عبد الجبار الرفاعي: للمدرسة بابٌ آخر

خاص- ثقافات

*الشيخ مهند الساعدي

إذ أختار ابو حامد الغزالي الهروب من المدرسة النظامية في بغداد ، قرّر معاصري عبد الجبار الرفاعي أن يمكث في بغداد ويصبر على المدرسة ، ويفتح لها باباً آخر!
لذلك قلت له : انا فرح بك مرتين ؛ الاولى بما تكتب ، والثانية انك عدت تكتب ، وتنشر من بغداد عاصمة العباسيين التي هرب منها الغزالي.

أن تهرب من المدرسة، وأن تفتح لها باباً آخر
خياران لا يقف عليهما إلا من ادرك بعمق حقيقة المسافة المصيرية بين الدين التاريخاني الرسمي ، والدين الروحي من خلال تجربة الانسان الذاتية في التدين . هذا ما أنكره الغزالي على المؤسسات البغدادية واغترب عنه ، وما تحدّث عنه ( روسو ) في رسالته عن عقيدة قديس سافوا. إن خطر هروب الرسالات الى الامام لا يقلّ عن خطر هروبها الى الوراء ، والمكوث في المدرسة والصبر على هشاشتها الرسمية ، وتردّدها العلمي ، لا يقلّ – إن لم يزد فضيلة – عن الهروب ، والمغاضبة طلبا لعافية الدين والدنيا ، او السقوط مضمخاً بالإخلاص على طريق الحقيقة العلمية الشاقة.
وهنا سأحتفي بالرفاعي من خلال تسجيل رؤية مركبة الأبعاد ، تحصلت لي في ربع القرن الأخير من متابعاتي للرجل ، وهو يزرع نوى التمر ويتطلع الى فيئه!


في المائة صفحة الاولى من كتاب ( الدين والظمأ الانطولوجي ) تتبعت سيرة غير مفصلة ، أجمل فيها صاحبُها رؤيتَه الكلية لأخيه الانسان ، ودوّن فيها مشاهدات ، ومعايشات ليست اعتباطية ، أو غير مهمة إطلاقاً ، في محاولة شجاعة لرجل جاء من خلفية لا تعترف او تبوح بجوانياتها بسهولة من خلال ثقافة كتابة المذكرات ، والسير الذاتية.
أن تكون لك ذاكرةُ مكان فهذا يعني انك كنتَ فيه ، وأن تسرد تجاربَك مع الانسان فإنك تحكي تجربةَ الانسان الذي هو انت ، وان تعيد ترتيبَ وتسلسلَ الأحداث بطريقة غائية ، الهدف منها تتبع مراحل بناء الذات ، وملاحظة بيئات تكوينها ، فأنك تؤشر للآخر من خلال الذات دلالات ، ومثابات ، وعِبر.
وفي اللحظة التي يُختطَف فيها الخطابُ الديني ، وتغتصب قيمَه ، وتتعرض مؤسساتُه للاختراق من أحباره ، ورهبانه ، وشيوخه ، وتتعرض رسالةُ الدين الى التشويه ، فتُعاد كتابةُ شروحها بالافهام المغلوطة ، والشروحات المغلوطة ، والخطابات المغلوطة ، لا يبقى أمام التجربة الدينية سوى العودة للذات ، والتحصن بها ، وتجاوز التعريفات الإشكالية للدين.
حين يتعثر الخطابُ الديني مع المجتمع ، وفي السياسة ، او الاقتصاد ، فعلى الروح أن تتجنب العقبةَ الكأداء ، وتربح نفسَها إن قدّر لها أن تخسر العالم.

 لم يكن متصوفاً على المسطرة ..!
في (الظمأ الانطولوجي للدين) لاحظت أن الرجل لم يغفل عن نقد التصوف ، فسجل ملاحظاته الذكية عن محتوى التصوف وصيروراته التاريخية ، ومُنظِماتِه الاجتماعية ، ومواقفه السياسة ، ومآلاته الاخيرة.
توقف عند تفخيم الألفاظ ، والمصطلحات الصوفية ، وإحاطة الاولياء بهالات القداسة ، وإسباغ الألقاب التي تتحولُ معها رموزُ التصوف الى أصنام جديدة تعيد الانسانَ المتدين الى  الحفرة ذاتها التي هرب منها ، حين يعاد تمثيلُ الدين من خلال الفرد ، او المؤسسة ، التي قد تكون الخلافةَ في الحكم ، او الطريقةَ في التصوف ، وفِي جميع الحالات ، فإن التجربة الذاتية تفقد تجردها أيضاً.

وجدته انساناً خُلق كما يشاء ..
لك أن تحتفظ في كلّ من تعرفت عليهم بحق قياس المسافة والفارق بين ما يفكر به ، وما يكتبه ، وما يقوله ، وما يعمل به ، حتى تلتقي مع عبد الجبار الرفاعي ، لتكتشف أنه رجل يفكر ويتكلم ويكتب ويعيش بطريقة واحدة.
وطالما قلت له : يا أبا محمد انت نسخة مريحة من بني آدم.
ذلك أن الصداقةَ والتعاملَ مع النمط السهل التركيب بين القول والعمل هي غير الصداقة والتعامل مع النمط الآخر ، المعقد أو الملتبس أو المشوه التركيب ، بين القول والعمل ، والذي قد يفكر، ويكتب ، ويقول في مجرة ، ويعمل  ، ويشتغل ، ويعيش في مجرة أخرى ، وبينهما ما شاء الله من السنوات الضوئية.
لقد ربط هذا الإنسان الإنسان ، بين الحقول المعرفية والعلمية التي اشتغل عليها ؛ وبين تكوينِه الأخلاقي وسيرتِه الاجتماعية ومناقبِه السلوكية ، فتراه ينسجم سريعا مع معطيات العلم ، ولا يخلع قديما من الرأي إلا ليلبس جديداً غيره ، ولا يغادر قناعةَ الأمس ، وانتماءَ الأمس ، وعقيدةَ الامس ، ونمطَ تدين الأمس ، إلا لصالح قناعة ، وانتماء ، ونمط اليوم  ، وهو لعمري معنى الحياة ومعنى أن تكون كائنا مهجوساً بها.

لا اجد غضاضة في مديح صاحبي ما دام بعيدا عن السلطة والسلطان
وصاحبي رجل شغف بالكتاب والمكتبة بقدر شغفه بالجديد والعميق والشجاع من الأفكار ، فكان يصفّ الكتبَ في مكتبته صفاً ، وينفق عليها كما ينفق المؤمنُ على الزاد والراحة يبغي حجه ، أو كما ينفق الجائع على طعامه أو الظمآن على شرابه . سمى كتابَه الأخير : ( الدين والظمأ الانطولوجي ) .كان أولُ ما أهداه لي الرفاعي في تاريخ صداقتنا هو كتاب ، كما أن آخر ما اهداه لي هو كتاب أيضا ، وكأن العلاقة مع الرجل ، في أبهى ، وانصع ، وانفع صورها هي علاقة ما بين كتابين . (الدين والظمأ الانطولوجي) كان آخرَ كتب الرفاعي وهداياه الثمينة.
والكتاب الهدية الأولى كان عن الأسرة و تربية الأطفال في الإسلام ، أهداه لي مشكورا بمناسبة زواجي من أم أولادي الثلاثة أيام كنا نسكن في شارع واحد من شوارع مدينة قم هو ( شارع سمية ) ، حيث لا أتكلف لزيارته ، ولا يتكلف لزيارتي ، غير المشي المريح لخمس دقائق ، يتأبط فيها هذين المجلدين الجميلين ، وعبارات التهنئة ، وابتسامته التي لا تنفك ولا تغادر محياه الطلق ، وبعض من حكاياه ، ونظراته ، واسفاره ، ونصائحه ، وتجاربه ، وطُرَفه التي لا يعدمها جليسُه .
يتابع صاحبُنا حركةَ الفكر والفلسفة العربية والإسلامية ، وهو كما يشرف على التاريخ ، ويتتبع نبضَ المدونات الاولى وبيئات تدوينها ، كذلك يدقّق النظرَ في مآلات هذه المدونة ، وبثها الطويل الذي يحيط بواقع الفكر المعاصر وينتج خطابَ المستقبل ضمن مدياتها المتاحة .وهو في كل ذلك متلبس ومنتج للقلق المعرفي ، ساعيا لوضع يده  على الحقيقة التي تنأى بمقدار الاقتراب منها.
يُعدُّ الرفاعي من اندر المفكرين ، والمشتغلين على حقولهم المعرفية ، الذي يدير منتجَه وإسهامَه بنجاح ، كما يكتبه بنجاح. تحتاج المواهبُ والطاقات الى إدارة نفسها إدارة ناجحة ، بعد فراغها من الإسهامات الناجحة ، بل تعدّ إدارة المشروع الفكري جزءا مكملاً  للمشروع ذاته. لذلك تجد الدكتور عبد الجبار يتابع بنفسه مراجعةَ نصوصه ، وتحمل مشقة الكتابة ، وتقويم النصوص ، وطباعتها ، وكان يعبّر عن مجلته الاولى ( قضايا اسلامية ) : بأنني محررها وعامل الخدمة فيها. وقد نسج صاحبُنا منظومةً طويلة مما يمكن أن نسميه ( العلاقات الفكرية العامة ) مع أصحاب المشاريع الفكرية المهمة ، في العراق ، وايران ، ولبنان ، ومصر ، والخليج ، ودوّل المغرب العربي ، التي ارتبط الرفاعي مع جامعاتها ، ومؤسساتها ، ومعاهدها ، ومفكريها ، واصداراتها ، بعلاقة لم تتح لعراقي آخر على الإطلاق ، وربما لمشرقي عربي آخر. وهذا يعود بالأساس للمثابرة التي عُرِف بها ، وولهه بملاحقة كل جديد ، والاتصال والتواصل مع كل جديد ، ورغبته بالتواصل والتلاقح الذي صيّره مفكراً فاعلاً في التواصل على حدّ الاستعارة والتصرف عن هبرماس.
نامت محاولاتي للكتابة عن الرفاعي طويلاً ، حتى أحيتها جائزةُ الدوحة الاخيرة ، وهي جائزة في عنوانها ودلالاتها ، وسيرة صاحبها ، ما يبشر بمرحلة استعادة بغداد لعقلها الفلسفي والعرفاني الغائب ( او المُغيب ) حيث عكفت مجموعة من النخب المهتمة لإعادة الاعتبار لدرس الفلسفة والمنطق والاخلاق في المنهاج الدراسي العام.
لا يمكن ان تتحول الفلسفةُ الى حقل عام في متناول الجميع ، لكن زراعتها في البيئة العلمية والاكاديمية ، توسع من آفاق النخب ، وتثمر عقلاً مقارناً ، يلحظ النسبيةَ ، وينتهج الاعتدال ، ويهرب من فخاخ الاحادية ، واليقينية المطلقة ، التي تحجب الرؤية وتوقف التفكير.
لقد عمل الدكتور الرفاعي بجدّ ، على وصل النتاج الفلسفي والفكري الفارسي المعاصر بنظيره العربي ، كما كان همزةَ وصل لافتة بين المشرق والمغرب العربي ، وجسراً علمياً بين الحوزة والجامعة ، ومحضراً خيراً بين السياسيين والمثقفين ، وما ذهبتُ الى دولة في شمال افريقيا الا وسألوني عنه ، حتى بات الرجلُ قمراً من فلك الأزوار مطلعه.
للرفاعي ، ولجائزته ، ولبغداد ، وأمسها ، وغدها ، أكتب كلماتي والامل يملأ القلب بغد جميل تأخذ فيه الافكارُ والفلسفات الصائبة مكانَها في حياة العراقيين.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *