تفاهم الأنبياء في الوطن والقوم والرسالة

خاص- ثقافات

*كفاح جرار

كيف نقرأ التاريخ، وإن اتفقنا على قراءته هل من مسطرة قد نحتكم لها في حال اختلفنا، وما أكثر ما سيختلف عليه الناس في التاريخ، وإن كان التاريخ كما يرددون يكتبه الأقوياء أو الغالبون أو المنتصرون، فمن كتب كل هذا الكم من تاريخ الهزائم والمهزومين والمسحوقين، وهل يصلح الأدب كمرجعية تاريخية، على الأقل نحن عرفنا حياة كثير من عرب الجاهلية من خلال أشعارهم التي وصلتنا؟.

والأهم من ذلك كله ما هو موقف الدين من التاريخ؟.

لنعترف أولا أن رسول الله وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، لا يحتاجون شهادة إنسي تؤكد صدقيتهم ومشروعيتهم وشرعيتهم، هم بغنى عن شرعية الخلق الذين بعثوا من أجلهم بشرعية الخالق، واستغنوا عن مشروعية الاتباع طالما يأتي النبي الرسول يوم القيامة وليس معه أحد، سيدنا لوط مثلا ليس فقط لم يؤمن معه أحد بل خسر زوجته أيضا التي اختارت كفر قومها، وليست المشروعية كالشرعية إلا عند الذين لا يعرفون من العربية سوى أنها لغة الضاد، الأولى تعني صدقية المنهج وصوابه وصحته، والسؤال مكن يحدد الصدقية ويعرفها؟.

والثانية تخص القانون والعمل فيه، وهو هنا القانون الديني الذي يرقى ويرتفع عن قوانين البشر، رغم أن كثيرين يرفضون هذا التوصيف، معللين رفضهم أنهم الأقدر على معرفة خيرهم من شرهم، ونسي هؤلاء أن خالقهم يعلم ما كان ويكون وسوف يكون من أمرهم، ولا مصلحة عنده لأحد، وبالتالي كانت قوانينه موضوعية حيادية بل وترقى على الأهواء والرغبات، وهل القوانين الوضعية إلا هوى ورغبة؟.

من أراد خيرك ورفعتك وسعادتك وهو غني عنك، وأنت عبء عليه، فاتبعه مغمض الأعين، واذهب حيث يشير لك، فلن يكون منه إلا الخير.

وإذن، هل تساءل أحدكم عن كيفية معرفته صلى الله عليه وآله وسلم، بأمر اجتماع رؤوس قريش لقتله وتوزيع دمه على القبائل، حتى لا يطالبن بدمه أحد، ومن ثم فراره منهم، أي من وطنه المؤقت وقومه العصاة إلى وطن وقوم آخرين، هم أفضل وأحسن وأمثل وأكثر تقبلا ودفئا؟ وقد فعلها من قبله نبي الله موسى عليه السلام، بفراره من مصر، وعيسى عليه السلام، وغيرهم، الذين بعثوا في مكان وانتقلوا راحلين هاربين إلى أمكنة أخرى، ثم كيف نفهم أوروبا المسيحية التي تعتبر الشرق ضرتها، ثم تدين بدين شرقي برسوله الشرقي، ومن يزعم غير ذلك فإنه يسخر منكم، فهل تجد أوروبة مثلا إجابة مقنعة عن تمسكها بيهودية دولة إسرائيل، ورفضها المطلق والمبدئي لانتقاد إسرائيل، وهم أكثر من يعرف أن دولة الصهاينة قامت بحجج وذرائع غيبية، أولها أرض الميعاد وثانيها الشعب المختار وثالثها الرب يهوه الذي يذوب فيهم عشقا، فهل يعد رب السماء والأرض قوما كانوا في مصر بتملك أرض بزرعها وغنمها وبقرها وشجرها وبشرها أيضا؟.

أوروبة تقول نعم يعد وتقسم أنه فعل؟.!

أول من كذب صدقية “الوعد المزعوم” هم يهود أنفسهم، ساعة باعوا دين موسى عليه السلام بثمن بخس، واتبعوا دين السامري خالق العجل الذهبي، فهل يعدكم الرب بأرض بما حملت واحتوت وبما بطنت وضمت، ثم تبيعون دينه بالمجان لتتبعوا دين رجل أو ظنون رجل يقع ضمن أملاك ما تزعمون أنه منح لكم؟ يا لسخرية الدين والتاريخ.

ما يطرح سؤالا غاية في الدقة والحساسية يتعلق بمفهوم الوطن عند الله تعالى ورسوله، أي في نقاء الإسلام الإنساني، من نوح النبي الرسول، الذي صنع سفينة نجا فيها مع قلة من فقراء قومه وصفهم الغارقون بـ”الأرذلين”.. وما من قرابة تربط بين نوح السيد ابن آدم بهؤلاء الأرذلين، وكل ذنبهم أنهم كانوا فقراء غلابة، ومع ذلك لم يخبرونا من أين جاؤوا ومن أين خرجوا؟، إلى إبراهيم البابلي، الذي نجا من باب إيل ليجد راحته ومبتغاه في بيت إيل، ثم يريدون إقناعنا بخلاف تاريخي وعرقي ولغوي بين بابل وكنعان، وصولا إلى يونس الآبق الذي يعد همزة وصل حقيقية بين الكفر والإيمان، ومن بعده موسى المصري الذي صار “موشيه” وسليمان الذي تحول إلى “شلومو”.. فما أخلصوا لموشيه وما سلم شلومو من شر ألسنتهم.

كيف فهم هؤلاء الأنبياء المصطفون الوطن وكيف تعاملوا معه، وهل الله تعالى في الصين وبلاد اليابان يختلف عنه في البرازيل وتشلي، ويتحول إلى رب آخر في روسيا وأذربيجان ويعود ليختلف في مراكش وغرداية، ليتلبس ثوبا آخر في بيت المقدس وبكة البيت الحرام؟.

الأرض عند الله تعالى كلها أرضه، والدين عنده كله دينه، والإنسان عنده مكرم محترم مبجل بكليته، وليس في الدين الفقهي المشيخي الرسمي، الذي يتلون ويتغير بتلون الحكام، فصار تبريريا أكثر منه تقريريا، ولا في الدين الشعبي، الذي كل همه كيف يصلي وكيف يتوضأ، وإن حدثتهم عن الزكاة تكركبوا وإن أمرتهم بمعروف عادوك، وإن رغبتهم بصدقة يخرجون لها أخبث أموالهم، ولا عند أهل السياسة والفكر من أصحاب الهوى، فربكم الأعلى يعتقد أنه لم يعتانق الكرسي إلا لأثرة له عند رب السماء، وأكثر من تجلت فيه ظنون الحكام وأهواءهم هو الشاهنشاه آرياميهر رضا بهلوي، صار هذا الهالك يستمرئ معبوديته في آخر أيامه، وهو الذي لم يجد قبرا في أرض تقبل به.

نعود إلى سؤالنا الأول، بخصوص مؤامرة دار الندوة التي حضرها “إبليس” بشحمه ولحمه، مع أنه لا لحم له ولا شحم، وقد آمن لاحقا من بقي حيا من أولئك المؤتمرين، ومنهم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان صخر بن حرب، فلماذا لم يكذب أحد هؤلاء زعم رسول الله عليه الصلاة والسلام بخصوص خبر دار الندوة، وبالأخص من يشك في ولائه للدين الجديد، عندما عرفوا أنه كان مطلعا على أحوالهم، فلم يقل ابن الوليد مثلا بعد إسلامه ذلك لم يكن، ولم يقلها ابن العاص ولا غيرهم من الذين حضروا دار الندوة كفارا ثم آمنوا من بعد وأسلموا.

ألم يكن حريا بهم أن يتساءلوا عن سر معرفته، لكنهم على ثقة أن من أطلعه على أخبارهم هو عالم الغيب والشهادة، لذلك أذعنوا ورغبوا طائعين. ثم من قال أنهم لم يتساءلوا ليكتشفوا أنه رسول الحق الذي جاءهم بالحق؟.

العقلاء وحدهم أهل المجد، وتلك آلة أي “العقل” لا ترى ولا تلمس وإنما تدرك مفاعيلها وإنتاجاتها، وهي التي حملت أمانة العلم والعمل، وهم الذين لن يكفوا من السؤال عن الوطن الحق، الذي يمنح حرية وكرامة، وتتجسد فيه مفاهيم الحق والعدل والمساواة، وغير ذلك هل تكون البلاد أوطانا يعتد بها؟.

رسول الدين قد فتح مكة البيت الحرام التي أشاد بخصالها في أحاديثه بعدما اختار الله تعالى بيته المعظم المحرم بها، وليست كل البيوت محرمة، ومع فتحه لها غالبا عزيزا، لم يسكنها، ولم يختر البقاء فيها وبين أهلها، وإنما رجع إلى وطن الهجرة، يثرب ذات النخيل، التي أصبحت به صلى الله عليه وسلم منورة، ولكن قبل هجرته عليه الصلاة والسلام حمله ربه إلى مدينة بيت المقدس، التي جمعتنا اليوم وفرقتنا، والقدس غربال حق، يميز به الله تعالى وعباده الصالح من الطالح من الناس، فمن وقف ضد القدس فقد ميز نفسه وحمل لواء شيطانه، أما أن القدس ضاعت فلن تضيع أبدا، طالما يوجد في كتاب الله تعالى سورة اسمها الإسراء تقول: ” سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” وهذا وعد حق ظاهر لا ينكره إلا أعمى بصيرة، وهو وعد نصرة لا يتجاهله إلا حقير استهان بنفسه.

كانت مكة قبل فتح القدس غربال حق، فبعد فتحها (ولا يخفى كم لكلمة “فتح” من مدلولات ومعان خافية وظاهرة)، تجلى أثر الحدث العظيم على الأمة، هو في أدناه وفي أعلاه أن شرع الباب للتيار الثالث كي ينمو ويكبر ويسيطر لاحقا، فلم يحكم أهل الهجرة ولا تملك أهل النصرة، وإنما كانوا معا أهل دعوة وفتح، وليت بعضهم تخلف وقعد ورابط، وقد قرأوا ما كان للمؤمنين أن ينفروا كافة.. وإنما آلت الحكومة إلى “الطلقاء” الذي يمثلون التيار الثالث بين جمهور المؤمنين، وكان بسببهم الذي كان، أقله الاستبداد والفرقة والضعف، أي تشتت الأمة ومن ثم اندحارها.

ومازال الحال قائما، بانتظار بيان السماء.

شاهد أيضاً

ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات في الدول الغربية؟

(ثقافات) بمناسبة افتتاح معرض لندن للكتاب 2024: ما سرّ فشل الرواية العربية في تحقيق مبيعات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *