خاص- ثقافات
*غازي سلمان
منحت تقنية “السرد الشفاهي المباشر” المعتمدة في هذه الرواية الكاتبة ( نيران العبيدي ) القدرة على فتح مغاليق النفس البشرية لتفصح عن أدقّ مكنوناتها للمتلقي وتدفع به في صميمَ الحدث مباشرة ،تعرّفه على تفاصيله فتجتذبه الى متعة المواصلة بانتباه حذر لمجريات احداث الرواية التي يتوالى الكشف عنها بتناوب يفقد تسلسليته نتيجة لسريان اكثر من مونولوج وبوح في آن واحد و يختلف تبعا لتباين الشخوص الذين يحكون حيثيات تاريخ حياتهم وهواجسهم وعلاقاتهم ببعض كأسرة او علاقة الاخرين بأسرة “حجي مصطاف ” ، و سواءٌ كان بوحهم شفاهيا ،او بوحا مونولوجيا ينساب بجملٍ مباشرة دون تخطيط او قصدية مسبقة ، فانه يكشف عن احاسيس ورغبات غائرة عميقا في ذاكرتهم التي تختزن دون اكتفاء حقائق عن بنية شخصياتهم نفسها ، الحقائق الاكثر كتمانا وغموضا بسبب من عدم انسجامها مع الاعراف والتقاليد السائدة التي تمارس دور الرقيب على الفرد ، ناهيك عن سلطة المجتمع الكابتة ايضا .
يشي عنوان الرواية عن كشف للحياة السرية لمكان في بغداد (الصابونجية ) اكتسب سمعة ” سيئة ” من وجهة النظر السائدة في المجتمع البغدادي ، لكن الكاتبة تمكنت من تجاوز “خطوط التماس معه” والتوغل بجرأة الى قاعه و قاع المجتمع ككل خلال الفترة التاريخية قبيل انهيار الامبراطورية العثمانية متمثلة بالخلافة الاسلامية التقليدية وما بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانتصار الحلفاء ,ثم حقبة الاحتلال الانكليزي للعراق .
ومنذ بدء الرواية بسطورها الاولى انطبعت مشاهد ونبرة اصوات من ذلك المكان في ذهن ” بدرية خاتون ” التي سوف تكون بطلة للرواية ، وستتذكرها (كنبوءة لا تعلم ماهيتها) فإن كان ذلك بمصادفة كأي حدث ممكن الحدوث ،فهو ليس كذلك بالنسبة لكاتبة الرواية ، فقد استبقت الكاتبة نيران العبيدي عِلمَ ” بدرية خاتون ” بأحداث حياتها التي لم تحدث بعد ،ذلك ان الاخيرة ليست بمخترقة ( حجب الغيب) ، فيما الروائية استطاعت التنبؤ بمصير “بدرية ” باعتبارها خالقة لشخصيتها ، ولم يقتصر هذا الاقتدار على الحدث فحسب بل تعداه الى الغور عميقا في النفس البشرية للكشف عن هواجس واحلام ورغبات “بدرية خاتون” والشخصيات الاخرى ايضا التي استقطبتها باعتبارها محور العمل الروائي ، فقدمت لنا الكاتبة شخصيات بغدادية بكل صفات اصالتها ، مصداقية عشقها، شهامة رجالها ، الام الحنونة” حسيبة ” المتفانية بخدمة اسرتها ، وازدواجية شخصية ” مصطاف ” فهو كريم “اب عن جد” يوزع عطايا الاعياد ويسارع الى نجدة الاخرين خلال فترات الغلاء ، محب للزوجات ” والنساء ، آخرهن ” حسيبة ” لكنه جلف في علاقاته مع اخواته واخوته ، منع عن اخته “ستة العياطة ” الميراثَ وتسبب في طمس أنوثتها وجمالها لتبقى عانسة ،اسيرة حيطان بيت ” ابو نخلة ” فظلت مع بناته ، شخصيات هامشية التأثير في الاسرة و لا يملكن اي رأسمال مادي او معنوي ، سوى انوثة بددتها الاحلام والاماني التي تصدم بالحيطان كل حين، لا يملكن ما يغري الرجل ليتقدم خاطبا اياهن. وهو ايضا ، حجي مصطاف الذي لم يمنح اخاه اية مساعدة مالية بالرغم من عوزه ، ومستنكف من تزويج بناته من ابناء اخيه ! او اي شاب دون طبقته الاجتماعية.
