وشموليتها. فماذا قدمت الثقافة العربية، سواء كان موضوعها الفن أو الأدب أو العلم للإنسان العربي في القرن العشرين على الأقل؟ ماذا غيرت من مدارك وفتحت من آفاق؟ ماذا فعلت لفتح الطريق أمامه لينظر إلى العالم نظرة مختلفة عن نظرة «الإنسان» العام والمطلق التي لازالت توجه مداركه وفهمه لما يدور حوله؟
وعلى الخط ذاته، ولكن بالخروج إلى العالم من حولنا، ماذا كشفت الثقافة للعالم عن أهلها العرب؟ هل غيرت إدراكه لهذا الوطن وأحدثت نقلة ولو بسيطة باتجاه وضع الوجود العربي على خريطة العالم؟
أعتقد أن من يمرّ بهذه التساؤلات سيدرك أن الفعالية هي أحد أكثر معايير تقييم الثقافة أهمية، سواء كانت ثقافة مدينة أو إمبراطورية. وسيدرك أيضاً ماهو أبعد؛ إن الثقافة تقاس بشموليتها أيضاً. على سبيل المثال كأن يقرأ الأوروبيون أو الصينيون رواية لكاتب عربي فيرون أنفسهم في شخصيات روايته، أو يكتشفون عن طريقه أدب أمته ويحترمون هذا الأدب.
هنا لا أتحدث عن أي فعالية سياسية أو اجتماعية أو تاريخية للثقافة، ولا عن نوعية الشمولية المطلوبة أو فلسفتها وغاياتها؛ لأنني هنا لست في مقام تقييم تيارات ثقافية أو اتجاهات فكرية، حديثي «فني» إن جاز التعبير، بمعنى أنه حديث عن خصائص أي ثقافة مؤثرة تحقق غايات أبعد من غايات التسلية أو الترويح عن النفس أو استغلال الغرائز الاجتماعية (المنعكسات الشرطية) لإسالة اللعاب أو الشهوات أو السطو على الجيوب، أو استجلاب العطايا، أو الدوران حول متاهة بلا غاية محددة.
ثقافة تتناول الواقع، حسب حديث الصحفية «كلوديا دريفوس» عن روايات الكولومبي «غابرييل غارسيا ماركيز»، ثم تتقدم به خطوة، مجرد خطوة في فضاء عالم آخر، بطريقة يمكن تصديقها. مثل هذه الثقافة تجعلنا نصدق، ولازال التعبير لهذه الصحفية، أن الفراشات تدخل الغرفة في أي وقت يكون فيه الناس في حالة حب.
على صعيد العالم؛ على ثقافة غايتها تغيير إدراكنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، أن تجعلنا مدرَكين وواضحين بحيث يدركنا العالم، أدباً وفناً وتقانة وتاريخاً. تماماً كما فعلت ثقافات أخرى معاصرة أقربها إلى الذهن الثقافة اليابانية وثقافة أمريكا اللاتينية.
كل هذه تساؤلات لا تخص الماضي؛ بل المستقبل بالدرجة الأولى؛ ولأن المستقبل يُصنع الآن، لا في الأمس ولا في الغد، من الضروري إضافة هذا التساؤل: هل انتبهت ثقافتنا لطبائع العصر الراهن؟ لا أقصد بهذا تلك الأقاويل المضحكة، التي أشاعتها تيارات متغلبة في الثقافة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين حين حصرت الانتباه إلى العصر بانتحال أقوال ومواقف شعراء ومثقفي الإمبراطوريات الغاربة، البريطانية والفرنسية بخاصة، فشاعت لدينا تيارات تتأفف من عصر حضارة الآلة، ونحن نعيش في عصر المحراث اليدوي، وتتحدث عن قلق وجودي واغتراب ساحق، وأراضينا ينتهكها الغزاة وثرواتنا ينهبها الرأسماليون الغربيون. ما أقصده هو حالة الصراع الفكري الدائر على مسرح معتم، صراع بدا معه الإنسان العربي سجيناً وهم يدور به من مسار إلى مسار من دون وصول إلى حق يتجسد واقعاً. يرى قيمه وروابطه كأنها تنقلب إلى ضدها، وقضاياه تسير على رؤوسها.
الصورة الأقرب لما أعنيه هي صورة وطن شاسع بكل إمكاناته وملايينه يتحول إلى جزر تتقطع السبل بأبنائه، فهم بين سابح بين الجزر يلهث للوصول إلى هذه أو تلك، وبين متقوقع على نفسه في جزيرته يخشى من جيرانه. فما هي قيمة ثقافة لا تعي أن تقطيع أوصال الوطن، ومحو ذاكرة أبنائه، هو قضاء على أساس وجودها؟.
أعتقد في ظل كل هذه التساؤلات، وتلخيصاً لخطوط هذه المقالة، أن المهمات العاجلة يمكن تركيزها في ثلاث مهمات هي:
أولا، تغيير صيغ الإشكاليات التي تواجه مجتمعنا العربي بمجمله، وتجمعاته في هذا البلد أو ذاك. أي الخروج على صيغ الماضي، التي حشرت ثقافتنا في قوالب مشكلات شبيهة بمشكلة كائنات يتغير المناخ من صيف إلى شتاء فتظل على عادة تشغيل أجهزة تبريد بيوتها، أو كائنات اعتادت على الإمساك بخراطيم المياه لري حدائقها، وتظل تمارس هذه العادة على رغم هطول أمطار الرياح الموسمية الغزيرة.
ثانياً، وضع الفعالية والشمولية الكونية موضع هدفين من أهداف الثقافة العربية، ولا يتحقق هذا إلا في اعتبارهما معيارين في تقييم العمل الثقافي، والكف عن العادات السيئة في الإعلاء من شأن المعايير المحلية الضيقة في تقييم الفعل والفكر.
ثالثاً، لا يجب أن تغفل صياغة إشكاليات ثقافتنا أننا نعيش حالة صراع فكري متواصل، يواجهنا فيه إصرار على محو الذاكرة العربية-الإسلامية، وتفريغها من مبدأ أو قانون عرفه هذا الوطن عبر كل تاريخه؛ هذا وطن إذا تفتت سقط، وإذا تجمع نهض.
هذه المهمات يمكن وصفها بعبارة اقتحام المتاهة لا الدوران حولها. وهذا هو رهان المستقبل.

_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *