خاص-ثقافات
*عثمان بوطسان
يعتقد رولان بارت في كتابه «الكتابة عند درجة الصفر» أن «كتابة الصمت» هي عبارة عن كتابة بريئة. وهي تجاوز للأدب عبر الاعتماد على لغة أساسية بعيدة عن اللغات الحية واللغة الأدبية. وهكذا نجده يقول:
«هذه اللغة الشفافة التي أسسها كتاب «الغريب» لكامو، تُعَبر تقريبا عن غياب الأسلوب، إن لم نقل أنها غياب للأسلوب، حيث تُحول الكتابة إلى أشبه بعالم سلبي تتحول فيه الخصائص الاجتماعية والأسطورية إلى نوع من الحالة الجافة من حيث الشكل، حيث يتحمل الفكر كامل مسؤوليته بدون أن يغطي الشكل داخل تاريخ لا ينتمي إليه».
إن كتابة الصمت أصبحت تحتل مكانة كبيرة في الأدب الحديث، بحيث إنها تخلق مجموعة من العوالم الممكنة داخل عالم النص وتُشكل في حد ذاتها فضاء للتأويل بامتياز. فحسب بول كلوديل، هذا النوع من الكتابة يفترض دائما وجود الأبيض والأسود، الفراغ واللا فراغ. كل نص حيث اللغة منظمة بشكل بلاغي وجمالي تفترض وجود نوع من الفراغ يحيط بها. ففكر الكاتب دائما ما يتم تمريره من خلال هذا البياض الذي يجتاح النص، كما أكد ذلك أومبرتو إيكو، حينما اعتبر النص كنوع من النسيج غير المكتمل، يتطلب وجود قارئ نموذجي لملء هذا الفراغ.
فالصمت مرادف للامُتخيل واللاموصوف والعجائبي واللامرئي. يدفع بالمتلقي إلى طرق مجموعة من التساؤلات حول حدود قراءته وتأويله في النص. أمام أزمة الحرب والموت والعنف والمعاناة والمنفى التي عاشها الكتاب الأفغان، تأتي كتابة الصمت لتترجم عجز اللغة الكلامية عن ترجمة هذه التجارب التراجيدية كما عاشها أصحابها. فالصمت يُعرف على أنه أيضا فضاء خاص يعتمد عليه الأدب لخلق نوع من الغموض والمتاهة في النص. بارت يُعرفه بالعالم السلبي لأنه يعبر عن النقص، لكنه يندرج ضمن الأفعال الإبداعية الأدبية. يتخذ الصمت عند ستيفان مالارميه شكل الصفحة البيضاء. فالصمت هو انعكاس الغياب والفراغ. ففي الثقافة الأفغانية، يُتَرجم الصمت تجربة الحرمان والمعاناة، ويرتبط أساسا بعدم القدرة عن التواصل بحرية والتعبير عن الأحاسيس وعدم القدرة أيضا على معارضة التقاليد والأعراف. ليس بعيدا عن أفغانستان، في الصين بالتحديد، يعتبر الصمت كنوع من الامتلاء في أعلى درجاته حسب لاو تزي مؤسس الطاوية.
ففي الصين يعتمد أيضا شعراء الطانغ على لغة الصمت لخلق نوع من العمق في الكتابة عن طريق الاعتماد على تقنية الفراغ. وقد عرف الشاعر والكاتب الصيني فرانسوا شينغ هذا النوع من الكتابة على أنها تهدف إلى خلق فضاء يسمح بتعدد المعنى. يمتلك الصمت القوة على تِعداد المعنى داخل النص الواحد. فكتابة الصمت تفترض وجود عالم آخر غير عالم الأحداث التي يرويها الكاتب، لغة أخرى قادرة على عكس الترهيب والمأساة والرغبات المحبوسة. فالنصوص الأفغانية تتميز كما أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة بقوتها الشاعرية وصراحتها المفرطة، وتندرج في إطار كتابات الأزمة التي تصور لنا شخصيات في محاولة البحث عن هوياتها المفقودة، وتجاوز ثقب الذاكرة وثقل المعاناة المتكررة. فكتابة الصمت تخلق جانبا رمزيا يجعل من «الأنا» في الكتابة الأفغانية محور السرد والبحث والتساؤل. ودائما ما يستغل الكتاب الأفغان تقنية الصمت للتعبير عن حرمان الفرد في مجتمع منغلق كأفغانستان، عن التعبير عن رغباته وأحاسيسه، خاصة المرأة التي تم تجريدها من قوة الكلمات.
إن شاعرية الصمت دائما ما يتم ربطها في الكتابة الأفغانية بكتابة الأشلاء، أو ما يصطلح عليه بالفرنسية بـ L’Ecriture du fragment وقد فرض هذا النوع الجديد من الكتابة مكانته بقوة تحت شعار الحداثة الأدبية خلال نهاية القرن التاسع عشر، وأصبح اليوم يعتمد بشكل كبير في الكتابة الروائية. يعتمد الكاتب عتيق رحيمي مثلا، كثيرا على هذا الشكل الأدبي في نصوصه للتعبير عن وضعية الحرب ولخلق فضاء يجعل من كتابة الصمت عالما رمزيا يحمل في طياته العديد من المعاني. ففي رواية «ألف منزل للحلم والرعب» يستغل عتيق رحيمي كتابة الصمت للتعبير عن أزمة الفرد الأفغاني خلال الحرب السوفييتية على أفغانستان. فهذه الرواية تعكس شاعرية الصمت شكلا ومضمونا، خاصة من خلال الصفحات البيضاء. فالرواية شبيهة بالسيناريو، تتكون من مجموعة من الأشلاء المرتكزة أساسا على فقرات وفصول قصيرة. فالصمت يتمظهر من خلال البياض المسيطر على النص والذي يدفع بالمتلقي إلى التساؤل حول ماهية هذا النوع من الكتابة. إن هذه الرواية تقدم للقارئ شخصيات في حالة من التيه والتساؤل. شخصيات فقدت هوياتها بسبب العنف والرعب اللذين عاشتهما. فالصمت يستقر في الرواية على شكل ذاكرة ممسوحة وعذرية الصفحات البيض التي تفتقد إلى الكلمات. فالكاتب يشتغل كثيرا على لغة الصمت، ويحاول أن يجعل منها صورة من صور أفغانستان الغارقة في الدمار والدماء. كما أنه يحاول تمرير وضعيات من الواقع المعاش، حيث الفرد الأفغاني ليس صورة صامتة يعبرها الزمان في لوحة عبثية تتجاوز عبثية الحرب والرعب. كأن الصمت سجن تنغلق فيه ذات الكاتب وذوات الشخصيات. فروايات عتيق رحيمي من النصوص الأكثر صمتا، حيث تُقدم للمتلقي كأنها تجديد للنفس بعد فقدان الذاكرة والكلمات. ودائما ما يرتبط الصمت بالذاكرة، بالحلم، بالرعب وبالكلمات التي تحترق داخل حنجرة الراوي.