لقد قدمت الكاتبة رسما روائيا ، لمدينة بغداد في اوائل القرن العشرين وما تلاها، من خلال الوصف الدقيق للأمكنة بأسمائها آنذاك ومواقعها وازقتها ، البيوت والمباني وسطوحها ، وتقديم شخوص من اجيال مختلفة عاشت ضمن منظومة قيم المدينة المتوارثة ، مدافعة عنها او متمردة عليها و طبيعة المجتمع الطبقي وانعكاسها على العلاقات الاجتماعية بما فيها من تمايز في مستوى المعيشة ، فمن يمتلك المال تكون له السلطة على الاخرين ،وحرصت على استخدام مفردات بعينها في اللهجة البغدادية المحكية في تلك الفترة ،مع الانتباه الى لهجة ” كرجي ” باعتباره من الطائفة اليهودية كذلك توظيف اغاني من المقام العراقي عناوينا لفصول الرواية ، مع ذكر اكلات وازياء اضحت الان تراثا ، و توثيق حركة المجتمع البغدادي وموقف الشارع المتباين من التغيرات السياسية والاجتماعية، بتباين مصالح طبقاته الاجتماعية كما في اعلان المشروطية عام 1908 الذي منح الحق في انشاء نظام برلماني له صلاحية تشريع القوانين بحلٍّ عن السلطان العثماني ، وكذلك التظاهرات المناهضة للاحتلال البريطاني وموقف النظام الملكي منها المتصدي لها ومقتل “الشيخ جعفر” شقيق الشاعر محمد مهدي الجواهري . التي استهلته الكاتبة بارجوزة في احد فصول الرواية :
(للنجف للنجف دمه يسيل وما نشف ) الرواية ص110
وبهذا تمكنت الروائية من ايجاد انسجام بين المدينة في دلالتها المكانية، وبين القيم والاعراف والافكار السائدة في مراحل تاريخية مختلفة وصولا الى بغداد المدينة الحاضرة وهي تتمرى تاريخها المشبع بالتعددية والتنوع والتناقض .
وكتأكيد على مصداقية او واقعية رسمتها للمدينة فقد اشارت الكاتبة في متن صفحة الغلاف الاخيرة :
(أن أيّ عمل إبداعي فيه خلقٌ وإبداع وإعادة خلق ولا يوجد عمل إبداعي بدون سند اجتماعي وموروث شعبي وتاريخي . لقد اعتمدتُ في هذه الرواية على كثير من المعلومات القيّمة المستقاة من كتاب أمين المميز “بغداد كما عرفتها” ، كذلك اعتمدتُ على الحوادث التاريخية التي اوردها المؤرخ العراقي عباس العزاوي في كتاب “العراق بين احتلالين” وصغتها بأسلوب أدبي روائي ، لكن العمل الأدبي لا يُعد وثيقة تاريخية بأي حال من الأحوال ، وإن اقترب من الواقع لكنه يبقى محلّقاً في آفاق رحبة يمتزج فيها الخيال بالواقع) .
أجادت الكاتبة تماما في شدّ انتباه المتلقي الى الاحداث المختلفة التي يرويها شخوص الرواية عن زمن ماض او حلم ، عن مكان وزمان طفولة الى زمان ومكان الشباب او الاجداد ، فلم يشعر المتلقي بتيه في لجة تلك الازمنة والامكنة المتداخلة ، تمكنت الكاتبة ببراعة ايضا في استفزاز ذاكرة الشخصية الساردة عبر صدمها برغباتها غير المتحققة وخصوصا مع نسوة البيت اللائي حصلن على فسحة واسعة من فضاء الرواية، فتدفق المكبوت المتصلد في دواخلهن منصهرا منسابا خارجا، انيناً مسموعا ليغذي دينامية النص، فهو بوح “بدرية” المشوب بحلم الرغبة بالرجل وعشقها لليهودي عازف الكمان “كرجي ” وبالرعب من شبح العنوسة الذي استلب من عمتها “ستة العياطة” شبابها وانوثتها واحلامها بل وانسانيتها ، ومازال طيفه حاضرا في البيت :
) تأتيني رائحة رجل معطرة ممزوجة بالدخان وعرق يتصبب ورائحة تحت الابط تزكم انفي
و مونولوج “حسيبة” الأم عن ذكرى وجعها في ” بلدروز ” وحبها “المضاع ” للشاب الكردي صائد القطا الفقير لأنه محرّم اجتماعيا وطبقيا ” ، ثم زواجها قسرا بدلا من قتلها، وهي ابنة الاربعة عشر ربيعا من “حجي مصطاف ” المزواج في بغداد خلاصا من عار علاقتها تلك وتحمّلها النظرة الدونية لها في بيته باعتبارها قروية!:
( وآخ من ظلم الاخوة قالت حسيبة خاتون, تبيعوني وتاخذون مهري. قالوا بغدادي وُلكم الدهلكية وحب النهر والبساتين بكياني ووجداني وابن الاركوازي يقتلني الف مرة ويرجعني مصلوبة وهوى بلدروز … ) الرواية صفحة 21
بوح “ستة العياطة” العمة التي ذرى رجالُ أسرتها سنوات عمرها في الرياح هباءا ، محرومة من الميراث ، وتقدمت كثيرا في العمر لتبقى تتغذى على اللوم والولولة وكراهية اخيها مصطاف في كل حين نادبة ، صائحة بألم ممض :
(والان رجعتوا على بدرية والبنات وهاي هي تتجاوز الثلاثين وُلكم اقولها بصوت عالي وليتذكر ابنك الاوقاتي والزعيم ستة العياطة قالتها ان هذا البيت سوف ينتهي نهاية غير حسنة حوبتي وحوبة البنات الاسيرات بوجودكم )الرواية صفحة39
ولكن يأتي مونولوج الاخت الصغرى في العائلة ” مديحة ” متخلصا من ” الاه والونة ” التي لازمت حياة كلنساء البيت الاخريات ، امها وعمتها واخواتها، خاليا من وساوس الخوف من المستقبل ، وقد اكملت كلية الحقوق ، و تكتب الشعر ، وكأنها تبشر بولادة جيل بوعي متقدم، برؤية تفاؤلية جديدة للحياة ولمستقبل المرأة ، وبغداد المدينة الام :
(لقد ذهبت وجوه اهالي الغالبية الى المجهول وجاءت وجوه جديدة لا نعرفها …) الرواية ص 119
كان من الممكن ان يتوقع المتلقي ان تكون ” حسيبة خاتون” الام ” هي المتمردة الاولى على ظُلاّمها من اهلها وعشيرتها لكنها انصاعت قسرا الى قرارهم فتم تزويجها، او ان تتمرد “ستة العياطة ” العمة الكبرى هي الاخرى ، لكنها ركنت الى احتجاجها السلبي متقوقعة في البيت زاعقة بالشتائم والسب والتهكم والدعاء على البيت بالخراب ، او ن تتمرد ” بدرية خاتون ” لكنها هربت من “سجن بيت ابو النخلة ” هربا من مصيرها الذي تراه منعكسا في صورة عمتها العانس العجوز ” ستة العياطة ” هربت الى حيث حريتها التي تخيلتها في فضاء عشقها ل “كرجي” ، لكن حلمها اصطدم بعامل المال هذه المرة وليس بعامل اجتماعي او طبقي او ديني . ليموت حلمها في بيوت ” الكزلية والكلجية ” !
ان الاحداث التي طرأت على عائلة ” حجي مصطاف” بدءا من مقتل او انتحار ” عادل ” الاخ ” بتهمة كونه “دلقي ” – شاذ جنسيا- وهروب بدرية ومن ثم مقتلها “غسلا للعار ” بخنجر ابن عمها “مرهون” الذي احبها،والتي تزامنت مع
الانفتاح على الفكر الغربي خلال فترات الحكم الملكي وانجازات الحضارة الاوربية في مجالات العلوم والفنون ما جعل المجتمع البغدادي والعراقي بشكل عام يغادر جموده التقليدي القديم ، قد اصاب منظومة تلك “العائلة” بالتصدع ، التي اراد لها عميدها”حجي مصطاف ” ان تبقى بمنأى عن اي تغيير اجتماعي او تطور في وعي افراد العائلة وبعيدة عن تأثير حركة المجتمع ، وان تبقى تدور في فلك فهمه هو فقط ، وبذلك فقدت تقاليد العائلة ورجالها السطوة ” نسبيا ” على المرأة الوحيدة المتبقية في بيت ابو النخلة ” مديحة” فاصبحت شخصيتها اكثر صلابة واكثر ثقافة ووعيا بخصوصية حياتها، وقد عاونها في ذلك “مرهون ” بن عمها بعد ان انهى فترة محكوميته في السجن عن قتل “بدرية ” متخرجا منه بشخصية مغايرة اخرى ، يساري متنور ” منتميا للحزب الشيوعي العراقي” وكأنه تخرج من مدرسة حزبية، والسجون كانت كذلك فعلا ، لكن ذكرى قتيلته لم تبرح ذاكرته ،فما زال يؤنب نفسه و يبحث عن سبيل للتكفير عن خطيئته .
بعد سنوات طوال ، ترتسم امامه “بدرية ” بصورة فتاة ابلغته امها عن هربها من البيت ، راجية اياه المساعدة في البحث عنها ليعيد الزمن نفسه عليه كمأساة .
حينها يتردد في فناء البيت وغرفه بوح “مديحة ” بشكل صدى وهي تراقب ” مرهون” منتحبا :
-: (بكيتُ انا ايضا ونزلت دموعي بصمت وانا انظر الى مرهون … لأول مرة اشعر بشيء يمتلكني واتعاطف بشغف مع مرهون ، فارق السن لا يعنيني ، وادرك ثمة اشياء كثيرة تجمعنا سقف واحد وثقافة مشتركة وحب بدرية) الرواية ص121
“مديحة ” اخر الشهود على الحب المحرم والذوات المستلبات في”بيت ابوالنخلة “
” مديحة ” اخر الشهود على بغدادنا ،
“مديحة ” “بدرية ” وامهما ، ماهنّ الا عشتار تعلن بشارتها :
(صباح اليوم التالي اشرقت شمس بغداد من الغرب ) (!!)
-
رواية للكاتبة نيران العبيدي صدرت عن دار ضفاف – ط1 – 2014