فصول من كتاب “الثقافة” للكاتب والمنظّر الأدبي البريطاني تيري إيغلتون(5)

*ترجمة وتقديم :  لطفيّة الدليمي

 

   ظلّت مفردة ( الثقافة ) واحدة من أكثر المفردات إشكالية على صعيد المفهوم والتطبيقات ، كما ظلّت الدراسات الثقافية – التي تعدُّ حقلاً معرفياً تتداخل فيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وتأريخ الأفكار واللغويات والفلكلور والسياسات الحكومية المؤسساتية – ميدان تجاذب لم يخفت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحيث باتت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة ثمّ إنقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنّعات مادية تُعلي شأن الإقتصاديات المتفوقة وترسّخ سطوتها على الساحة العالمية .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى ستُنشرُ تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من كتاب ( الثقافة Culture ) المنشور عن جامعة ييل الامريكية العريقة عام 2016 للكاتب البريطانيّ الذائع الصيت ( تيري إيغلتون Terry Eagleton ) ، وهو ناقد ومنظّر أدبيّ وباحث في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة . نشر إيغلتون العديد من الكتب وقد تُرجم بعضها إلى العربية ( ومنها مذكّراته التي نشرتها دار المدى بعنوان ” حارس البوّابة ” عام 2015 . تجب الإشارة هنا أنّ كتاب ( الثقافة ) هو كتاب مستقلّ ومتميّز عن كتابٍ آخر نشره إيغلتون من قبلُ بعنوان ( فكرة الثقافة ) وهو مترجم إلى العربية .

                                                         المترجمة

                          الثقافة والحضارة – تتمّة

   مفردة ( الطبيعة ) ، كذلك ، هي واحدة من المفردات التي تحمل مفهوماً متعاكساً مع الثقافة وتنطوي على الإلتباس الإشكاليّ ذاته : القولُ أنّ ماء المطر طبيعيّ هو بمثابة تقرير حقيقة واقعة ؛ في حين أنّ الإدّعاء بأنّ غشّ العملاء هو جزءٌ طبيعيّ من عمل المصرفيّ هو  حمق ينطوي على عنصر تقييمي . أشار رئيسٌ سابق للمصرف الإحتياطي الفدرالي الأمريكيّ في إحدى المناسبات أنّه يعتقد إعتقاداً راسخاً بأنّ الرأسمالية معطىً طبيعي في معرض حديثه عن الممارسات الغير طبيعية التي إنخرط فيها أهل بلاد فارس القدماء بالمقارنة مع سلوك القبائل التي تعيش في حوض الأمازون ، وثمة منظّرون ثقافيون مابعد حداثيّون يسعون بكلّ جهودهم لتجنّب الحديث عن ” الطبيعيّ ” مهما كلّفهم هذا الأمر ، وبالنسبة إليهم فإنّ إستخدام مفردة ” الطبيعيّ ” ليس سوى وسيلة ملتوية لـِ ( تطبيع  naturalising ) الثقافيّ بكيفيّة تبدو معها الأشياء العارضة والقابلة للتغيير بمثابة حتميات طبيعية راسخة لايجوز تعديلها أو تكييفها . إنّ هذا الأمر يعني – ضمن مايعنيه – ، وبطريقة شاذة ، أنّ الطبيعة ومنتجاتها هي أمر قابل للتعديل ، وهذه هي بالضبط رؤية جرّاحي التجميل ومهندسي المناجم ؛ غير أنّ مفردة ( الطبيعة ) لاتحتاج البتّة لمثل هذه المترتّبات المخادعة والمغوِية : إنّه لأمر طبيعيّ تماماً أن ننتحب لموت صديق ، وولادة طفل هي الأخرى أمرٌ طبيعيّ تماماً مثلما هو الموت ، ومن الطبيعيّ أن يفزعنا سماع صياح جامح وفجائيّ في وهدة الليل ، وقد لايحبّ البعض منّا الممثّل ( راسل كرو Russell Crowe ) . لطالما تمّ تبجيل الطبيعة باعتبارها فردوساً للصفاء والسكينة يستطيع المرء الإحتماء في ملاذها من فوضى الحضارة واضطراباتها الجامحة ؛ غير أنّ الأمر المعاكس يمكن أن يحصل أيضاً : بموجب هذه الرؤية المعاكسة فإنّ الحضارة هي التي تسعى لإستثمار الطبيعة الجامحة العصية على الترويض وبأقلّ قدر من الممكنات التي تخلق منتجاتٍ طافحة بالمعنى . ( الطبيعة مجنونة ) : هذا مايشير إليه الفيلسوف سلافوي جيجك  Slavoj Žižek ، ويضيف : ( الطبيعة فوضوية وعُرضةٌ  للكوارث الجامحة التي لايمكن التنبؤ بها والمفتقدة للمعنى ، ونحن في المقابل عُرضةٌ لنزواتها عديمة الرحمة . ليس ثمة شيء مثل تلك العبارات السائدة على شاكلة ” أمّنا الأرض ” وسواها ….. لااعتقد بوجود أيّ نظام طبيعيّ . النظام الطبيعيّ هو كارثة . ) ( 11 ) . تختلف مداخلة جيجك عن المداخلة التي قد يكون وردزورث  Wordsworth أبداها لصديقه كولريدج خلال نزهة هادئة في مقاطعة البحيرة * . فيما يخصّ جيجك فإنّ المعضلة لاتكمن في أنّ الطبيعة غير قابلة للتحوّل إلى أشكال جديدة وحسب بل في أنّ مفهوم الطبيعة ذاته رجراجٌ وزلِقٌ يصعب الإمساك به .

