الشهاوي يعرّي”نواب الله” الذين يذبحون الناس باسمه

*يحيى القيسي

في الوقت الذي يتقوقع فيه أكثر الأدباء العرب في أوكارهم مطمئنين، أو يتخاذلون عن اتخاذ موقف حقيقي من أولئك الذين يجعلون من أنفسهم ممثلين لله على الأرض، يتصدّى الشاعر والإعلامي المصري أحمد الشهاوي لهذه المهمّة الصعبة، ويصدر كتاباً جريئاً في طروحاته، وعميقاً في مدلولاته، ومركّزاً في موضوعاته، جاء باسم “نوّاب الله”.
الشهاوي يرى في مقدمة كتابه، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية في العام 2016، أنّ “الكتابة هي التي تُغيّر، وهي القادرة على إحداث ثقب فيمن يقرؤها، بحيث يصير إنساناً آخر أثناء وعقب الانتهاء من القراءة”، وهي أيضاً “مسؤولية جسيمة، ومحفوفة بخطر مساءلة الذات وتقويم الآخر”، وربما لذلك يتضمن كتابه مجموعة من المقالات الجريئة التي تتناول موضوعات متعددة، يجمعها أكثر من هاجس، ولكنها جميعاً تنشغل في تعرية ثقافة القتل عند المسلمين، والقراءة الخاطئة للفكر الديني التي ورّثت الإرهاب، وجلبت على المجتمعات العربية الكثير من الدمار، خصوصاً خلال السنوات الماضية مع صعود تنظيم داعش الإرهابي، وما يسمّى بالجماعات التكفيرية الجهادية، وهو يحاول أن يرجع  إلى جذور هذه الموجة الإقصائية التطرفية من خلال مراجعة “التاريخ الأسود” الذي وصلنا منذ العهد الأول للإسلام وحتى يومنا هذا.

وبالطبع فإنّ كلّ مقال من هذه المقالات يستحق قراءة منفصلة، وتحليلاً دقيقاً، ولكن ماذا يملك المرء أمام نحو ستين مقالاً في ثلاثمئة وعشرين صفحة غير استعراض الموضوعات، وأبرز طروحاتها، ففي قسم “تنبيه الغبي” يوضح الشهاوي من أين جاء الداعشيون بثقافة إحراق خصومهم، وعلى أيّ المرويات التراثية استندوا، إضافة إلى ثقافة تغريق الخصوم بالماء أو القتل اغتيالاً، وهو يورد أمثلة كثيرة على ذلك، ومنها ما فعله خالد القسري الوالي الأموي على الكوفة، الذي قتل وزير السختياني حرقاً حتى وهو يتلو القرآن، وبالطبع فإنّ هذا الوالي السفاح نفسه سيرتكب يوم عيد الأضحى جريمة في حقّ الفقيه الجعد بن درهم عام 105 هجري والذي ربطه إلى عمود في المسجد، وبعد أن أتم خطبة العيد للناس قال لهم: أيها الناس، ضحّوا تقبل الله ضحاياكم، فإنّي مضح بالجعد بن درهم؛ لأنه قال باجتهاد يخرجه من ملة المسلمين، ثم نزل وذبحه كما تذبح الشاة”.
أما التهتك الذي كان عند الخلفاء والأمراء والفساد الأخلاقي فلا نجد له اليوم مثيلاً أبداً؛ إذ يسرد الشهاوي الكثير من الحكايات عن عدد المحظيات والجواري التي كان يحتفظ بها كل واحد من هؤلاء، وهم الذين من المفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم. كما يخصص مجموعة من المقالات تحت عنوان “لابس الدين” لفقهاء الظلام وفتاواهم الكارثية على الناس، التي تخدم السلطة، وعناصر الحزب الديني الذي ينتمي إليه هؤلاء “لماذا لا تقبل أن تعمل أنت وجماعتك أو تنظيمك أو تيارك أو أنصارك أو أي اسم تتخفى وراءه على خدمة المسلمين وبناء مجتمعاتهم، دون أن يكون لك هدف في الاستيلاء على السلطة”، هذه تساؤلات مشروعة خصوصاً والشهاوي يشهد في تلك الفترة التي كتب بها مقالاته جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وهي تسيطر على السلطة، وتسعى إلى تقسيم العالم إلى فسطاطين؛ الإيمان والكفر، وتقوم أفكارها على خدمة الجماعة نفسها، لا مصر كأمّة كبرى وأناسها ..!

كما ويدين الكاتب ظاهرة التكفير، ويصف أهل هذه الظاهرة بـ”الخوراج الجدد” الذين يستبيحون الحرمات، وقتل النساء وبيعهن كجوار في الأسواق العامة، وإفساد العباد والبلاد، ولهذا فإنّه يرى أن تحرير الإسلام من خاطفيه واجب مقدس “ولا أدري لماذا يعتقد خلفاء وملوك وأمراء الطوائف والجماعات الدينية أنّ التقرب إلى الله ورضائه يكون بجزّ الرؤوس، وقطعها وتعليقها على الأسوار والأعمدة والأشجار في الشوارع والميادين والساحات، لإرهاب الناس والمجتمع، ..هذه جرائم ضد الإنسانية جمعاء، وللأسف ترتكب بموجب الشريعة الإسلامية التّي يدعي هؤلاء القتلة العمل بها في خلافتهم أو دولتهم الأسلامية المزعومة الزائفة والمزيّفة لحقيقة وجوهر صحيح الدين الذي أمرنا به الله ورسوله”.
إن سبب كل ذلك برأي الشهاوي هو “تربية عضلات الجهل” التي يقوم بها مرشدو الظلمات لإشعال الحروب الدينية بسبب من فساد  عقائدهم، ولأنّ الجهل في النهاية يؤدي إلى الفوضى، وهو برأيه “لم يعد نقيضاً للمعرفة فقط؛ بل صار مرضاً يقوض ويهدم ويشيع الفرقة والانقسام.. ولا بد من علاج صاحبه لأنه يصبح خطيراً على الأسرة والمجتمع ويسعى إلى تقويضهما”.
أما العلاج فيكون  بمراجعة الفكر الديني، وأيضا بالتنوير لأنّه ” يحرر الإنسان من أوهام لطالما ترسخت، ويكسر أماما أصناما عبدت طويلا، ويضعه دائماً في مواجهة الحقيقة الجلية التي لا تشوبها شائبة ولا التباس فيها ” .

بعد كل ذلك ينشغل الشهاوي في كتابه بموضوع “حماية حرية الكلام” وإشكاليات الرقابة على الفكر الحر في المجتمع العربي، وفي هذا الاتجاه يورد أمثلة كثيرة على الكتب التي تمّ منعها لأنّ الرقابة “لا أخلاق لها في أي زمان ومكان؛ إذ هناك من هو على استعداد ليشهد على أنك ضال ومهرطق وزنديق وملحد وعلماني وشيوعي، ولا دين لك وخارج على النواميس والدين والأعراف وضد التقاليد ” وهذا بالتالي يؤدي إلى قمع الكاتب ومحاكمته على فكره الحر، وتأليب الرأي العام ضده، فالذي قتل فرج فوده، وطعن محفوظ اتبع في النهاية ما قيل له عن كل واحد فيهما، ولم يقرأ لهما حرفاً، أي تواطأ الجهل والتحريض معاً على الجريمة.
إن الكتاب كما يرى الشهاوي “لا يؤذي، ولا يضر، ولا ينقص العقل؛ بل يفتح نوافذه على آفاق أخرى، ولا يضرّ بالروح بل يطلقها نحو إشراقاتها، لأن ترى وتعرف وتحلل وتزن وتفاضل، ولكن الذي يؤذي هو المجازر التي ترتكب باسم الدين”، وثمة الكثير من الأمثلة على الكتب التي تمّ إحراقها في شوارع القاهرة من قبل أناس ركبوا موجة التيار الديني وغرقوا بالجهل.
أما ما يتعلق بما تركه الأسلاف لنا من تراث فيطالب الشهاوي القارئ أن لا يتعامل معه بشكل أعمى، وفي هذا الإطار ينشغل بمناقشة الأخطاء الواردة في جمع الأحاديث النبوية من خلال كتاب البخاري، ومن المعروف أن نقاشات طويلة جرت في الساحة المصرية بهذا الخصوص خلال السنوات الماضية، وقد دفع بعضهم ثمناً باهظاً لها مثل؛ الشيخ محمد عبدالله نصر والباحث إسلام البحيري، وكلّ ما يطلبه الشهاوي هنا أن يتم التعامل مع هذا الكتاب على أنه عمل بشري يحتمل الصواب والخطأ، فصاحبه “ليس إلهاً ولا نبياً، ولا معصوماً، ولا يجوز التعامل معه بقداسة مطلقة” كما يتناول في هذا السياق مسألة الغناء، بين التحليل والتحريم، ويناقش ما ورد فيها من أحاديث.
بقيت الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الكتاب وقد خصصها الشهاوي لمؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا وسيد قطب وللشخصية المصرية، فناقش أولاً مسألة إصدار حسن البنا في بداية حياته كباحث كتاباً عن الشاعر “صريع الغواني” وهو كتاب يمتنع الإخوان المسلمون عن ذكره، مثلما نشر أيضاً تلميذه سيد قطب بعد ذلك بعقود كثيرة ديوان شعر متكلف مليء بالقبلات ودعوات الحب هو “الشاطىء المجهول”، فكيف ينشغل مثل هؤلاء الدعاة المتشددين في مسائل أخرى يحرمونها على غيرهم، ولماذا يخفي أتباعهم إرثهم الأدبي هذا، وما سبب انتقال قطب من ثقافة القبلة إلى القنبلة؟
أما آخر فصول الكتاب فيحتفي فيه الشهاوي بمصر والمصريين مع شواهد من التاريخ لخصوصيتهم؛ “لأن المصريين هم أهل حكمة ومعرفة، وحضارة وأمانة، وبصيرة وبصر نافذ، وعزة نفس، وحزم وتدبير، وغيرة وشجاعة، وذكاء مشاعر، ورجاحة عقل، ورفعة شأن”.
في النهاية فإن كتاب الشهاوي لا يطرح فقط أفكاراً عميقة ويسعى لتحليلها بطريقة غير تقليدية؛ بل ينشغل أيضاً بتقديمها بأسلوب شائق، ولغة رائقة تصل إلى تخوم الشعر، ومن ثم فإنّ قراءة الكتاب متعة للقلب وزاد للعقل، بل إن نصائحه التي جاءت من خبرات طويلة ومقطرة في تجربته الحياتية والثقافية، يمكن أن تصلح كي تكون منارة للطلبة في الجامعات والمدارس يجري التركيز عليها والانشغال بدلالاتها الغنية، وإشاراتها الذكية
لاحظ معي هذا العنوان “موسم زراعة الخوف قصير” وما ضمّ تحته من كتابة استشرافية رمزية تنهل كثيراً من الفلسفةوتتغذى على الفكر “الحرية ليست مفردة معزلة، أو وحيدة، أو مريضة، أو نائمة في سرير اللغة العربية، أو في أية لغة أخرى، وليست مجرد مفهوم مركزي في الدين والفلسفة، أو مجرد مصطلح يحتاج إلى شروح وتعريفات، ولكنها المركز، ونقطة الدائرة لسلوك المرء في الحياة، وهي الممارسة للفعل، والحركية حركية وليست ساكنة؛ لأنها تغيّب الإكراه، في أي شيء بدءاً من الدين” .
___________
*المصدر: حفريات

http://hafryat.com/blog/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%A7%D9%88%D9%8A-%D9%8A%D8%B9%D8%B1%D9%91%D9%8A%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D8%B0%D8%A8%D8%AD%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B3-%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85%D9%87/1520

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *