*عبد الله الساورة
«الذي يقود العالم ليس آلات ولكن الأفكار» فيكتور هوغو. فهل بالفعل «لا يوجد شيء أكثر خطورة من فكرة عندما تكون وحيدة فقط» كما يصر بعض الفلاسفة؟ تطرح السينما كباقي الفنون مجموعة من الإشكاليات من قبيل هل السينما هي مجرد فكرة عابرة أم مجموعة أفكار أم هي تعبير عن قيم ومبادئ مطروحة على شكل أفكار متتالية؟ المنجز الفيلمي لأي عمل سينمائي هو فكرة بسيطة يشتغل عليها المخرج/السيناريست، وفق قوالب فنية يبتغي من خلالها معالجة قضية معينة أو إيصال رسالة ذات مدلولات مشفرة أو بطريقة مباشرة. بهذا المعنى فالفيلم «هو شيء حي» حسب الناقد والمخرج الفرنسي فرنسوا تريفو. مضيفا: «لا أحب المناظر ولا الأشياء، أحب الناس. ما يهمني هو الأفكار والأحاسيس». فوجود «الفكرة هو شكل من أشكال الاحتفال… وهو نوع من الاحتمالات» حسب جيل دولوز. والفكرة في السينما ليس فقط فكرة عابرة، ولكنها فكرة مركبة يحضر فيها الجانب الأدبي والرؤية الفنية وطريقة المعالجة وتتوالد بشكل يجد المتلقي نفسه أمام تشعب وتعقد للفكرة الأولى.
الفكر والمعنى
ينطلق المخرج السينمائي في عمله السينمائي من فكرة تعبر عن مضمون يراه مناسبا لبداية حكايته. الفكرة تتوخى الوضوح التام والتميز حتى تتولد عنها أفكار محايثة في بساط الحكي الفيلمي، عبر سيناريو متقن ورؤية إخراجية تترجم مضمون الورق في لقطات ومشاهد مشتغل عليها بنوع من الذكاء والتمرس، وليس فقط نقلا تصويريا لماهية الأشياء. الرؤية أعمق بطرق تصوير تلامس جوانب متعددة منها المضمر والمستتر والمرئي بشكل مباشر. فالفكرة في السينما تحمل معنى، تدافع عن كينونتها وتصارع في سبيل أن تتجسد، فتصبح تعبيراً عن حالات من الوجود المتناهي للأشياء.
الموت والحياة
فكرة الموت والحياة في السينما فكرتان متصارعتان تترجمان فكرة الخير والشر. تُمنح لهذه الأفكار روحا قائمة داخل الفيلم ومعنى لوجودها وسيرورتها برؤية جمالية تدوم بعد انقضاء الفيلم، تسري عبر فكرة النقد السينمائي الذي يبحث في كنه وعمق الأشياء، برؤية ملاحقة الزمن والغوص في تفاصيل الأشياء. ففكرة الموت تسيطر على أعمال المخرجين، من خلال أفلام شهيرة تبحث في وجود فكرة الخلود. لم نسمِ أفلام أكيرا كيروساوا والمخرج أورسن ويلز وأفلام يوسف شاهين وجون فورد كوبولا، أفلاما خالدة؟ أتستقي هذه الأفلام فكرة خلودها من وجودها الجمالي؟ أم من خلال تعبيراتها في رسم وجودها الفني وما أسهمت به كأفلام في التعبير عن حالات إنسانية؟ في أفلام جون فورد كوبولا نرى شخصياته وأبطال أفلامه يصارعون الحياة لتحقيق ذواتهم في معارضة للسلطة، وفي تحد لها، فكرة التحدي تبدو جلية كما هو الحال في فيلم «الساموراي السبعة» لأكيرا كيروساوا، وهو يسافر بحثا عن فكرة الإنسان في داخله. كثيرا ما يلجأ المخرجون إلى قولبة الفكرة في معان متعددة تستقي مضمونها بالانتقال إلى حيوات أخرى، من خلال استنساخها من تجارب الآخرين بعمق فلسفي ووجودي، يضفي هالة عليها ويضعها بمناعتها وقدرتها على الحياة. في الفيلم الإيطالي «لاستردادا» لفلليني تبدو فكرة السفر وجودا في حد ذاته، وحده البحر يوقف زحف بطل الفيلم، وهو من يسائله عن جدوى أعماله، وهو يدخل الفرحة في قلوب الآخرين بينما يحمل حزنا دفينا في داخله.
فكرة البداية النهاية هما فكرتان تستحوذان على اشتغال المخرج، كيف يبتدئ مع فكرة مجنونة كفكرة الانتحار، وكيف ينتهي مع فكرة الحياة. في السينما كل التأويلات ممكنة، وكل حالات التأهب لتقصي الفكرة والسيطرة عليها تغالبها التقنية، وفكرة التجريب التي يشتغل عليها المخرجون والتقنيون والصدفة في خلق عوالم عجائبية وغرائبية، كما هو الحال في أفلام «هاري بوتر» والأفلام الغرائبية المسافرة في عمق التاريخ والوجود. وحسب هيتشكوك فـ»السينما هي أربعمئة مقعد يجب ملؤها». سؤال البداية والنهاية في السينما يحيلنا إلى أزمنة السينما ومراحلها وأفقها بين الممكن والمستحيل بين الثابت والمتحول، بين الأيديولوجي والجمالي، وبين سيطرة التقنية وغلبة السرد والحكي، وبين قوة الحوار وجمالية الصورة في أبعادها المختلفة. السؤال يحيل حتما إلى قوة السينما في خلقها لهذه العوالم، وفي القبض على جوهر فكرة الشر كفكرة أبدية مرادفة لفكرة الخير والحياة والإنسان.
تساؤلات الوجود
ترتبط الفكرة بالسؤال في السينما في بعدهما الفلسفي أيهما الأجدر.. السؤال وهو يستعرض خصوصيات الفكرة؟ أم الفكرة وهي تعبر عن مضامين واقعة، أو حدث معين؟ ما المعنى أن نتساءل عن جدوى الفكرة، إذ رسخت فعلا سينمائيا معينا يقتفي زمنا فيلميا ويختصر رؤية قادرة على نحت الذات بسؤال نقدي؟ وحدها السينما قادرة على استيعاب مضامين الفكرة وتناقضاتها، بحيلها وخدعها ترخي بظلالها أفلاما من خلال تجنيس أنواعها الفيلمية بين الدراما والكوميديا والتراجيديا والمأساة. وحدها الفكرة تدفع بالسينما أن تخصص لها حيزا زمنيا ومكانيا يمنحها لذة جمالية وبرؤية في داخلها من خلال تصادمها مع مجموعة من أفكار ترسم طريقها.
في الفيلم المغربي «ضربة في الرأس» للمخرج هشام العسري فكرة العطب حاضرة في الفيلم، من بداية الفيلم حتى نهايته، عطب الشرطي المصاب بضربة في الرأس، عطب القنطرة التي لم تكتمل أشغالها، عطب الدولة التي تعول كثيرا على فكرة القبيلتين المتناحرتين وعطب الحي الهامشي الموبوء، وعطب الطالب المعتقل وعطب المرأة غير القادرة على التعبير عن أنوتثها وعطب سيارة الإسعاف التي ترمز للنظام، وهي غير قادرة على عدم التحرك. فكرة الأعطاب القاتلة التي تلخص فكرة الموت البطيء لكل مناحي الحياة أمام التباهي بجدوى الاحتفال.
وفي الفيلم الوثائقي «هوليوود في خدمة الحرب» يعكس الفيلم فكرة الحرب في بعدها الأيديولوجي ويعكس فكرة أخطر تتمثل في الوعي بفكرة استغلال الصور والإيمان بالانتصار والاشتغال عليه كمضمون فيلمي، من خلال إرسال المعدات والمخرجين والممثلين، لمؤانسة الجنود والرفع من معنوياتهم. الوعي بالفكرة المراد تصويرها يعكس رؤية هوليوود عن تشبعها بغنى الصورة وضرورتها وما تقدمه للسياسي خدمة للأجندة السياسية ودهاليز السياسة. الفكرة بهذا المعنى أنها مشتغل عليها ومفكر فيها بشكل جيد وتعكس حسا بها وبجدواها ومدى خطورتها. داخل هذا الشريط ضرب أكثر من عصفورين، هزم النازية وبشاعات المحارق والجثث والرماد الملقى في الحقول من طرف الألمان، ورماد الإنسان وقد استهلكته الأيديولوجيا وفكرة الانتصار والدفاع عن قيم الحياة من طرف الحلفاء وفكرة نشوة الصور وهي تحتفل بالدخول إلى العاصمة برلين، وعودة المخرجين والمصورين والجنود إلى أمريكا، عبر الاحتفاء بقدومهم ونهاية الحرب.
الفكرة في السينما هي مدارس سينمائية متعددة حسب منطلقاتها: السريالية والعبثية والواقعية والتكعيبية والواقعية الجديدة والرومانسية.. والفكرة هي حساسيات جمالية، حساسية ملامسة الذات والواقع في الوقت ذاته.. وحساسية العين وهي تنظر للجمال من خلال تشكله والغوص فيه. والفكرة أيضا عتبات قادرة على تخطي المقدس بمنظور نقدي وبمنظور تجاوز العتبات الأولى والعتبات المؤسسة.
_______
*القدس العربي
مرتبط