*أحمد رجب
-
لطالما كانت الأحلام ومازالت موضوعا جذابا للأدب والفن، فضلا عن كونها مادة أساسية في دراسات علم النفس وتطبيقاته. وتبرز الأحلام في العديد من الاتجاهات الفنية المعاصرة، وبخاصة السوريالية. وبينما ارتبط العقل عبر التاريخ بالمنطق والنور والوضوح والفهم والنهار والطمأنينة، ارتبط الجنون وكذلك الأحلام بالفوضى والظلام والغموض والليل والخوف. ولعل هذا الإرتباط هو ما دفع كتابا كثيرين لتوظيف الحلم في إبداعهم واستخدامه فنيا، بما يتيح لهم إعادة النّظر إلى مشاكل الواقع أو التّنبيه إلى عناصر الخطر، أو فك مغالق القضايا النفسية المعقدة.
يلح سؤال توجهنا به لأدباء استخدموا في كتاباتهم الحلم: هل كتابة الأحلام فن، أم مجرد تسجيل لما يراه الكاتب في منامه؟
يحكي القاص سعيد الكفراوي عن بورخيس الذي كتب في إحدى أمثولاته عن رجل ألزم نفسه برسم العالم، وبعدما أنفق سنوات من عمره لتأثيث الفضاء والممالك والجبال والوديان والكواكب والخيول، ظن أنه رسم العالم فعلا واستراح لظنه، لكنه وقبل أن يقضي نحبه استيقظ من منامه واكتشف أن ما رآه في الحقيقة كان صورة لوجهه، فدائما ما يجد الحلم في القصص معنى له وجود في الواقع. في الصحو تكتشف أن الأسطورة تتجلى في متن الحلم.
ويضيف الكفراوي ”أعتقد أن استخدام الحلم إحدى حيل الكاتب للتعبير عن دواخل الروح، وقد لا أجد من يصدقني لو قلت إن الكثير من قصصي شاهدتها كاملة في الأحلام، مثلا قصة ‘الجمل يا عبدالمولى الجمل’، حلم حول كيفية مواجهة الخوف. فأنا لا أهرب من الواقع للحلم، ولكنني أستخدم الحلم فنيا للتعبير عن حلمي الإنساني بواقع آخر، بواسطة الكتابة”.
واقع مقموع
أما القاص والناقد سيد الوكيل فيقول ”ثمة دراسات نفسية اكتشفت ما يسمى بواقع الواقع، وأن ما تعودنا عليه في حياتنا هو الواقع المادي، الذي نسجله أدبيا، لكن ثمة واقع آخر مقموع لدى كل واحد منا يسير معه، لذا يشتغل الإنتاج الأدبي للوصول إلى المستوى الأعمق في تجربتنا الإنسانية بترجمة الأحلام إلى أدب مكتوب ورصد الواقع النفسي الداخلي الذي يتجلى بآليات وأنماط مغايرة لما هو ملموس في الواقع، فالحلم هو أكثر آليات اللاوعي اشتغالا في حياة البشر، لهذا فحضورها المصاحب للشخصية الروائية، يبدو أمرا طبيعيا ومقبولا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، فمادة الحلم هي نفسها مادة الإبداع. سواء على مستوى اللغة المجازية والرمزية، أو الطاقة التخيلية”.
وينفي الوكيل إمكانية كتابة القصص الحلمية كما يراها القاص في منامه مشيرا إلى رأي للكاتب والطبيب النفسي الدكتور يحيى الرخاوي، فهو يؤكد أن لا أحد يستطيع أن يكتب حلمه، حتى لو أراد ذلك، لكنه يكتب تصوره عن الحلم. وبهذا المعنى، فإن كتابة الحلم تنقله من منطق الإخبار إلى منطق الإبداع. أي أننا – في الحقيقة- نكتب فنا سرديا بلغة الأحلام وتقنياتها.
وعن تجربته في كتابه “لمح البصر” قال الوكيل “هي تجربة حققت لي إشباعا جماليا لم أجده في كتابة القصة في شكلها التقليدي، فأن تغوص في لا وعيك إلى أعمق طبقة ممكنة، ليس أمرا هينا ومتاحا في أي وقت، لأنه أقرب إلى الرياضة الروحية التي تحتاج مكابدة وتدريبات، لهذا تنعكس آثارها على الكاتب نفسه كحالة من الكشف ليدخل بعدها في ما يشبه الوجد الصوفي”.
مرايا الروح
تقول الكاتبة صفاء النجار ”تعكس الأحلام مرايا الروح الأعماق الغامضة والسراديب الخفية للنفس، وتكشف ما يدور في العقل اللاواعي وما يحدث على تخوم العتمة/ النور، ولا تخضع الأحلام لمنطق أو معايير قيمية، لكن لا يمكن قراءتها أو تفسيرها بعيدا عن الأنساق الثقافية المحيطة بالمبدع حيث يختلط السياسي بالمعرفي بالجمالي، وقد استخدمت الحلم في الكثير من أعمالي كتقنية للتعبير عن مكنونات وهواجس شخوصي كما في قصة ‘رائحة القهوة’ من مجموعة ‘البنت التي سرقت طول أخيها’، حيث تطارد الساردة اللوحات واللافتات الانتخابية في استفتاء الرئاسة”.
وأضافت “في مجموعتي ‘الحور العين تفصص البسلة’ استخدمت الحلم كتقنية لرصد بعض الأحداث السياسية، ووضعتها في إطار غرائبي يعكس حالة التخبط والتوهان واللايقين“.. وكذلك في رواية ”استقالة ملك الموت” حيث تقول ساردة الرواية “ما أراه على الشاشة ليس حلما، أنا أعرف أحلامي التي لا أتوقف فيها عن النزف والولادة، أنتظر أجنتي الشهور التسعة، فتأتي مسدودة الفتحات، كتلة صماء دامية، كوز من اللحم المعجون بالدماء، تتدلى منه أطراف أربعة. أكره البولبييف واللانشون والبسطرمة، وأهرب من أي مائدة توضع عليها هذه الأطباق”.
القاص والكاتب المسرحي عبدالهادي شعلان يقول ”كل شخص يراوده حُلْم، حتى لو حَلُم به شخص آخر، فهو له فقط وعليه أن يتوجه مباشرة تجاه حُلْمه هو، فقط عليه أن يكون متأكدا أن هذا هو حُلْمه وأنه سيصل في النهاية إليه، ومسرحيتي الرَّجل الذي اشترى حُلْما، تدور حَوْل منير الذي يجلس بجانب صديقه النَّائم والذي يصل به الاستغراق في النَّوم إلى حد أنه يستيقظ علي حُلْم، فيحكي لمنير الحُلْم، ويخبره أنه رأى في الحُلْم جَرَّة مملؤة بالذَّهب، هذه الجَرَّة موجودة على مسافة ما من بيت أغْنَى رجل في بغداد، يقرِّر منير أن يشتري الحُلْم، ويستدين من أجل السَّفر إلى بغداد، ترفض زوجة منير، لكنها تعطيه المال لأنها وجدت أنه في غاية الإصرار على تحقيق الحُلْم الذي اشتراه.
يذهب منير إلى بغداد وعندما يجد شابا يخبره أنَّه يبحث عن بيت أغْنَى رجل في بغداد لأنه يبحث عن جَرَّة مملوؤة بالذهب، يحفر الشَّاب في المكان الذي أخبره به منير فيجد أنَّ طائرا ذهبيا يطير من الحفرة ويفاجئ بأن الجرة فارغة، يعود منير إلى بيته وهو ممتلئ بالخيبة، فيجد زوجته فَرِحة تخبره أنه في منتصف إحدى الليالي الماضية، وهو في بغداد، اندفع إلى منزلهم طائر ذهبي غريب.
ودخل البيت وظلت النقود والجواهر تتطاير من جسده وجناحيه وتُحْدِّث أصواتا أثناء هبوطها على الأرض، ذهب، جواهر، من جميع الأنواع، فأصبحتْ الأرض تبرق، ولقد جمعتها ولم تفعل بها شيئا حَتَّى يعود ويراها كما ألقاها الطَّائر، فيردِّد: الذَّهب مُقَدَّر لي أنا، فقد كان شيئا ما يدفعني لشراء الحُلْم، وكأنَّني كنت متأكدا من وجود الجَرَّة”.
وبدوره، يقول القاص شريف صالح ”الحلم أجمل نافذة أطل منها على الحياة، تكنيك مفضل لدي، والكثير من نصوصي هي في الأساس أحلام، مع تعديلات طفيفة، الأساس لدي هو الحلم، والواقع مجرد حيلة تضفي على النص شيئا من الكثافة والتجسيد والمقبولية، فالحلم يضعك في مكان آخر غير الواقع، أي ينسف مفهوم المحاكاة الأرسطية، فتصبح القصة لا تحاكي واقعا محددا بل تحاكي ذاتها. تخلق واقعها الموازي ومنطقها الخاص وحياتها السرية”.
وإذا كانت تلك رؤى المبدعين، إلا أن الناقد حسام عقل له تصور آخر فيقول ”نجد تناول الأحلام في الكثير من كتب الأدب العربي، كرسالة الغفران لأبي العلاء المعري حيث تتابع المشاهد والأشخاص في سرد حلمي مجسد. ومن قبلها كَتب ابن شهيد الأندلسي رؤيا مشابهة في كتابه ‘رسالة التوابع والزوابع’. أيضا كتب المتصوفة حيث الأحلام الرؤيوية، ولا ننسى ألف ليلة وليلة.
وعموما يعد توظيف الحلم في الأدب من أصعب التقنيات التي يمكن أن يبدع الكاتب نصه من خلالها؛ نظرا لإشكالية هذه البنية وصعوبتها، وجماليتها في الوقت نفسه، فعليه أن يكون مطّلعا على هذه التقنية، بل على الحالة الشعورية التي تنتاب الحالم قبل الحلم وفي أثنائه وبعده، فالأحلام حافلة بالدلالات مع انفلاتها من عنصري الزمان والمكان.
__________
*العرب