بين سقوط فلسطين وصعود فيروز تزامن لا يبدو عبثياً. في العام 1948 كانت النكبة، وبعدها بسنتين فقط ظهر اسم فيروز (1950). خلال تلك الفترة، عرف قاموسنا العربي مفاهيم جديدة لا تفصل السبب عن مسبّبه كالاحتلال والمقاومة، الشتات والانتماء، اللجوء والعودة… مثلها كانت ثنائية فيروز والوطن. كأنما جاء صوتها من مكانٍ ما، لا نعرفه- وقد لا ندركه سوى في لحظاتنا المترددة بين صحوٍ ونوم- ليكون هو الوطن البديل. نسكنه ويسكننا ليُخفّف وطأة الغربة ويعمّق شعورنا بالإنتماء.
ما جرى على فلسطين كلّها مفزع، لكنّ القدس ظلّت المدينة- الرمز. أسماءٌ لا تُعدُّ غنّت القدس المنكوبة، من سهام رفقي في أربعينات القرن العشرين حتى يومنا الراهن. لكنّ فيروز وحدها ظلّت صوت القدس، كما هي صوت بيروت ودمشق. لم يكن غناؤها القدس ظرفياً، إنما قضيةً تتصّل بجوهر فنّها المنحاز دوماً الى الإنسان… والأدقّ قولاً، إلى أحرار هذا العالم.
نشيد الحقّ
«زهرة المدائن» ليست أغنية عن القدس. إنه نشيدٌ فلسطيني راسخ. ولد عقب هزيمة العرب في العام 1967، من دون أن يغرق في ميلودراما الهزيمة والخيبة. كأنما النشيج فيه استحال ترنيماً إيمانياً لا يخلو من أمل. اختار الرحبانيان اسم القدس القديم عنواناً، فكانت «زهرة المدائن» تذكيراً بمدينةٍ تجاوزت فكرة المكان، موغلةً في الزمان. تُخاطب قصيدتهما القدس، لكنّ الموسيقى أيضاً اختزلت روح القدس وهويتها. يُعبّر المقطع الأول عن قدسية المدينة بلحنٍ «كنسي» بديع: «لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي/ لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن/ يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي/ عيوننا إليك ترحل كل يوم ترحل كل يوم/ تدور في أروقة المعابد/ تعانق الكنائس القديمة/ وتمسح الحزن عن المساجد». ثم تعلو الموسيقى (كريشندو) لتُحقّق تحوّلاً جذرياً من الإيقاع السرياني إلى الحربي عند قولها: «الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان/ الغضب الساطع آتٍ سأمرّ على الأحزان/ من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ/ وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ/ لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي/ سأدق على الأبواب وسأفتحها الأبواب/… وسيهزم وجه القوة».
بعد هذه الأغنية- الثورة، جاء في 26 تموز (يوليو) 1968 نائبا القدس إميل الغوري ومحي الدين الحسيني إلى بيروت ليُسلّما مفتاح المدينة إلى فيروز مع صينية من الصدف تمثل المسجد الأقصى من صنع نساء بيت لحم. يومها، قالت فيروز: «سنعلّق المفتاح بركةً في بيتنا ووعداً في قلوبنا».
وإذا كانت «زهرة المدائن» تُمثّل الذروة، فإنّ البداية- في علاقة فيروز/ فلسطين، تعود إلى العام 1953 مع أغنيتي «داري» و «ابن بلادي». ومع أنّها لا تذكر فيهما كلمة «فلسطين»، فإنّ العملين كانا إهداءً من الثالوث الرحباني إلى الأرض المحتلّة. ومن حينها، صارت «القضية» التزاماً فنياً يُعبّر عن موقفٍ مُناصر للحقّ ضدّ الظلم الهادر بلا حياء.
في العام 1955، سجلّت فيروز في القاهرة أغنيات خاصة بفلسطين هي: «فوق الجبل غادٍ غاد»، «راجعون»، «مع الغرباء». ووفق الفنان والناقد محمود زيباوي- الذي وثّق المسيرة الرحبانية- بُثّت «فوق الجبل» لأول مرّة في 15 أيار (مايو) بمناسبة بدء حرب فلسطين. بينما اعتبرت «راجعون» هي مغناة فلسطين الكبرى. وجاءت المغناة في نسختين، الأولى قاهرية بمشاركة الفنان المصري كارم محمود، والثانية بيروتية (تمّ تسجيلها في لبنان عام 1957)، ومنها: «في البال تحيا دروبها السمر سطوحها الحمر في البال زهر التلال/ في البال دنيا ترابها الشمس، الحب والقدس في البال رغم المحال/ وليلة لا جمال فارقها الجمال العدل زال واسودّ لون الظلال». وفي العام 1962، غنّت «بيسان» و «سنرجع» التي ظلّ أثرها هائلاً عند المتلقي العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً لكونها تحمل وعداً بالعودة الى الأرض المسلوبة. «سنرجع يوماً إلى حيّنا/ ونغرق في دافئات المنى/ سنرجع مهما يمرّ الزمان/ وتنأى المسافات ما بيننا/ فيا قلب مهلاً ولا ترتمي/ على درب عودتنا مُوْهَنَا/ يعزُّ علينا غداً أن تعود/ رفوف الطيور ونحن هنا/ هنالك عند التلال تلالٌ/ تنام وتصحو على عهدنا…».
صوت الشتات
صادفت فيروز في العام 1963، عقب حفلة أحيتها في الأردن (وليس عقب ترتيلها في كنيسة القيامة إثر زيارة البابا في العام 1964 كما تشيع المعلومات الواردة على الإنترنت، وهو ما يؤكده محمود زيباوي نفسه) امرأة مقدسية أهدتها مزهرية ذكرى منها إلى صاحبة الصوت الذي يحضن في طياته غصّة المشتتين وأملهم. وكانت هذه الحادثة محفزاً لولادة إحدى أشهر أغنيات القدس: «مريّت بالشوارع» التي سجلتها في العام 1966، وفيها تصور مشهدين متناقضين بين ماضي القدس الهانئ وحاضرها المريع. يقول مطلعها «مريت بالشوارع، شوارع القدس العتيقة/ قدام الدكاكين، اللي بقيت من فلسطين/ حكينا سوى الخبرية وعطيوني مزهرية/ قالوا لي هيدي هدية من الناس الناطرين…»، قبل أن تعلن صوتها سفيراً لهذه المدينة وقضيتها المحقة بقولها: «عم صرخ بالشوارع … شوارع القدس العتيقة/ خلّي الغنيّة تصير عواصف وهدير/ يا صوتي ضلك طاير زوبع ب هالضماير/ خبرهن ع اللي صاير بلكي بيوعى الضمير».
وفي العام نفسه، قدّمت «سيف فليشهر» معلنةً باسم الفلسطينيين التائهين في الشتات مواصلة المقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وضرورة العودة إلى الأرض التي سُلبت ظلماً على مرأى العالم كلّه: «سيفٌ فَلْيُشْهَرْ في الدنيا ولتصدعْ أبواقٌ تَصْدَعْ/ الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلْتُقْرَعْ/ أنا لا أنساكِ فلسطينُ ويشدّ يشدّ بِيَ البعدُ/ أنا في أفيائك نسرينُ أنا زهر الشوك أنا الوردُ».
وفي أواخر الستينات، قدّمت فيروز مغناة «جسر العودة»، ردّاً على محاولات الكيان الاستيطاني نفي الوجود الفلسطيني: «يا جسر الأحزان أنا سميتك جسر العودة/ المآساة أرتفعت/ المآساة اتسعت وسعت صدعت/ بلغت حد الصلب/… العاثر ينهض النازح يرجع/ والمنتظرون يعودون وشريد الخيمة يرجع».
تجاوزت أغنيات فيروز تراجيديا الاحتلال، بل ساهمت في إعادة بناء الذات الفلسطينية «المفصومة». صوتها الأثيري قاوم الكيان الغاصب عبر تعزيز الانتماء الفلسطيني. وفي كل ما قدمته فيروز إلى القضية من أغنيات معروفة وأخرى ظلّت مجهولة- بين خمسينات وستينات القرن الماضي- كان إصرارها واضحاً على ضرورة خلق تواصل بين الشتات الفلسطيني والوطن المحتلّ، بغية الإبقاء على «الهوية» الفلسطينية التي أراد المحتلّون طمسها تماماً. وهذا ما يتجلّى في تكرار تيمة «العودة» (من كلّ طريقٍ آتٍ، سنرجع يوماً إلى حيّنا، المجد لأطفال آتين الليلة قد بلغوا العشرين لهم الشمس لهم القدس والنصر وساحات فلسطين، سميتك جسر العودة…).
العودة في الأغنية الفيروزية ليست حلماً سوريالياً، إنما اليقين بوجود وطن عربي اسمه فلسطين، لا يقبل بغير القدس عاصمةً أبدية له.
_______
*الحياة