إن كتابة الصمت هي فضاء الحرب وأزمة الذات، فشخصيات عتيق رحيمي في حالة من المواجهة المستمرة مع الصمت والموت. وسياق رواية «ألف منزل للحلم والرعب»، يتأسس على الصمت والمعاناة. ولا يعني الصمت في هذا النص غياب الكلام، بقدر ما يعكس أزمة الهوية والوجود. وفراغ الصفحات البيض، ليس إلا انعكاس للصمت في فضاء الكتابة وتأكيد على الهوية المفقودة التي لا ينفك الكاتب من البحث عنها. ويعتمد عتيق رحيمي على كتابة الصمت بشكل كبير في روايته «حجر الصبر»، حيث المونولوغ الداخلي حاضر بقوة. أما الصمت فيتخذ شكل الصلوات والأنفاس المتقطعة. لكن القارئ يحس بثقل الصمت من خلال فضاء الرواية «الغرفة». ويُصور لنا الكاتب امرأة تتحرر من صمتها شيئا فشيئا حتى تتمرد على كل القوانين السائدة وتكشف كل أسرارها بدون خوف ولا تردد. ويُكسر الصمت في الرواية أحيانا من خلال ضجيج المدافع والانفجارات وضجيج مشي الجنود. فهذه الرواية جاءت لتُكسر الصمت الذي تعاني منه المرأة الأفغانية من خلال منح الشخصية «المرأة» قوة الكلمات وجعل الرجل في وضعية عجز «جثة حية» يسمع فقط. فالكاتب يحرر لسان المرأة معلنا بذلك نهاية عصر الصمت رغم استمرار المعاناة والحرب والدمار في بلاده.
فحسب الباحثة برناديت راي ميموزو رويز، فهذه الرواية تندرج ضمن القطيعة مع الصمت. فالصمت لم يكن اختيارا، بل تم إلزامه على المرأة الأفغانية، لذلك سعى عتيق رحيمي لتكسير هذه السلسلة وتحرير المرأة عبر منحها القدرة على الكلام وكشف أسرارها وعلاقاتها الحميمية، في لغة لا تقل جرأة عن لغة شاعرات البشتون المتمردات. وتكسير حاجز الصمت هو تمرد ضد التقاليد والأعراف في المجتمع الأفغاني. فالمجتمع الأفغاني كما يعرف الجميع، هو مجتمع ذكوري متسلط وظلامي نوعا ما. والمرأة هي الحلقة الأضعف، حيث يتم حرمانها من حقوقها ويفرض عليها الصمت والزواج والموت خارج رغبتها. فرواية «حجر الصبر» تعكس تجاوز الكاتب لهذا القانون التقليدي معترفا بحق المرأة في الكلام وتحديد مصيرها شأنها شأن الرجل. هذا وتعكس الرواية المجتمع الأفغاني في لغة نقدية صلبة تعري القناع عن حقائق يجهلها القارئ.
يحول عتيق رحيمي الصمت إلى ما يشبه فضاء رمزيا يختلط فيه العنف مع وقع المعاناة اليومية. فإذا كانت الحرب تشتعل في كابل، فالصمت يصبح في الوقت نفسه هروبا من المعاناة. لكن الكاتب يفضل المواجهة وتكسير الحواجز عبر الكلام والتمرد. فالصمت يعتبر من المواضيع الأساسية التي يتطرق إليها كتاب «نزهة القلم»، خاصة أنه يرتبط بمعاناة المنفى والبعد عن الوطن. يكتب عتيق رحيمي في واحدة من الرسائل التي تندرج ضمن هذا الكتاب قائلا: «كنت أحلم بواقع آخر، بحياة أفضل. كنت أهرب من الحرب صامتا، قلقا. كنت أقترب من الحدود وبي أمل أن يفقد الرعب والمعاناة الأثر. كان الليل، ليلة باردة. في صمت مطلق، كنت أسمع فقط الضجيج يسكن خطواتي الباردة الملقاة على الثلج. مرة على الحدود، صوت يطلب مني أن أنظر مرة أخيرة إلى وطني. توقفت ونظرت إلى الوراء: كل ما كنت أراه، لم يكن إلا بقعة كبيرة من الثلج تحمل آثار أقدامي. وفي الجانب الآخر من الحدود، صحراء تُشبه الصفحة البيضاء. بدون أي أثر. قلت إن المنفى، كالصفحة البيضاء ينبغي على ملؤها».
هذا المقطع يُصور لنا حالة الكاتب خلال المنفى ويُعبر عن عمق المعاناة والصمت الذي يعيشهما بعيدا عن موطنه. فالليل يحاور الرعب ويخلق فضاء للحنين المختلط بالقلق. فالصمت هنا تجربة معاشة مرتبطة أساسا بتجربة التيه خارج الحدود. من الواضح أن الكاتب يؤسس لمنظور جديد يجعل من كتابة الصمت أساس فعل الكتابة وانعكاس الأزمة التي تمر منها الذات من خلال البحث عن آثار الماضي والتيه المستمر. فالعلاقة بين الحلم والصفحة البيضاء تأكد على فكرة مفادها أن ثقل الصمت يؤثر على الحالة السيكولوجية للكاتب. كما أن الحنين يزيد من وطأة الغُربة ويخلق فراغا عميقا في كيان الكاتب. من هنا فإن الصمت تعبير عن ذات ممزقة تحاول مقاومة معاناة المنفى. فهذا الفضاء يُمكن من خلق فضاء صامت مع العالم الخارجي. فالكاتب يبحث عن انعكاسه في الأمكنة «الحدود أو الصحراء أو بقعة الثلج»، مؤكدا على جرح الحرب الذي ترك ثقبا كبيرا في ذاكرته وحالته السيكولوجية.
إن أزمة «الأنا» في كتاب «نزهة القلم» صورة لأزمة الهوية التي تجتاح الذات بعد تجربة البعد عن الوطن. فالأنا في حالة من التشتت بين غربة المنفى ومعاناة الصفحة البيضاء. كما أن الصفحة البيضاء في الكتابة الأفغانية، لا تُعبر فقط عن مشهد الصمت، بل يمكن تأويلها كالانفجار الداخلي للأنا المتكلمة. فالصمت يندرج ضمن الوصف الملموس للواقع الأفغاني ويحمل عادة مجموعة من المعاني الرمزية. إن الصمت هو تعبير أيضا عن غياب التواصل. ففي سياق الحرب يختلط الصمت بالضجيج خالقا بذلك عالما متناقضا يشبه المجتمع الأفغاني ويدفع بالمتلقي إلى النبش أكثر وراء السطور في محاولة منه للإجابة عن أسئلة الشخصيات. ومن ثمة فإن الكاتب يحاول أن يخلق لدى القارئ نوعا من الإحساس بالتعاطف مع الشخصيات التي تعيش في واقع جحيمي وظلامي مصورا لنا عوالم تخرج عن المنطق المعتاد تستمد قوتها التراجيدية من المنفى والغربة حيث «الأنا» في حالة من البحث المتواصل. كما أن هندسة النصوص الأدبية وتقنيات السرد المعتمدة تتماشى مع الحالة النفسية للشخصيات التي تعكس بالأساس حالة الكاتب.
تعتبر زرياب من الكاتبات الأفغانيات التي تشتغل أيضا على كتابة الصمت في محاولة منها لتعرية الواقع الأفغاني تحت إيقاع الحرب. وتعتمد الكاتبة الأسلوب الرمزي والإيحائي في الكتابة بغية خلق فضاء تختلق فيه الفوضى مع أحاسيس «الأنا» الجياشة. وتجعل زرياب من الذات منطلق الكتابة ومركزها، وتنتقل من واقع معاش إلى واقع سريالي يتأسس على الحلم كقاعدة. والصمت مرادف للأزمة والمعاناة. مما يفيد بأن نصوص زرياب تتقاطع مع نصوص عتيق رحيمي من خلال التركيز على الصمت كوسيلة لتمرير مجموعة من الرسائل، خاصة صورة أفغانستان القاتمة.
بصفة عامة، يمكن القول، إن كتابة الصمت حاضرة بشكل كبير في جل النصوص الأفغانية كإشارة للمعاناة المعاشة. وهكذا يصبح الصمت الفضاء المفضل كي يسمع الكاتب أصوات كل من يعانقون الموت بدون أن يقولوا شيئا.
٭ كاتب وباحث مغربي