   الحضارة – كفكرة – تضمّ ( الماديّ ) و ( الروحيّ ) معاً : الثقافة لاتني تنبؤنا بوجود الكثير من المباني ذات الحجوم المعتبرة  والمنشآت الفائقة في التصميم والإنشاء وكذلك المنظّمات الكبيرة ذات الدقة الهائلة في التنظيم والأداء ؛ ولكنّ كلّ مايحيط بنا من هذه الأمور ونظائرها يشي بأنّها إنّما تسعى لتعزيز متانتنا الأخلاقيّة وانضباطنا القيميّ . إنّ فكرة الثقافة هي ، بين أفكار أخرى ، محاكمة – أقرب لدينونة – للشعوب التي أفقِرت في حياتها وباتت عاجزة عن حيازة مكتبات عامة ، أو منظومات التدفئة المركزية ، أو ممثّلين نجوم مثل تشارلي شين Charlie Sheen ، أو صواريخ كروز الجوّالة . على العكس من هذا الحال فإنّ هذه الشعوب تعوّدت على معايشة شيء يدعى ( ثقافة ) والذي قد يعني أنّ تلك الشعوب لم ترتقِ بعدً إلى الحال الذي يرتدي فيه الرجال بزّات رجالية وترتدي النساء تنانير نسائية ؛ ومع ذلك فإنّ هذا الحال لايعدُّ دوماً نقصاً ومثلبة . يجادل أوزفالد شبينغلر Oswald Spengler في كتابه ( إنحطاط الغرب The Decline of the West )  بأنّ كلّ الثقافات تنتهي في خاتمة الأمر للمراوحة حيث هي والتجسّد في هيئة حضارات ، وهو الأمر الذي يكشف عن الإنحدار الحتميّ من الحالة العضوية نحو الحالة الميكانيكية . كانت الحضارة  ، حتّى مقدم التقنيات الثقافية الحديثة ، ظاهرة عالمية ( كوسموبوليتانية ) أكثر بروزاً بالمقارنة مع الثقافة التي ظلّت تقليدياً شأناً تكتنفه المحدودية المحلية وضيق الأفق ؛ لكن ثمة إستثناءات مهمة لاتتبعُ هذه القاعدة : الكاثوليكي الذي يتبع بابويّة روما ويسكن في فلوريدا ، على سبيل المثال فحسب ، له الكثير من المشتركات مع نظيره الكاثوليكيّ المقيم في كمبوديا . يمكن لبعض الأنواع الثقافية ( مثل : البنّاؤون الأحرار** ، النباتيّون ، عازفو التوبا *** ) أن تلاقي إنتشاراً واسعاً في جميع بقاع كوكب الأرض ، وتميل الثقافة بعامّة لأن تكون إنعكاساً لحياة أمّة ، أو منطقة جغرافية ، أو طبقة إجتماعيّة ، أو مجموعة عرقيّة . صحيحٌ أنّ الثقافة ” الرفيعة ” لطالما كانت شأناً عالمياً ( كوسموبوليتياً ) ؛ غير أنّ الثقافة الشعبية لم تصبح عولمية الطابع حقاً إلّا بعد ظهور تشارلي شابلن على الساحة الثقافية العالمية .

   يكتب جون ستيوارت مِلْ John Stewart Mill عن الحضارة باعتبارها مركّباً يشتمل على :

كثرة من وسائل الراحة المادية ، تطوّر المعرفة وانتشارها ، تفكّك الخرافة وانحلالها ، التسهيلات الخاصة باللقاءات المُتبادلة ، تهذيب الطباع ، الإنحدار بفكرة الحرب والمناكفات الشخصية ، التقليد الإرتقائي المتواتر لفكرة طغيان القويّ على الضعيف ، الأعمال العظيمة المنجزة في كلّ أصقاع العالم المترامية من خلال مشاركة جهات كثيرة متنوّعة المشارب ….. ( 12 )

   ثمّ يمضي مِل في تعداد بعض الجوانب السلبية للحضارة ، وليس أقلّها تأثيراً التباينات الصارخة التي تخلقها الحضارة بين الأغنياء والفقراء . الأمر كما يراه مل ، إذن ، هو أنّ الحضارة مفهوم يمكن توسيعه ليشتمل على الخصائص الأخلاقية والمادية والإجتماعية والسياسية والفكرية ؛ وهي إذ تفعل هذا فإنّما تضمّ الحقائق والقيم في الآن ذاته ، وتؤشّر لذلك النوع من الحياة المتطوّرة مادياً والمؤسّسة في الحواضر المدينية بعامة ؛ لكنّها تشير في الوقت ذاته إلى أنّ المرء يؤدّي الأعمال المناطة به بأسلوب متحضّر وحساسية لاتخفى على الأبصار : إنّه لأمرٌ متحضّر ( بالمعنى التوصيفيّ ) إرتداء بنطال ؛ غير أنّ الأمر الأكثر تحضّراً ( بالمعنى السياقيّ العُرفيّ ) هو عدم دخول مكانٍ ما ( مثل صالةٍ أو مرسم ) وبنطالك مشدود بشكلٍ غير أنيق حول ركبتيك .

   إنّ نسبة التباعد والمفارقة بين هذين الوجهين للحضارة يمكن أن يطاله تغيير عظيم من مكانٍ لآخر : تُتَهم الولايات المتحدة أحياناً بأنها تمازِجُ الرفاهية المادية مع الإكتمال الثقافي ( بطريقة تبدو مصطنعة ومتكلّفة ، المترجمة ) ؛ في حين أنّ بريطانيا ، وبسبب إبقائها على طبقتها الأرستقراطية بين أسباب عديدة اخرى ، فإنها زاوجت تقليدياً بين الوفرة المادية والأعراف الإجتماعية الملمّعة والمشذّبة تشذيباً جيداً مثلما زاوجت بين الطواحين المستخدمة لحلج القطن ومنازل المقاطعات المدينية الحديثة . الروائيّ الأمريكي هنري جيمس Henry James أقام في إنكلترا لسبب جزئيّ يعود لشعوره بأنّه قادرٌ على الكتابة المبدعة في بلدٍ يضمّ أماكن ملكية إلى جانب جامعاتٍ قديمة ، ودوقيّات إلى جانب أشخاص من الطبقات العليا يضعون خطواتهم الأولى في المحافل الإجتماعية العليا الموسومة بالرقيّ ؛ وإذ يفعل جيمس هذا الأمر فهو إنّما يهرب من طبيعة البيئة الأمريكية ” المختلقة ” و ” غير المتجانسة عضوياً ” ليكتشف في المجتمع الإنكليزي نسيجاً محبوك الغزل والصنعة من ( العادات ، والإستخدامات ، والتقاليد ، والأشكال الحضارية ) ( 13 ) ، وهو الأمر الذي منح فنّه – ربّما – غنىً أكثر خصوبة . الثقافة بالمعنى الذي يفيده الفنّ – والمنتجات الفنية بعامة – تنتعش بفعل الثقافة التي تعني طريقة الحياة المحسوبة والمحدّدة بمعايير مرجعيّة ، ولايعود هذا الأمر لمحض أنّ تلك الطريقة المحدّدة في الحياة تنطوي على حسّ جماليّ في الأسلوب وإيقاع العيش .

  يكتب مِل في موضع آخر من عمله السابق :

   نميلُ في العادة لخلع وصف ( متحضّر ) على أيّ بلد إذا ماإعتقدنا أنّه أكثر تقدّماً من سواه ، وأعظم تمثيلاً للخصائص الأرقى لكلّ من الإنسان والمجتمع ، وأبعد شاواً على طريق بلوغ الإكتمال ، وأكثر سعادة ونبلاً وحكمة . هذا محضُ معنى واحد لمفردة ” الحضارة ” ؛ لكن ثمة معنى آخر يفيد بالإشارة إلى ذلك النوع من التطوّر الذي يميّز – حصرياً – أمّة ثرية تمتلك أسباب القوّة عن المتوحّشين والبرابرة . ( 14 )

مقاطعة البحيرة Lake District : منطقة بحيرات وجبال تقع شمال غرب إنكلترا ، وقد إرتبط ذكرها في العادة مع الشعراء الإنكليز العظام أمثال كولريدج ووردزورث . ( المترجمة )

**  البنّاؤون الأحرار Freemasons : جماعة عالمية التنظيم أنشِأت بقصد تدعيم المساعدة والصداقة على نطاق عالميّ ، ولها إحتفاليات عالمية سرّية معقدة التنظيم . ( المترجمة )

*** التوبا tuba :  آلة نفخ موسيقية  مصنوعة من البراص تعطي أنغاماً جهيرة ، تعمل بثلاث إلى ستّ صمّامات ، وتقوم في الفرق العسكرية مقام آلة الكونترباص في الفرق الوترية . ( المترجمة )
_______
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *