دلالة الحدث في مجموعة “هذيان السمع والبصر “لمحمود الوهب

 خاص- ثقافات

*ريبر هبون

دلالة السمع والبصر تكشف لنا عن تغييرات الأمكنة، ارتجاجها النفسي في داخل الشخوص، وعلاقة ذلك بالتغير الزمني، والحياة الاجتماعية في زمن الحرب، وقد أمعن الكاتب محمود الوهب في تجسيد ذلك، كذلك أدوار الشخوص في الحديث عن الحدث بالإستعانة بحالات الحرب وما تعكسه من مشاعر وردات فعل غرائزية تلقائية ، من هلع ورعب، وخوف، إن التصوير هنا في أوج تجسيده، وكذلك فإن مواكبة النفس، ورواسبها انعكاساً لأثر المكان، هو ما تتسم بها القصة الواقعية الدرامية، كونها تستعين بالحس الطبيعي التي جبلت عليه المجتمعات، في حديثها عن الأزمة القائمة، حيث يقابل الفساد، حالة الاحتقان، كلاهما يكتملان في مشهد الحرب، وما ينجم عنه من تفكك للمجتمع، والقلق الدائم الذي يتصاعد شيئاً فشيئاً، ليطغى بتمامه، وليصبح المؤشر الفعلي لذلك التهدم الذي يشير إليه الكاتب، هنا مستعيناً برصد الحدث بقوة، حيث نلحظ اللعبة الدرامية في خلق الإمتاع على صعيد الجذب، والاستعانة بالخيال في التتبع، مما يعطي للرصد والتصوير، مهابته على الحدث بكليته، وحدث الحرب نتيجة، هنا النتيجة هو الهلع ودوام استمراره، حيث أن المجموعة الأخيرة للكاتب تتحدث عن النتيجة المعلنة عن عهود من فساد وسطوة وارتزاق عم مؤسسات الحكومة ونظمها، حيث أن الكاتب عمد ليكون العين البصيرة بكل ما يحدث من أهوال وويلات، تنشب أظافرها في جسد المجتمع،ولكن اليد القصيرة التي لم تستطع صون قيم الحياة، حالت دون أن تقدم أي وصفات حلول، هذا ما تقوله المجموعة القصصية التي بين يدينا لتجسد تلك المقولة الشعبية المحقة: العين بصيرة واليد قصيرة  لهذا فإن الخوض في المشاهد المؤلمة والتداعيات الجمة لهو أمر مؤلم تضع القصة ذلك على عاتقها، لإبراز ذلك بكل ما تحمله من مؤثرات درامية ، تغوص في إطار تفعيل الإحساس بالكارثة التي لطالما تم استشرافها والتحذير منها دون جدوى، فهل رأى الكاتب في هذا السقوط المدوي الكارثي لآليات السلطة ورموزها على أنه جزء من قانون الطبيعة وجدليتها؟!!، لابد لنا من التساؤل في خضم القصص التي تتناول الأفكار، على نحو درامي، لنتعرف على دلالة الحدث ، المتعلق بقانون الطبيعة حيث نجد أن مفهومه عند الفلاسفة اليونان مهيمنة على الروابط والعلاقات الاجتماعية، حيث نجد دقة الوصف ورهبته في سياق ما يأتي ص3: ” عاد الرصاص يلعلع.. بدأ بزخة، تلتها زخات تتوالى، من جهات مختلفة، كأنما تتبادل تعكير مزاج الفضاء مع الانفجارات التي باتت تسمع بقوة ورهبة.. غادرت الشرفة عائداً إلى سريري.. استيقظ الحفيدان.. انشغل الصغير بزجاجة حليب فارغة، وجدها بجانبه.. اقترب الأكبر مني، التصق بي.. سألته، والأصوات المختلطة شديدة ما تزال.. ما هذا؟! قال بخوف ووجوم، مازجاً حرفي الصاد والثاء ببعضهما:
“رصاص..!”
قرَّبْتُه من صدري، لندخل كلانا في صمت بتنا، خلاله، نسمع دقات قلبينا بوضوح..!”
فهول الحدث هو ما أخذ الأب وابنه في حالة اصطفاء كاملة للالتفات العاطفي الإنساني الحاد فيما بينهما فالرصاص والموت هما ضد إرادة الحياة وضد هذا الفضاء الذي يتعكر به، هنا ركز الكاتب على وصف المظاهر الخارجية التي رافقت الرصاص ، ليشير في الآن ذاته إلى ذلك الجنون في التمادي بإيذاء الناس، حيث يعاني كل صغير وكبير وكل فضاء رحب ومكان يمتزج بالبراءة والحياة رغم محاولات خنقها وتقويضها، فالحرب الجارية تعصف بإرادة الإنسان، حيث يستقر الخوف في كل ركن، تصبح الحياة أشبه بكابوس، وتصبح الكلمة أيضاً عبارة عن كاميرا متنقلة تصور وتجسد هول ما يحدث، وتركز في ضبط عدستها حول الأشياء التي تثير البكاء والجنون والعويل والندب، لم يضمر الكاتب محمود الوهب التحدث عن المفاهيم السلبية المتمخضة عن الحرب والتي تستميت لقتل كل شيء جميل وحي، بل أراد أن يحدثنا أيضاً عن محاولات المجتمع وإرادته التي لا تموت، بل تحاول الوقوف أبداً بوجه المآسي والمهالك، إذ نجد في قصة –حضرة المستشار- رصداً مهماً لحقيقة العلة التي نخرت صميم المؤسسات الحاكمة حيث تعتني بالفاسدين وترقِّيهم، بدل أن تطردهم وتقصيهم، وتبقى للمجتمع المستكين ألسنة تلتف حول نفسها مخرجة أصواتاً خافتة لا تلوي على شيء سوى أن تهيم في الحديث والسخرية دون جدوى، وما وراء السطور هنا ليس تعبيراً أو اشتقاقاً كلياً عن أدب الحرب، إنما هو تمازج وجداني ما بين الفرد والجماعة وما يجمعها من تعاطف غريزي، يحول دون أن تتفتت وتباد، بفعل رواسب القمع وإفلاس المنظومة الحاكمة أخلاقياً، عجزها عن حماية القانون، الأمر الذي نجم عنه ضياع الحريات وامتهان كرامة الإنسان، حيث نتأمل هنا ص5: ” هكذا أخذت الشكوك تنهش في رأس الحارس بكري.. وهو الذي اعتادت أذناه التقاط أية نأمة نشاز، وخصوصاً تلك المتعلقة بشأن من شؤون الحكومة..! الكلمات الغامضة التي وصلته، على نحو عفوي، تركته في حيرة:
(غير معقول.. مستحيل.. العمى إي ما في غير إبليس اللعين هذا..!) وجعلته يوقن أنّ سراً ما وراءها، وخصوصاً أنّ ذلك يبدر من الحاج لأول مرة.. لذلك فقط استوقفه بذلك الصوت الذي قوّاه هدوء آخر الليل وصمته المطبق، فظهر حاداً مرتفعاً، ما أزعج الحاج، وجعله يتجاهل بكري، وأسئلته الحشرية..!”
كأن نغمة النشاز هذه تحيلنا للشاعر نزار قباني1 في قصيدة عزف منفرد على الطبلة، حين قال:
الحاكم يضرب بالطبلة
وجميع وزارات الإعلام تدق على ذات الطبلة
وجميع وكالات الأنباء تضخم إيقاع الطبلة
والصحف الكبرى والصغرى تعمل أيضاً راقصة
في مقهى تملكه الدولة
لا يوجد شيء في الموسيقا
أبشع من صوت الدولة
حيث تطغى مشاعر الاغتراب، صميم المشهد الإبداعي برمته، نتيجة فساد النخب الحاكمة، والكلمة الأدبية لا تغدو حينها إلا جرساً قوي الصوت إزاء عجز المجتمع عن تجاوز الفساد، وعزم المنظومة السياسية على استقطاب سيئي الصيت إلى أوساطها ومؤسساتها، أو لا تغدو عن كونها وسيلة تنفيس عن ألم الجماهير الباحثة عن صدى أحلامها المنتهكة من خلال تلك الكلمة التي تبوح بقصة الألم الاجتماعي، حيث تتوسط الكتابة ما بين إلمام بالوعي الاجتماعي والحديث عن مشكلاته، وبين رومانسية تشغل تفاصيل السرد القصصي ، وما بينهما، يشيد الكاتب محمود الوهب، معالم الكتابة القصصية على نحو يتوسط الوعي والوجدان، فالغاية من الكتابة هو تصحيح النشاز القائم في الحياة، وإيجاد المناخ الملائم لحياة تتخللها روعة الموسيقا وقدرتها على تحويل الخراب إلى بناء، بروح النقد المتجلية في نقل روح المجتمع من خلال القصة، ولاشك أن القصة تندرج في نقد ظواهر الحياة وإشكالاتها، بمواكبة معاناة الأفراد، والإشارة إلى وعيهم بالواقع، ورغبتهم في التغيير، وتصحيح مسارات الحياة، حيث أن التماهي مع معاناة الإنسان، وتقصي سلوكياته وردات فعله، هي من ميزات القص الفكري، المستوعب حياة الإنسان، والمعطي رؤى بعيدة عن تنقلات الجماعات الهاربة من الحروب من جهة، وجماعات أخرى تواجه فساد مرؤوسيها من جهة أخرى، فلا تنحصر وظيفة القص على تلخيص الأفكار الذاتية لدى الكاتب فحسب، وإنما تحاول إشادة بنية فكرية لكيفية التعرض للحدث، واستنباط أفكار ودلالات واقعية نقدية من خلاله، بعيداً عن المثالية المفرطة التي تنزع للتخييل  والخروج عن جادة التمثيل الموضوعي للحدث الإشكالي،  حيث نجد أن القاص والشاعر يشتركان في التمثل بالرمزية لخلق الأثر عبر الأسلوب، ولكن القاص يكشف على نحو مغاير عن الشاعر في إدخالنا لهالات الرمزية الشفافة في نصه على خلاف الشاعر، ولا يسرح في وجدانيات التخييل حيث نجد هنا ص5:
” حين صار الحاج داخل بيته خلع حذاءه، ونزع عن جسمه بعض لباسه، ودخل الحمّام ليتخفف من بعض ما يثقل جسده ودواخله.. همس إلى نفسه، والماء من تحته يدفع الأوساخ إلى مستقرها لتذوب في المجاري العامة:
صحيح أنّ الأحاديث التي فرشت على الطاولة، فيها الكثير من الأملاح والتوابل.. ولكن، حتى إذا ما غربلتها أو نقيتها، يا حاج عمر، فسيبقى فيها ما يكفي، ليس لاستهجان ما حدث، أو لرفضه بالمطلق، بل للكفر بكل ما هو قائم! فالعقل والحكمة والمنطق وكذلك الواجب، يتطلب أن تسحق تلك الحشرة التي تلحق الأذى بالمجتمع كلّه.. أما أن يرقّى، فذلك لا يمكن أن يخطر ببال أحد أبداً..! العمى، والله، شيء يصرع..!”
حيث يتجلى لنا أن الكاتب استخدم تعبير الأوساخ التي لها مستقر تذهب إليه رابطاً بمشهد زوال الأوساخ من جسد الحاج عمر بمشهد ترقي أحد الفاسدين في الحكومة بدلاً من طرده وإزالته من مراكز الرياسة، فالحديث عن الشأن السياسي هو الأكثر منطقية في تناول الحدث الواقعي، واستنكاره للتعبير عن الترابط الفعلي ما بين الكاتب والمجتمع، فالكلمة لسان حال الحياة المكتظة بالإرهاق والتعب والملمات النفسية، ورصد ذلك يعتبر مهمة وظيفية تتمحور في فضاء معالجة الواقع وما يستجد عنه من سلوكيات مواربة تقف وراء مأساة الحياة، وسوداويتها لدى الأفراد الذين يتحسسون مرارته إجمالاً، فالواقعية النقدية ما تلبث أن تبرز كطرف فاعل وجاذب للتساؤلات، في خضم القصة، حيث تترجم بصدق المأساة الجلية، حيث لا ينطلق الكاتب في الحديث عن الفساد بشمولية، وإنما يشرك كل أجزاء النص بشخوصه وكذلك الأمكنة التي تتخللها في عملية إنشاء الأفكار وزيادة التأثير النفسي فيها من خلال آليات الأسلوب التحريضي الناقد، هنا يعرض الكاتب محمود الوهب لنا الواقعية السورية، كأنموذج يحتذى به في الشرق الأوسط، فالفساد والقمع فجرا فيما بعد ثورة لا تبور، وتفككاً رهيباً في مفاصل المجتمع، عبر أطواره المتباينة، حيث للنقد القصصي دوره في كشف العلل والنواقص، فهي ليست ضرباً من ضروب الوعظ الكلاسيكي، وإنما هو امتزاج الفن والواقع في سياق البحث عن الحلول الأكثر أهمية لبناء الفرد في ظل المجتمع، وإصلاح السلطة وتقويمها عبر الكشف المباشر عن إشكالاتها، وكذلك الإسهاب التأملي في سبر معالم المجتمع عن كثب كما في قصة –العباءة- حيث نلحظ الإشارات التي تفصح عن مكامن الذوات واختلافاتها استناداً إلى نظرية الأجيال حيث عرّف الفيلسوف كارل مانهايم2 الجيل “لاحظ أن البعض اقترح أن مصطلح الجماعة أكثر صحة، لتمييز الأجيال الاجتماعية عن أجيال القرابة (الأسرة، المرتبطة بالدم) كمجموعة من الأفراد ذوي الأعمار المتشابهة شهد أعضاؤها حدثًا تاريخيًا جديرًا بالملاحظة في غضون فترة زمنية معينة”، حيث يبرز الكاتب محمود الوهب،  هذا التباين بين الأمزجة والأفكار على نحو تصادمي، بغية إجراء سفر دقيق وشامل لمكنونات الرؤى ما بين الأبن وأبيه، على نحو مقلق، يجسد لنا الشرخ الحاصل بين عوالم لا تكاد تتلاقى، في أجيال عقدت العزم على أن تكشف النقاب عن هواجس زمنها، رغم تزاحم السطوة الأبوية، وتعسفها، لنتأمل هنا ص8: ” نظرات حادة تعلن رفضه القاطع.. هو رفض متعال يستصغر شأن الشاب، وينكر عليه رأيه ورؤيته! رأي غريب يباغت الأب، يجعل من رأسه عشاً لدبابير مستثارة، يضج بالهواجس والفوضى! أسئلة يتناسل بعضها من بعض، تستهدف سر تخريف الولد وأبعاده، تتعقب أصوله ونشأته. ما بواعثه وغاياته؟ من أين طلعت للولد هذه الهرطقة الغريبة؟ كيف نبتت في رأسه؟ ومن تراه أوحى بها؟! من ذرّ بذرتها في أفق هذا الولد الغر؟! وكيف لها أن تنمو في ذهنه؟ أن تتواءم وخلاياه؟ أية مسالك عبرتها إلى ذهنه؟! وكيف؟! وما الزمن الذي استغرقته؟! وكيف لروحه ألا ترفضها؟! وما دور التربية والمربين؟! ثم من أين له هذه الجرأة ليلقي بها، هكذا، ببساطة، أمام أبيه.. أبيه السيد الكبير قبل أن أكون أبيه؟! وبهذه الوقاحة؟! ”
الأب هنا في أوج توتره الفكري والنفسي، يجد في ذاته رمز كبرياء بدواعي أنه السيد الكبير، إلى جانب استهجانه الصريح لكل طفرة تتوثب من ذهن الابن، فهي من الممكن أن تعلو على ذهنيته وتصورات بني زمانه، وبهذا فلا يرى بداً من المواجهة والذود عن تلك القناعة التي جُبل عليها، نجد أن الكاتب برع في توالي التساؤلات، كل منها تشير إلى عظم النكبة التي تعم داخل الأب، لقناعته أن كل جدة مستهجنة، وتكاد توقع بالمعايير الأخلاقية التي نشأ عليها، انعكاساً لصراع كامن في العقلية القائمة على رفض الجديد والمحافظة على الوضع القائم، حال القوى التقليدية في الاستماتة للبقاء في ظل صعود قوى جديدة تستميت هي الأخرى في إبراز كينونتها المنتهكة في الميدان السياسي، فحسب مانهايم فإنه يرى أن تصاعد الوعي الاجتماعي المدشن لنهضة النخبة الشابة المرتبطة إجمالاً بالحدث يشكل استجابة للنضوج القائم في حقبة معينة ومكان معين، فأوجه الإرتباط والشبه بين ما يشير إليه الكاتب محمود الوهب في قصة العباءة وبين نظرية الأجيال لكارل مانهايم، يكمن في إبراز  تلك القوى المعنوية التي تتصاعد لتشكل الحدث الأكثر إثارة، وهي بالضرورة تعد المصدر الهام لصناعة الوعي المشترك القائم على التغيير الاجتماعي، بيد أن الكاتب محمود الوهب يشير إلى ذلك الخوف الذي يعتري ذهنية الجيل المحافظ المستهجن للتغيير بأشكاله، هو في ذاته إشارة مبطنة لأنظمة الشرق الأوسط الأبوية البطرياركية، تلك التي تتخوف من التغيير والنهضة، وتحاربه بكل قوة، حيث يشير الكاتب أيضاً إلى حقيقة الصراع الأليم بين القوى القائمة والناهضة، إذاً فثمة حالة من اللا رضا والخيبة تعتري الابن إزاء تعنت الوالد وقسوة كلماته، فللنزق دلالة على انسداد مجاري الحوار بين الطرفين ما نجم عنه في النهاية ضياع البوصلة،و ترسخ الاغتراب الفردي، وشيوع انعدام الثقة، كل ذلك أثر على عملية التغيير والنهوض، حيث ثمة عوائق تحول دون التحديث، والمحافظة على المهترأ وغير صالح للحياة هو لسان حال الأب، حتى أن مسوغاته وسرده لرمزية العباءة تتلخص في متاهة التمجيد والتهليل لها، فالنوم في عباءة الماضي هو إفلاس راهن، وعجز عن مواكبة مستجداته، لهذا نجد الصمت والذهول سيد الموقف في نهاية كل حديث، حيث نجد أن للمرأة رأياً آخر يتجلى في تحديث القديم ليغدو مناسباً وذلك بالاعتناء بتلك العباءة لتكون للولد القادم، ولكن الوالد لم يفعل ذلك ، كأن في ذلك إشارة إلى أن الماضي فائح بنكهته، تجديد الماضي، هو بمثابة إسفاف بحرمته ورهبته، لدى المعاصرين لحقبهم، فالإصلاحات التي يُنظر لها بعين الريبة، كانت ستمنع انتفاضة توشك أن تحدث الفوضى، فبقاء التشرذم والاحتكام لمنطق القوة والتعنت يُذهب بالنتيجة تلك الطاقات المستفيدة من حصانة القديم، وسرعان ما يصل الابن لتلك الصرخة المدوية ص10:”«صار لزاماً علينا يا أبت استبدال عباءة جديدة بهذه القديمة البالية..؟!» من تراه يرتدي عباءة عقوداً طويلة متتالية، ولا يستبدل بها ما يلائم زمانه وأيامه..؟! هي قديمة، بالية.. تالفة.. بل هي، إن شئتم، كريهة..! نعم هي هكذا وأكثر..! وما العباءة إلا عنوان الرجل ومكنون سريرته ورؤاه..! فعما تراها تعبّر هذه الخرقة التالفة؟! ألا ترون شكلها المزري..؟! خيوطها المتهرئة، ألوانها الباهتة.. ثقوبها التي لا تعد ولا تحصى..! العثة استباحت صوفها وحريرها.. لم يعد ينفع فيها رتق ولا صِباغ.. بل هي عصية على أيّ راتق أو صَبَّاغ..! إنها، وربي، مخجلة.. مخجلة لي، ولكم وللمعارف والضيوف، وللوفود والناس أجمعين..! الكل، بعد العثرة الفاضحة، بات في غمز ولمز..؟! ألا ترون ألا تسمعون ما يقولون؟! ألا تستدعي العثرة الاعتبار..؟! ألم تكد أن تودي به، لولا أن سارع ذلك التابع البائس فافتداه بحياته؟! ذهب المسكين ضحية حاجته.. الحاجة والجهل والإخلاص الأخرق.. يتَّم أطفالاً.. حرق قلب أم، وترك زوجة لرياح الليالي وأوجاع الأيام! أتراه يعلم أن جوهر العلة كامن في قِدَم العباءة، وفي أذيالها الممزقة؟!»” ، حيث أن الاحتجاج وبروز الحل بكم هائل من الحدة كان النتيجة عن ذلك الاستهزأ والاقصاء والتعنت، ولعل عدم الاستجابة له مكن روح الفوضى وإشاعة الشرور بين الناس، ولاشك أن الكاتب محمود الوهب وجد أن التغير الاجتماعي أمر محتم لابد وأن ينشب لو بعد كمِّ من الفوضى والصراع المأساوي بخلاف ما أشار إليه مانهايم من أن التغير الاجتماعي قد يحدث تدريجيًا، دون الحاجة لأحداث تاريخية بارزة، حيث نرى تلك الرمزية الكامنة في روح النص مشتعلة بغلالة التساؤلات، ففي قصة –قطيع بيت عاروب- نلمح تشابكاً في الأحداث، غرابة في الحكائية، وكذلك دلالات تتضح مع التبصر والأخذ بتلابيب القصة وتطورات المشهد  حيث أن من يحيطون مضافة الشيخ حميد البطران يتضح لنا أنهم مأمورون لا حظ لهم من الرأي والمشورة، لهذا يلتفتون للراعي حمّاد ويشتركون مع المختار في توبيخه فهنا تحوم في داخله فكرة تبيان حقيقة ما جرى ص14: ” حمّاد الذي أرهبته صرخة سيِّده المختار.. وضيقت الخناق حول رقبته.. وربما أسالت الماء بين فخذيه.. اضطر لفك عقدة ارتباكه، وأخذ يفرغ كل ما جرى معه، وما رآه بعينيه بالتمام والكمال! إذ لا منقذ له إلا أن يثبت ما جاء به من حوادث ووقائع بالحجج والبراهين!”
لهذا نجد أن الكاتب استخدم انزياحات في خضم مشهد القصة وحال القطيع، ليشير إلى ما أراد قوله من وراء هذه الحكاية، حيث تتضح لنا الفكرة الواضحة وهي الشعب (القطيع) وبين السلطة (المختار وحاشيته) لهذا نجد في النهاية أن الحل الذي أشار إليه المختار تعسفي قمعي كما هنا ص17:” ـ زين.. تجهز السيوف والسواطير.. واستدرك:
لا.. لا هذي ما تنفع.. تأخذ، أنت وربعك، سلاح من مخازن الحرس عندي.. انتبه يا جلمود.. قبل أن تبدؤوا.. تفهم جماعتك الحقيقة كلها، تقول لهم بالكلمة والحرف:
إنّ جنيات وادي الأخضر اندست في نفوس الدواب.. غفل عنها حمّاد.. فتغلغلت في أرواحها وفي دمها..! والحين ما عاد منها لا فائدة، ولا نفع.. حليبها حرام.. ولحمها حرام.. وشعرها.. وصوفها.. حتى روثها ما يجوز لا للأرض ولا للنار.. تربيتها كلها صارت حرام في حرام.. صمت المختار حميد البطران للحظة، ثم، وكمن انتبه إلى أمر خطير، صاح:
جلمود قبل ما تقوم بأي عمل، لازم تمر على الشيخ عبّاس، وتحكي له ما جرى للقطيع! ولازم تأخذ منه الفتوى بالذبح الفوري!”
هنا أعطت السلطات القمعية مسوغات لقمع شعوبها المنتفضة،دون النزول لمطالبها، هذا ما أراد الكاتب الإشارة إليه في سياق هذه القصة ، حيث تلفتنا أكثر الدراما الشعبية الحكائية المؤثرة ووضوح اللغة ورمزيتها، حيث أضفى على النص القصصي برمته طابعاً فكاهياً درامياً مؤثراً، وإزاء ذلك نتنبه لنهاية القفلة وهي نتيجة هذا القمع والتعسف، الذي تجلى بالفوضى والتبعثر وزوال أسباب الهيبة والحكم مع الوقت ، على منوال الحدث الذي رافق أبو عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة حين قالت له عائشة أم أبو عبد الله الصغير3:”إبك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال\”
ولعل الحكمة والنزول لحب الشعب ونزاهة الحكم كلها من مقومات بقاء الدولة ، بيد أن الكاتب محمود الوهب يبوح لنا بالنهاية المفجعة في هذه القصة ص17:
” أما الثابت في أرجاء ديرة بيت عاروب أنّ العنزة لم تزل ثابتة على مواقفها وقد أكد، آخر بيان أصدرته باسم القطيع، الأحاديث التي قيلت حول جلمود.. إذ جاء فيه:
إنّ جلموداً فقد صوابه كلياً، وقد شوهد عياناً بين أدغال الحقول الشرقية، وكان قد تجرّد من كلّ ما يستر جسده.. ويؤكد الشاهد بأن جلموداً كان يصرخ بين الفترة والأخرى بأصوات تترجح بين العواء والمواء.. أما الأمر الأهم، فهو ما جاء في البيانات المحايدة التي تخص المختار وصحبه، إذ أكد أحد تلك البيانات أنّ حميد البطران وصحبه قد تعرّضوا فعلاً إلى مؤامرة جنية خبيثة.. مؤامرة نالت من هيئاتهم البشرية، وأفقدتهم القدرة على التلاؤم مع الأحوال الجديدة لآل عاروب كلهم.. فانسحبوا هائمين في النواحي والأمصار..! ”
في إشارة إلى أن تفشي الفساد إلى جانب الاستبداد، جعل من الإدارات الشمولية في حالة من الفوضى الذي جعلها في تفتت مستمر إيذاناً بزوالها مع الوقت، حيث أن التفسخ والشللية القائمة في مؤسساتها، سرعان ما تغدو نهباً لأطماع القوى الكبرى وجشعها، هكذا يبين الكاتب من خلال الحديث عن تفاصيل المحن التي عمت المجتمعات، جعلتها أشبه بالقطيع المحتقن، والذي يتفجر على نمط غريب يقود بالنهاية لدمار كل شيء، فالشرخ الكبير بين المسؤولين والجماهير، يؤدي لتشكل هذه النظرة في رؤية المحكومين أنهم عبارة عن قطيع يطيع ويلحق برعاته، أما أن تتلبسهم روح التمرد والشكوى، فهذا ما لا يتوقعه ويتخيله المرؤوسون، إذ لا يمكن مفاوضة قطيع حيواني ، فالشعب بنظرهم ليسوا سوى ذلك القطيع المأمور، واستغرابهم تصرفات ذلك القطيع، هو بمثابة الحدث الأكثر جللاً، والذي قادهم إلى التفكير بإبادة القطيع، فقد خرج عن طبيعته المفترض أن تبقى عليها للأبد، هذا بوجهة نظر المتنفذين السلطويين، فهم يصفون كل انتفاضة بالجنون والخروج عن الجادة، وهكذا يستعر الصراع فيما بين المختار وجماعته من جهة والقطيع من جهة أخرى، ليؤدي ذلك إلى التشتت والتبعثر كنتيجة من نتائج المماطلة والقمع الجائر، فالمنظومة التي تعج بممارسات الاستبداد والشمولية في هيكليتها ومؤسساتها، تنشأ فيما بين أفراد تعاقد على الرهبة والوجل، وانعدام الثقة، ولاسيما ذلك الاستبداد المحاط بأفراد يجمع فيما بينها علاقات القرابة القائمة على حماية النفوذ، ويصبح هدفها الكلي حماية السلطة ضد خطر تمرد المجتمع المحتمل،ولا يلجأ السلطوي إلى محاولات الإصلاح، لاعتقاده أن ذلك اعتراف مبطن بخوفه من الشعب، وأن تنازله لشيء معناه أن سيتنازل في أشياء أهم هي من صميم حاجيات الشعب وخصوصاً نخبه الشابة المستنيرة، هذا ما أشار إليه الكاتب في سياق النص، فالسلطة تستعين أيضاً بالقداسة الدينية، إذ تبحث أبداً عن مبررات دينية من النصوص المقدسة تبيح لها بطشها وقمعها، كما في النص حينما أراد المختار أن يفتي له أحد الشيوخ بذبح فوري للقطيع وتحريم أكل لحمها وشرب حليبها، حيث يشير الكاتب محمود الوهب إلى تلك العلاقة التوأمية ما بين السلطويين ورجال الدين، هم يحتاجون للنصوص المقدسة أبداً لتبرير سلوكياتهم، فقد عززت تلك النصوص سلطة الطاغية، مكنته على البقاء أكثر، جعلت منه وصياً على الدين والشريعة والحياة والمجتمع بأسره، ولاشك أن ازدياد الجماعات التبشيرية وكثرة التنظيمات الدينية تمثل الحاجة المتسارعة للسلطات لبقاء تجديد صلاحياتها، كونها خير معين لضبط سلوك الشعوب، ودوام مكوثها، حيث نجحت في استخدام العقائد الروحية في شن هجماتها على كل النقاط التي تحتاج تقسيمها وتثبيت أقدامها فيها، مهيمنة على المجتمع عبر نافذة الإعلام المرئي والمسموع، للحد من التفوق الذي لابد وأن يتلبس النخبة الشابة، لتكون الرادع لمخططاتها التخديرية في إيهام الجماهير وإخضاعها بوسائل تتصل بمفهوم القوة الناعمة، لاشك فإن هذه القصة قدمت كل هذه الدلالات بصور مختلفة، ومشاهد متباينة، وفي قصة –أحلام القهوة- نجد هذه الطاقة التعبيرية السوداء في التعبير عن المكان بعدسة الحنين والخيبة، وصف الخراب في أحياء مدينة حلب، وما خلفته هذه الحرب من دمار نفسي ص23: ” موت مباغت، موت يتربص خلف الجدران وأكياس الرمل.. موت كريه، يخلّف نتنه في الهواء وعلى أوراق الشجر.. يرسم لونه الباهت على الحجر، وأسفلت الطريق.. موت بارد، يرعش دم الأوردة.. تقرؤه العيون بصمت وذهول.. تترجمه الأنفس رجاءات وتعاويذ..” فللنفس في مشهد الموت رؤى تتجه لمحاكاة الماضي واستجداءه، فلا شيء أصعب على المرء من البقاء مرتعد الأوصال والملامح إزاء مشاهد قاتمة، تتنقل في ذهن الكاتب من لون إلى لون ضمن متاهة داكنة، يتضمن المكان الخرب، حوارات لا تكاد تنتهي، تخفي في زحمتها رسائل عديدة، حيث يتجلى صراع الأضداد، ما بين قبح يطغى على المكان، وجمال يأبى إلا أن يقيم في ذهن من لم يبارح الحنين رغم الموت، حيث يكمل الكاتب في قصة الكوبرا، شؤون السلطة في محاكاتها لطرق ووسائل المحافظة على مراكزها وذلك بالحرب مستخدمة قوت الشعب في ذلك، فالجماهير التي باتت تتجمع عند باب القصر بدأت تشعر بالغرابة ما إن انتهى الرئيس ذو الرقبة الطويلة واللسان الأطول من خطابه قائلاً ص29 :” انته الحوار بيننا وبينهم.. ولم يبق أمامنا غير الحرب، فهي التي ستأتي لنا برؤوسهم.. سترونها تحت أقدامكم، وستؤمن لكم الأمن والدفء والسلام.. وصفق الباب خلفه صفقة اهتزت لها الأرجاء المحيطة.. ارتعدنا، من شدة الهول، واندفعنا نتدحرج، بعضنا فوق بعض، محاولين تلمُّس طريق عودتنا، والدنيا تشتد من حولنا غباراً ودخاناً وظلاماً، رغم أننا لا نزال في عزّ الضحى..! ثم بدأنا نسمع قعقعة.. ونرى أشياء ملتهبة تترامى من حولنا وفوقنا.. وحين أخذت أجسادنا تغرق بالسائل اللزج، تساءلنا ببلاهة.. كيف، ولماذا، يتحوّل لون المازوت من الأصفر الباهت إلى الأحمر القاني..؟! عندها فقط أدركنا، ونحن، بين اليقظة والحلم، أنّ حرب البراميل قد بدأت فعلاً..!”
فما قاله الرئيس يخالف ما قاله فيما مضى الشاعر زهير ابن ابي سلمى4، داعي السلام :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم…..وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة…….وتضرى إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثقالها ……وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم …….. كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فالدعوة للحرب هو شأن السلطويين في الذود عن قواعدهم ، فما حاجة الشعب للحرب؟!، وما هي مبرراته وغاياته بالنسبة لمنافع الشعب حسبما قاله الرئيس، متذرعاً بأن قوت الشعب قد تمت سرقته، وأنه قد نُصِّب لاسترجاع المسروق، لقد تحدث الكاتب محمود الوهب في قصتي قطيع بيت عاروب، وكذلك قصة الكوبرا، عن ما يحدثه الاستبداد والفساد من فوضى لا رجعة عنها، وتفكك مجتمعي، ينشب أظافره أولاً بالشعب مروراً بتنظيماته المحلية، وانتهاء بمؤسسات السلطة وأبرز أفرادها، حيث يعد الفيلسوف توماس هوبز5  أول من أشار إلى هذه الفوضى ، في حين ذهب أرسطو 6للقول: ” ان الانسان بطبعه حيوان سياسي يحب الحياة في جماعة سياسية منظمة فهو مدني بالطبع” ، ولكن الحرب هنا بين الجماهير والسلطات القمعية حرب وجود، لا تكاد تسفر عن نتيجة معينة ، لاسيما حينما تمر الانتفاضة الجماهيرية لتتصادم مع قوى تتداخل فيما بين السلطةوالانتفاضة لتنقل ساحة الفوضى هذه إلى نطاق أوسع وأشمل يشمل التقاسمات الاقليمية كما في الأزمة السورية كأنموذج لذلك، حيث يأخذ حرب النفط وتقاسم الموارد طابعاً دموياً أشار إليه الكاتب محمود الوهب في سياق مبطن ووجداني ” ولماذا، يتحوّل لون المازوت من الأصفر الباهت إلى الأحمر القاني..؟!،وهكذا يبين الكاتب عن إرهاص المشهد الثوري بتداخل المصالح الاقليمية وتحويرها للمسعى الجماهيري نحو حالة أكثر سوداوية ومأساوية ، والهدف هو تفكيك المجتمع وتدمير بناه إضافة لمؤسساته، في حين بين الفارابي7 من أن ” الانسان اجتماعي بطبعه وهو لا يبلغ كماله الا عند وجوده في مجتمع “، فتدمير الفرد وتكبيله بالدمار والخراب والعجز لهو تمهيد لإدخاله في حالة من فوضى غير منتهية ، وهو بالتالي محاولة للقضاء على التعاقد الفطري الطبيعي بين الجماعات، ولاشك أن ابتزاز الجماهير بقوتها هو دليل على تدمير مقومات نهوضها وتهديد لمعاييرها الاجتماعية ، حينما أكد هوبز بأن التربية تشكل عموداً أساسياً لبناء المجتمع السياسي المعافى،تلك الحرب لا تغدو في ظل الفوضى سوى استجابة لغايات الأطراف المتحاربة والتي تدعمها الدول المستفيدة من هذا التفكك، والانقسام المجتمعي إلى جانب نزوح أفراده، الأمر الذي يسهم في حرب الأفراد ضد بعضهم البعض لإبراز معالم  حرب الكل ضد الكل، حيث ننتقل إلى قصة هذيان السمع والبصر، لنجدها تكتظ بالتعابير المرموزة المصبوغة بأنين وجداني وحزن جامد، وقد اختار الكاتب طريقة بديعة في الدخول للنص، إذ بدأها على نحو يبعث على الإمتاع الفني، عبر حوار داخل بين شخص وأحد العساكر، بيد أن الشخص هو السارد لحقيقة ما جرى له، ويجري للناس، في مشهد رعب متسلسل، لنرَ هنا ص30: “- أجبني، هيا بسرعة، كيف تريد نهايتَك..؟!
– نهايتي..! وحرت في جواب مناسب.. أخذتني الدهشة والمفاجأة، وحين رآني أتلكأ، تابع يشرح بهدوء:
– أتريدُها رصاصةً مباشرة في الرأس أم في القلب؟! أَمِنْ أمام تريدُها، أم من خلف؟! دفعته بيديَّ اللتين لا أعرف كيف واتتهما، في تلك اللحظة، قوة غريبة.. قوة لم أعهدها فيهما..! فراح يتدحرج على الأرض. ضحكت منه، وتابعت النظر الممتع إلى الرغيف.. أعني إلى وجه الطفل البرتقالي..! وكدت أنساه فعلاً، وأنا أبتعد عنه منشغلاً برؤياي، لكنه عاد ليقطع عليَّ طريقي، ويؤكد ما كان بدأه:
– أنا لا أمازحك أتريدها طلقة من قناص مجهول أم من “شبيح” معلوم؟! لعلك تودُّها من ثائر مزعوم! وكشَّر، هذه المرة، ودخل في موجة من الضَّحِك، والكركرة، وحديده، على كتفه، ما يزال. سألني:
أتكفيك رصاصة عادية أم تحتاج إلى قذيفة ممتلئة؟! ما لدينا كثير.. كثير ومتنوع، وأخذ يعدد:
الكلاشن، ووضع يده على حديدته، والآر بي جي.. ثم لدينا الدوشكا والشيلكا والبي كي سي.. وعندنا، أيضاً، أنواع أخرى، إن لم تعجبك القذائف الصغيرة هذه، لدينا صواريخ ترابية، وأخرى نارية..! وعندنا أيضاً البراميل، البراميل بدعة ما أحسن اختراعها غيرُنا..!”
فلا شيء يقف في ردهة إحساس السارد سوى الموت المتعدد بأسماء ونعوت مختلفة، موت من مرتزق، أو من قناص، أو من ثائر مزعوم، وهكذا تتعدد الأشكال لهذا الموت الواحد، إلى جانب تمثله بالوجه البرتقالي لذلك الطفل، المصدوم من كل ما يفعله دعاة الموت، في هذه المدينة الخربة، المكتظة بروائح الفناء، هنا تطغى على النص التأملية المتسمة بسوداوية حادة، وآمال هائمة في معترك الضياع والفوضى، حيث تصحبنا مخيلة الكاتب محمود الوهب، نحو تجليات الحرب وأحداثها وحواراتها الصاخبة، و مثَّل لنا الوجه البرتقالي الأشبه بالرغيف انحيازاً للحياة والأمل رغماً عن قسوة الحرب، وصور ضحاياها الممتلئة في الذاكرة الإنسانية،ولعل المشهد المأساوي وترسخه في الذهن المتلقي للواعج اللغة وآهاتها، يتمثل في صدق الرؤية وطريقة الإسهاب وجودة الإسلوب، قربه من تلك الذائقة العامة، وقدرتها على الإيغال بالأرواح والأفكار معاً، هذا ما سعى الكاتب لتبيانه، في سياق السردية والحوار الماتع الموغل تحديداً في مخاطبة الذائقة العادية، للرفع من مستوى نظرها، وللعبور بها لمعالم أكثر رحابةـ، وجدة، ففي قصة -حلم الحرية- يجسد الكاتب مسببات الصراع المؤلم، الذي بعثر البشر وساقهم كقطعان لميادين الجنون والقتال الرهيب، يصور قتامة المشهد، وهذا العار الإنساني في إبداء التوحش في عصر تلبس المدنية والحريات،حيث تساعدنا تلك اللغة التصويرية المتقنة والمكتظة بالرموز لرؤية تلك المعالم الفنية في رسم المشهد ، وإتاحة المساحة للمتلقي في سبر لواعج الكاتب ، ومراميه من العمل القصصي برمته، وفق صيرورة ترتقي بالإبداع الملازم لشفافية تجسيد الحدث المؤلم، فهو يعرض الحقائق أمامنا ، ويجسد لنا ميادين الصراع العبثي بدلاً من الصراع لأجل حياة أفضل، لنتأمل هنا ص32: ” ليس في الشوارع غير الأنين والحواجز، حواجز من الأسمنت الأصم.. هيئات شخوص تتشبه بالجند، وليست منهم في شيء! حتى سور الحديقة لم يبق على عهده.. افتقد زهو خضرته، ووروده، غمرته كثافة اللافتات وتزاحمها.. غلفت بياض ياسمينه ببراقع من الأسود والأحمر والكحلي.. امتصت عطره الذي كان، وشذاه..”
حيث يشير الكاتب إلى مواضع السواد والعتمة التي تتجلى لتغطي المشهد المكاني برمته، مما يجعلنا نركن للتاريخ ملياً ونفحصه، لنجده المساحة المكتظة بأمجاد الحكام الشخصيين ومحاولتهم للإبقاء على سطوتهم ولو على حساب دماء الأبرياء، حيث يصف لنا الكاتب الحرب وأهوالها، وغموض المستقبل إزاءها، وكذلك هذا التوحش الذي يستشرس ويحول دون نمو الزهور والأشجار، كأن الإنسان لم يعرف البناء والفن، ولم يقم بصنع ما يسمى بالحضارة، لتكون سمواً بالنفس، لا إذلالاً لها، إنه يصف لنا بانوراما الحرب انطلاقاً من مدينة حلب، وحوادثها، وخرابها المستمر، فثقافة الحرب وأدبها إن صحت تلك التسمية ، هو تجسيد للويلات على نحو واقعي ومؤلم جداً، وكذلك محاولة استثارة روح الإنسان، لدى الذي تحول بينهم وبين الإنسانية هواجس التصارع والغلبة، حيث تغدو الحدائق وهماً أمام ألسنة اللهب المستعرة والقصف الذي يهبط يميناً وشمالاً، كما نجد في قصة أوهام الحديقة مسحة تعبيرية تميل للألم المعتاد، إضافة لمعاناة الإنسان حيث نتأمل هنا: ص36، ” يشتد عطش «هانئ» يشقق الجفاف شفتيه.. ينظر إلى الفوهات القاتمة التي خلِّفتها الجذور.. تضخ الفوهات ماء زلالاً.. يميل هانئ ليشرب.. لا ليس بماء هو.. إنه دم..! دم أحمر قان.. يزداد سيلان الدم.. يحاول خلاصاً.. المكتب؟! يريد مكتبه.. يرتفع الدم من حوله.. يرفع رأسه نحو الأشجار.. لا يرى غير دم يتماوج في ارتفاع.. يغدو الدم بركة.. ترتفع الأشجار وتبتعد.. الدم بحيرة.. هانئ في وسطها.. نظره إلى الأعلى البعيد.. لا شيء غير بقايا الجذور، تبدو على البعد مثل أصابع وردية على بطون بيضاء وأجنحة تخفق في الأعالي، وتبتعد..” كل شيء دم، هذا العالم توحش، هذا لسان هانئ، يتحسس الرعب في المكان، في إطار سرد معقد الدلالات، يخوض في تجربة الحرب، وأثرها على المجتمعات، وقيمها، فالألم هنا ليس رديف اللذة، في تتبع جمال المكان، الحديقة هنا، تغوص في متاهة الوهم والوهن، فالفن السردي هنا يغوص بالمعاناة الفريدة، يلجأ الكاتب للخيال كي يحيط بالألم، ويسبر بواطن التعابير، إنه يأمل بالخلاص، وينجز الفن الذي ينقل الإنسان من متاهات التشرذم والضياع إلى حدائق الألفة والمسرة، وكذلك تجسد اللغة القصصية ميل الإنسان الدائم للبقاء ، رغم الحروب التي تشتعل في أنحاء الوجود، لكن نداء الحضارة والعراقة أقوى، من غرائز التوحش التي تطبع بها السلطويون وأثرياء الحرب وتجار السلاح، حيث أن الكاتب بمجمل قصصة يدعو إلى :
• العودة لمسالك الصفاء والتمرس بثقافة الحياة كبديل عن امتهان الفناء وتدمير الموجودات البشرية والطبيعية
• التأكيد على عظمة الموجود باقترانه بالمعايير الأخلاقية التي تنتصر لنداء الواجب، وفي ذلك تتحقق أواصر السلام بين الموجودات على قاعدة السلم البشري
• اتخاذ تدابير قميمة في ظل احتدام الصراع الغرائزي لتقاسم الموارد والنفوذ، وإبراز أدب ينتصر للسلام كحقيقة للتعايش السلمي بين الشعوب التي تجمعها الجغرافيا الحالية، دون إقصاء وتعسف بين بعضها البعض، بل بعقد اجتماعي يزيل مظاهر الاضطهاد والعنصرية فيما بينها
• التأكيد على الجانب الخير للإنسان، أمام تحديات المشهد المرعب، والدعوة لكبح جماح العنف والسعي لحياة بديلة عن الدمار والتعسف، لتحسين التجربة الإنسانية وتعميمها في الحياة المعيشة..
ونقف عند قصة -حوريات- حيث يتحدث الكاتب محمود الوهب عن ما يخلفه التطرف التربوي، من نتائج وخيمة، على العقل والذهنية السلوكية لدى الإنسان، منذ طفولته، ولعل الديانات الإبراهيمية ربت التقاليد المتطرفة في جوهر نصوصها، وجعلت الشعوب عبر التاريخ تدفع ثمن ذلك ، عبر حروب يذهب ضحيتها الشباب، نتأمل هنا ص39: ” هل أطلت الوقوف قبل أن أبوحَ بسرِّي، وأصرخَ صرختي، أيُحْسَبُ تمعُّني فيمن رأيتهم أمامي تشككاً وتلكؤاً؟! أليس من حقي التأكد من حقيقة الموقع؟! فما رأيته لم يكن حاجزاً عسكرياً! ولا هو مقر لحزب علماني “كافر”، كذلك لم يكن مطعماً أو ماخوراً يفسد خلق الشباب، ودينهم، كما كان الشيخ عبد الصمد يردد دائماً! ويحذر من ارتيادها..! إنه سوق، سوق، يا ناس، سوق السمك والخضار، السوق التي تضجُّ، على الدوام، بالناس والحياة!”
فالفطرة الذاتية تسبق الأحقاد التي يزرعها الشيوخ، في عقول هؤلاء الساعين للموت، من أجل جنة وهمية، فهو يبصر أن المكان الذي أخذ فيه يفجر نفسه، أنه سوق يتقوت فيه الناس، ولعل تلك اللحظة التي تتوسط الحياة والموت، قد باحت له بحقائق كانت غافلة عنه، حيث يبين الكاتب من وراء عرض هذا الحدث حقيقة ما وعى به ذلك الذي فجر نفسه، بين سوق مكتظ بالناس، فقد تنامت الكراهية في ذات السارد في القصة، عبر تلقينه إياها بمنهجية، جعلت منه عامل دمار للآخرين، حيث يشير الكاتب إلى التنشئة وظروفها التي أدت لتفشي ظاهرة التطرف أكثر فأكثر، فهذا الغلو في التعاليم المقدسة أدى لاستفحال مخاطر صنّاع الموت، فهنا لابد من التدقيق في ملابسات استمالة الشخص وترغيبه بغية التحكم به من نافذة الشهوة المكبوتة لنرَ هنا ص40 : ” تلك الجميلات الصغيرات، يا شيخ رضا، إنِّما خصصن لمتعة الشهداء الذين يموتون، وهم يقاتلون الكفار، وفي سبيل حماية دين الإسلام.. فالجنة مراتب، يا رضا، يتصدرها الشهداء، ثم العابدون القانتون، وبعدئذ تأتي بقية المسلمين.. ولكل من هؤلاء حورياته اللاتي يناسبن فعله في حياته الفانية..!” فهنا خرج التفكير عن الأفكار الطبيعية والسلوكيات المتوازنة، وبات يتدخل أكثر في جوهر السلوك الساذج وطبيعة التصرفات المضطربة، حيث يشير الكاتب إلى ظروف التنشئة الاجتماعية، وطبيعة ذلك المجتمع، مراحل عزلتها وغيبوبتها، حتى تصبح هذه القناعات الناتجة عن تلك الظروف ثوابت مطلقة، مغطاة بانفعالات وجدانية، مشحونة بالاضطراب، وكذلك تجسد لنا خلو هذه البيئة من لوازم الحياة الطبيعية كالحنان والطيبة والحب، ومع مشاهد من السخرية الفنية التي ما تلبث أن تمتزج بمرارة التطرف والحديث هنا استطاع الكاتب أن يثير التساؤل ويعمد لتجسيد فكاهة المشهد الساذج، ومراراته إذ يودي بحياة الأبرياء كما نرى ص40: ”   تتفرسني العيون.. تفترسني.. رؤوس وقامات تقترب متوجسة، صياح وصراخ.. ركض وتحذير.. هواتف نقالة تلتصق بالآذان! وأفواه تلهج همساً بأمور غامضة! مجموعة من الرجال تتقدم نحوي، تطوقني.. أرتعد.. أكاد أنهار.. أستجمع ما لديَّ من قوة، يرتجف صوتي، ثم ينطلق صارخاً:
الله أكبر.. ومع ارتفاع صوتي، ودويّ حزامي الهائل، أراهُنَّ أمامي، أحلِّقُ إليهنَّ..! أراهن يتصايحن في مرح وابتهاج.. ألوِّح لهن بفرح:
قادم أنا.. قادم.. أقولها عامية فيروزية: “جايي أنا جايي..” أرتفع أمتاراً، أمتاراً فقط، ثمَّ أهوي مبعثراً في أوحال كريهة.. روث دواب، وبقايا خضار تالفة.. زنخ سمك ونواتج.. يضيق صدري.. أختنق أو أكاد.. لا أرى حولي غير الجثث والأشلاء، الكل يسبح بالدم والأوجاع.. أحاول الارتقاء، تعجزني الجراح وبعثرة الأشلاء! ما الذي جرى لي؟! لِمَ لمْ أصعد؟!
هنا يتجسد هول الحدث الذي أخذ يعبِّر عن نهاية هذا النزوح إلى الاغتراب المزمن، الذي باعد بين الإنسان والآخرين، من خلال موجات السراب الواهية التي أخذت تباعد ما بين هذا المتهالك وجمال الحياة وبهجتها، إزاء صور اختلطت بالشهوة في داخله، والتي لم يجد في الموت سوى وسيلة للوصول إلى شهوة تم كبتها بقسوة، والمظهر الأكثر خشونة هو مشهد ذلك المفجر نفسه، وهو بين الزنخ وتلف الخضار وروث الدواب، فلا من نعيم ولا من حوريات يشتعلن شوقاً لملاقاته، هنا بدأ يوشك في وقت متأخر، حقيقة الوهم المقدس، الذي قضى على بشر محيطين به، فالأثر الفني بادٍ على النص، رغم مواكبته لمعالجة الحدث ولكن بلونه القصصي غير الخارج عن أطره المحببة، والتي تعتبر بذاتها إيحاءات مختلفة لعبور الأفكار خلسة إلى باطن المتلقي، وعبر الصورة، المكان، الملامح النفسية، والحوار الدائر ما بين النفس أو الآخر..
• الخلاصة :
ينقل لنا الكاتب محمود الوهب ، مشاهد الحرب، انعكاسات الفساد، على الروح المعنوية للمجتمع، أثرها على القيم الطبيعية، وتداعياتها الخطيرة على الذوات الشابة، ونشوب تلك النزاعات لدرجة لا يمكن ضبطها أو وقفها بمثابة إفلاس حضاري تتقاسم أعباءه تلك الأطراف التي لا تستجيب للثوابت الإنسانية في حق الحياة، وإنما تذهب إلى البعيد إلى حيث الجشع وزيادة الأزمات وتفعيلها على حساب شعوب تعاني مرارة الواقع المزري بين فكي السلطة المستبدة، والفوضى العارمة، حيث يتناول عفونة المفاهيم والاحتجاج الفكري عليها، وكذلك لفضح ما خلفته عزلة المجتمعات عن قيم المواطنة الحرة وقبول الآخر، عبر الثورة عليها، بغية تقويضها، لتدشين بوادر الانتفاضة الذهنية، المتمثلة ببث آليات التسامح بين الشعوب والمجتمعات للخروج من عجزها وقوالب تغيييها، حيث نرى رفضاً لآليات الحكم المتمثلة في تمجيد التماثيل المتألهة كما في قصة البشير حيث نرى هنا ص43: ” أن يستدعيك زعيمك المفدَّى على نحو مفاجئ، وفي وقت مبكِّر من اليوم، أي قبل الدوام الرسمي بعدة ساعات، فهذا يعني أنَّ ثمة أمراً خطيراً حدث أو سيحدث، وهذا ما يضعك في نفق أسئلة، ما تني، تنمو، وتتشعب، مدخلة إياك في دوامة من القلق، والهواجس! إذ تأخذ أعمالك اليومية الماضية تكرَّ أمامك ككرة من الخيوط تأخذ في التدحرج على منحدر، لتهوي في النهاية إلى واد سحيق! أتراه دعاك لأمر يخصُّك؟ أله علاقةٌ بخطأٍ ارتكبته؟ أهناك وشايةٌ ما؟! وهكذا، تذهب روحك في رحلة قلق ورهبة، تستعرض خلالها وجوه زوارك، وأسماءهم، ومراتبهم، ومشكلاتهم، والحلول التي عملت بها، وتظلُّ الوساوس الشيطانية تعبث بأعصابك، تشدٌّها نحو نهاياتها، لتعزف عليها أناشيد الفزع والترقب! وأنت سائر بين يدي حرَّاس زعيمك المقربين، ممتثلاً للأوامر، كأنك أسير لا وزير. ذلك، في الحقيقة، ما حصل معي يوم بادرني الزعيم بعلومه اللافتة عن الحمير..!” فهنا يتجسد مذهب الاستحقار ما بين الرئيس وأعوانه، والتبعية لدرجة تقبل كل نعت وضيع، حيث أن الطقوس العوائدية الخاصة بحالة الاستحقار تمارس عن رضا وطيب خاطر بين من هو في أعلى الرتب ومن هم دونها بقليل، وفق حالة من انعدام الثقة، والقلق الدائم، من سعة النفوذ، أو الانقلاب المفاجئ، ولاسيما أن هالة التقديس التي تحيط بالقائد الرمز، منبثقة عن الرياء التام، والخوف على المنصب من زواله، ليذكرنا بأبيات للشاعر حسن النيفي 8 ، حين قال:
نادى العرّاف أيا سادة
لنقبِّل أقدام القادة
ولنركع للظلم عبادة
ونسبِّح باسم الإرهابِ
وليس العمل الأدبي برمته في هذا السياق مجرد استذكار للأقاويل والتعابير المتشابهة، إنما هو سبر للغة التي ضاعفت الإحساس بكل ذلك، إذ جعلت النقد حراً في مقارباته، واسترسالاته، وبذلك فإن الأدب الواقعي يبرز أكثر حدة حينما يعبر عن نقد الجماهير للسلطة، وللظواهر المضطربة، إننا أمام لون محدد قصصي لا يمتزج بالأجناس الأدبية الأخرى ، ويتميز بالتخصص بقضايا الإنسان وتشوهات السلوك، وعلل السلطة القامعة، ولم ينشط أدب الكاتب محمود الوهب برمته عن معادلة الالتزام بالنقد الجماهيري للسلطة، وكذلك لاستنهاض الثمرات الطبيعية لكفاح المعرفيين الشاق في مواجهة كافة الاضطرابات التي تعم البشر في ظل الحروب، وكذلك فإن الخوض في إشكالية الثقافة والدين، والأعراف، لهو محاولة للتمييز بين الطيب منها والسيء، في محاولة للتفريق بين ما ينعش الحياة الاجتماعية وما يجعلها في اضطراب، حيث لم يعزل الكاتب الفن عن القيمة المتشبثة بالدفاع عن قيم الحياة والجمال والخير، وبالإشارة إلى عيوب السلطة الشمولية، وطرف إفسادها لكافة مؤسسات الدولة، ناهيك عن تغلغلها العنيف داخل المجتمع من خلال أنموذج الدولة القومية التي من خلال تغطي على مآربها في البقاء في السلطة وتدمير قيم المساواة بين الشعوب، للحيلولة دون التحول الديمقراطي، وهكذا نجد أن المسعى وراء النقد الواقعي كان غايته، الإعداد للتغيير كفكر ممنهج، لا كانفعال صادر عن فعل البطش، فالدراما القصصية حاكت الوجدان الداخلي، وقدمت  القصة كونها فناً يوحي بالأفكار، إذ يقود التأثير الدرامي دفة اللغة القصصية، بمواكبة الفن، ضمن وحدة المسار، وما الحدث سوى مساحة تأملية جاذبة للوجدان الجمعي، وتصويرها اعتماداً على جودة اللغة ونقاوتها، ما يجعلها تتضوع بالحزن، وكذلك تنشد في طياتها الأمل، رغم توالي الأوجاع..
• الهوامش:
1- نزار قباني : نزار بن توفيق القباني (1342 – 1419 هـ / 1923 – 1998 م) دبلوماسي وشاعر سوري معاصر.
2- كارل مانهايم : كارل مانهايم (Karl Mannheim) (1893-1947) عالم اجتماع يهودي، مجري الأصل من مؤسسي علم الاجتماع الكلاسيكي ويعد مؤسس علم اجتماع المعرفة.
3- أبو عبد الله الصغير : أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 – 1527) هو محمد بن علي بن سعد بن علي بن يوسف المستغني بالله بن محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف. من بني نصر أو بني الأحمر المنحدرة من قبيلة الخزرج القحطانية، حكم مملكة غرناطة في الأندلس فترتين بين عامي (1482 – 1483) و عامي (1486 – 1492). وهو آخر ملوك الأندلس المسلمين الملقب بالغالب بالله
4- زهير ابن أبي سلمى : زُهير بن أبي سُلْمى المزني (520 – 609 م) أحد أشهر شعراء العرب وحكيم الشعراء في الجاهلية وهو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء وهم: امرؤ القيس وزُهير بن أبي سُلْمى والنابغة الذبياني. وتوفي قبيل بعثة النبي محمد
5- توماس هوبز: توماس هوبز (5 أبريل 1588 – 4 ديسمبر 1679) (بالإنجليزية: Thomas Hobbes) كان عالم رياضيات وفيلسوف إنجليزي،يعد توماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة خصوصا في المجال القانوني حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ.
6- أرسطو : أَرِسْطُو( 384 ق.م – 322 ق.م ) أو أَرِسْطُوطَالِيس أو أرسطاطاليس فيلسوف يوناني، تلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، وواحد من عظماء المفكرين، تغطي كتاباته مجالات عدة، منها الفيزياء والميتافيزيقيا والشعر والمسرح والموسيقى والمنطق والبلاغة واللغويات والسياسة والحكومة والأخلاقيات وعلم الأحياء وعلم الحيوان. وهو واحد من أهم مؤسسي الفلسفة الغربية.
7- الفارابي : أبو نصر محمد الفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي . ولد عام 260 هـ/874 م في فاراب في اقليم تركستان وتوفي عام 339 هـ/950م . فيلسوف مسلم[2][3] اشتهر بإتقان العلوم الحكمية وكانت له قوة في صناعة الطب.
8- حسن النيفي :  شاعر سوري معاصر ولد في منبج 1964م

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *