امتحان الحبّ.. الفلسفي

*د. فتحي المسكيني

ما بين 1925 و1975 تبادل مارتن هيدغر وحنّا آرندت ـ وهما من أقطاب الفلسفة المعاصرة ـ رسائل حبّ فلسفيّة، كان لابدّ أن تتحوّل منذ نشرها إلى وثيقة أخلاقية رائعة على المفارقات الصامتة التي تكتنف المشاعر الإنسانية، ولاسيّما عندما تكون مشاعر مستحيلة أو ممنوعة.

بلا ريب إنّ موضوعة الحبّ قديمة قدم الفلسفة نفسها، حيث خصّص لها أفلاطون محاورتين فلسفيّتين شهيرتين هما «فيدروس» و»المأدبة»، حيث يسرد أسطورة تقول بأنّ الإنسان في أصله كان دائرة لكنّ الإله زوس قد قطعها إلى نصفين، كما نقطع بيضة بشعرة حادة، ومنذئذ ونحن نتيه في العالم بحثاً عن النصف الآخر. وهناك أيضاً تاريخ فلسفي طويل عن الحب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار، مروراً بأسماء كثيرة من قبيل سبينوزا وكيركغارد ونيتشه. ومع ذلك فإنّ رسائل حنّا وهيدغر تحتوي على تجربة فريدة من نوعها. ليس فقط لأنّ العاشقين فيلسوفان بل لأنّ الحبّ غير مسبوق دائماً. إنّه لا يكرّر أحداً. وليس ذلك لأنّه أنانيّ مثل أيّ حيوان فانٍ، بل لأنّه مخترَق دوما من قوة لا يراها ولا يعرفها.

خارج التملّك
قال لها في أوّل رسالة: «لن أستطيع امتلاكك أبدا، لكنّك ستنتمين منذ الآن إلى حياتي» (ص41). يضع هيدغر الحبّ خارج التملّك لكنّه لا يضعه بذلك خارج الانتماء. نحن ننتمي إلى الذين نحبّهم دون أن نستطيع امتلاكهم. وهكذا هو يحرّر معنى الحبّ من تاريخ الرغبة الذي يحوم حوله. هذا التقابل اللطيف بين التملّك والانتماء ليس انفعالاً حزيناً، بل هو نوع غريب من الشكر هو الذي يقود المحبّين إلى توقّع هويات جديدة لأنفسهم تتجاوز طاقتهم. كلّ حبّ كبير هو تمرين على فرح لا يمكن احتماله إلاّ بتشويهه. قال لها: «نودّ أن نحافظ في داخلنا على لقائنا كهديّة… يعني لا يجب أن نتخيّله كصداقة روحية، لم توجد أبداً بين البشر» (ص42). يضعنا هيدغر هنا أمام غموض من نوع خاص: إذْ أنّ ما يتجاوز طاقتنا لا يعني أنّه ليس بشريّاً. ولذلك فإنّ معاملة الحب وكأنّه صداقة روحية ليست من عالم البشر هو تشويه له وليس تسامياً به إلاّ في الظاهر. من يذهب بالحب إلى ما فوق البشر يشوّهه لأنّه يكسر ماهيته البشرية.

قال لها: «لماذا يكون الحبّ فوق طاقة كل الإمكانيات الإنسانية الأخرى ويكون ثقلاً حلواً بالنسبة إلى المحبّ؟ لأنّنا نتحوّل إلى ما نحبّه، لكننا نبقى نحن أنفسنا. ذلك أنّنا نريد أن نشكر من نحب، لكن لا نجد أي شيء كاف لهذا الشكر» (ص43).

الشكر والفرح

إنّ ماهية الحب هي الشكر وليس الفرح. الفرح هو «تحيّة» الحب فقط. يقع الشكر فوق منطقة الرغبة لكنّه ليس غريبا عن عالم البشر. كلّ حب يوسّع حدود الإنسانية التي تلقّاها. لكنّه لا يفعل ذلك بأيّ نوع من المعاناة أو الحزن. لا يوجد حبّ حزين إلاّ عَرَضاً. فهو يحمل معه دوماً انتصاره الوحيد: أنّه يجد متعة فريدة في ما يتجاوز طاقته. ولذلك هو في ماهيته نوع خاص من الشكر لمن نحبّ. وذلك أنّ المحبوب هو بالتخصيص ذاك الذي مكّننا من أن نتحوّل إلى كائن آخر لا ينطوي على أيّة غربة إزاءنا. كائن آخر لا نمتلكه لكنّه ينتمي إلينا بلا رجعة. لا نحبّ حقّا إلاّ عندما نتحوّل إلى ما نحبّه، لكننا مع ذلك لا نشعر بأيّة غربة عنّا. وحده الشكر يمكنه أن يحوّلنا إلى من نحبّ دون أن يغادرنا، دون أن نغادر أنفسنا. بل ربما كان الحب هو نمط الحراسة الفريدة من نوعها لما نريد أن نكون. قال لها: «لا يمكننا الشكر إلاّ بذواتنا» (نفسه). الحب استعمال غريب لذواتنا من أجل أن نشكر ذلك الآخر الذي نجح في محو حدودنا معه.

قال: «ذلك إنّ حضور الآخر الذي يدخل حياتنا هو أمر لا يمكن لأيّة روح السيطرة عليه. فالقدر الإنساني يعطي قدراً إنسانياً، ومسؤولية الحب الحقيقي هي السهر على يقظة هذا ووهْبُ الذات كما كان في اليوم الأول». (نفسه).
بين الحب والآخر هناك دوما تشابك غامض. يبدو الآخر دوما متأخّرا بوجه ما عنّا، كأنّه وراءنا وهو واقف أمامنا. هذا الحضور يجعله عصيّا على السيطرة. كيف نقبض بعيوننا على حضور يبقى خارج ذاتنا. وفي الحقيقة لا يقف الآخر خارجنا حين يدخل حياتنا. ليس المشكل متعلقاً بالمكان بل بالزمان: إنّ الآخر حضور أو لا يكون. وهذا الحضور يشمل الغياب أيضاً: إنّ غياب من نحبّ هو جزء لا يتجزّأ من حضوره في حياتنا. يشير هيدغر هنا إلى أمرين متضافرين: الحب لا معنى له من دون آخر، لكنّنا لا يمكننا الشكر إلاّ بذواتنا.

الامتلاك والانتماء

كان الآخر لدى هيدغر هنا امرأة. إنّها حنّا أرندت. وهي فيلسوفة، وعليه أن يحبّها بما هي كذلك. هو لم يكن يرغب في امتلاكها، لكنّه جعلها تنتمي إليه بلا رجعة. ولذلك هو لم يرَ أفضل تحيّة لها سوى أن يقول لها دوما «افرحي» (ص41). الفرح تحيّة المحبّين. ليس ذلك لأنّ الفرح متعة بشرية، بل لأنّ الفرح هو نوع استثنائي من القدرة على العطاء. قال لها: «عندما تفرحين، تصبحين المرأة التي تعطي السرور» (نفسه). لا ينبغي أن نشعر هنا بأيّة خيبة أمل من «السرور». سرور المرأة نوع من الوفاء لنفسها وليس تهمة. إنّه سرور الانتماء إلى من نحب، وليس متعة الأخذ فقط.

إنّ طرافة إشارات هيدغر عن الحب هي كونها تجريباً عميقاً لخواطره الفلسفية. هي رسائل موجّهة إلى قارئ استثنائي، إلى امرأة فيلسوفة، وليس إلى أنثى فضولية. إنّ هيدغر يعامل رسالة الحب وكأنّها خلوة ميتافيزيقية. وهو يحبّ لأنّ الحب من أدب الكينونة. وليس مجرّد احتمال فضولي للفرق الأخلاقي أو العاطفي بين الجنسين في أيّ عصر. إنّه يمتحن قدرة الحب على احتمال أسئلة الفلسفة من الداخل، نعني من معين قلبين متفلسفين، وليس فقط محبّين. ولذلك قال لها: «لا يمكن أن يُعطى نبل الحياة الفكرية الحرة إلاّ للمرأة التي تكون وفيّة لنفسها» (ص44).

ما تشترك فيه الفلسفة مع الحب هو أدب الكينونة. وهيدغر يقدّم هذا الأدب بوصفه تمرينا في الوحدة. من يتفلسف مثل من يحب هو يتدرّب على نوع قاس واستثنائي من الوحدة، نعني من استعمال الذات في حضور آخر لا نراه. وحدها الحياة العامّية تتطلّب حضورَ آخرٍ مرئيّ باستمرار. آخر بسيط يمكن الإمساك به متى رغبنا في ذلك. لكنّ الفلسفة مثل الحب هي حالة أو خطوة خارج المرئي والبسيط والعامي. ومن ثمّ هي تتطلّب دوما جرأة ما. وفي حديثه لها عن «الفتيان» الذين يدرّسهم في صيف 1925 قال لها: «سأهيّئهم لأتمكّن من التجرّؤ على عمل شيء ما» (ص48)، لكنّه سرعان ما أضاف قائلا: «ولابدّ أن يتمّ العمل الحقيقي دائما في خلوة/‏ عزلة التساؤل» (نفسه). إنّ من يتفلسف هو مثل من يحبّ، يتهيّأ لجرأة لا يعرفها. ولذلك هو يحتاج دوما إلى جرعة كافية من الوحدة حتى يحتملها. الحب مثل الفلسفة هو تجربةُ وحدةٍ أو لا يكون. ليست الوحدة فراغاً كسولًا تسكنه الأرواح الفاشلة أو الخائفة؛ بل هو فضاء داخلي جدُّ فسيح للنفوس الحرة. تلك التي لا تجد مساحة حركتها الكافية داخل ما هو عامي أو بسيط أو علني. قال لها: «من الصعب العمل ببساطة في الفلسفة، فكلما أصبحت الأشياء بسيطة، بقيت ملغّزة/‏ مبهمة. ولا يمكنني أن أقنع الجمهور بأن الفلسفة قد تجيب عن أسئلته» (نفسه).

الحاجة إلى الشعر

يقف الحبّ على نفس المسافة التي تقفها الفلسفة إزاء «الجمهور»: هما تجربتان فوق طاقة البشر لكنّهما تنبعان من طبيعة البشر. ولذلك هما تحتاجان إلى وحدة من نوع خاص، حيث يكون الآخر ملغّزا ومبهماً بقدر حضوره.

قال لها: «أعيش كثيرا مع هولدرلين، وأنت قريبة مني في كل مكان» (ص51). كان هيدغر على قناعة مزعجة بأنّ الفيلسوف يحتاج إلى الشعراء حتى يرنو يوماً ما إلى حقل المقدّس، حيث لا يعمل المفهوم، وحيث كل شيء إشارة إلى ما لا يُقال، لكنّه يخاطبنا. ليس كالشعر مقاماً مناسباً لدخول المرأة إلى حياتنا. ولكن وحده الحب يحوّل اللقاء بامرأة إلى قصيدة. القصيدة هي اللامكان بامتياز. يبحث المحبّ كما يبحث الفيلسوف عن اللاّمكان حتى يلتقي بنفسه العميقة.

الظل والحنين

ولذلك حين راسلته هي لأوّل مرة كتبت له عن «الظلّ »، ذاك عنوان الرسالة (ص53). لكنّ موضوع الظلّ هو «الحنين». من يقف في الظل يحكم على نفسه سلفا بأن يشتق ماهيته من الحنين. قالت له: «لا أعني الحنين إلى شيء ما معيّن يجب تحقيقه، بل الحنين الشبيه بالذي يشكّل حياةً ما، قد يكون أساساً لها» (نفسه). تحتاج المرأة إلى حنين بلا مضمون حتى تحتمل الوقوف في الظل. الظلّ طريقة مناسبة «تغطّي بها النظر في ذاتها والدخول في نفسها» (ص54). كأنّ أرندت قد وجدت في هيدغر الشمس التي تمنحها الظلّ الذي تبحث عنه كي تمشي فيه بلا وجل. قالت له: «لقد كانت الشمس في المدينة التي كبرت فيها وكنت متعلقة بها، وكانت هي نفسها غير مهيّأة وسجينة ذاتها… لكنّ كل ما وقع لها سقط على أرضية روحها وبقي معزولا ومغلقاً هناك». (نفسه).

لا يكفي أن تحبّ المرأة كي تخرج من الظل. إنّ مشاعرها تتشكّل بوصفها حنيناً إلى ما تخاف منه أو إلى ما لا يمنح سوى الألم. قالت: «من اللازم شكر أقسى ألم ـ وأكثر من هذا ـ بأن هذا الألم بالضبط هو ما هو جدير ومفيد» (ص55). ليس ألماً من شيء معيّن، بل هو ألم من نوع خاص من «الغربة»: يبدو الحب دوما بمثابة حنين إلى موطن لا وجود له. هو يقع على مفترق شعوريْن هما اللّذان يشكّلان حالة الظل لدى أرندت: من جهة، أنّها «لن تنتمي لأي كان ولن تنتمي أبدا» (نفسه)؛ ومن جهة، أنّ «هناك خوف متوحش يدفعها للاختباء ولم تكن تستطيع حماية نفسها ولم تكن ترغب في ذلك» (نفسه). ليس الحب انتصارا على أحد؛ كما أنّه ليس هزيمة أمام أيّ كان. هو يبدو لها تارة بوصفه عبارة عن «الخوف من الوجود بعامة» (ص56)؛ وطورا هو إمكانية محتملة لأن «تعرف روحها تحت سماء أخرى» (ص57).

كانت إجابة هيدغر هي: «إنّك تدركين أن المشيء في (الظل) لا يمكن إلا حيثما كانت الشمس، وهذا هو أساس روحك. فقد أصبحت بالنسبة إليّ في مركز وجودك قريبة مني كقوة فاعلة في حياتي إلى الأبد» (ص58). – قد يبدو كلام هيدغر جندريّا، حيث يعتقد الرجل دوما أنّه «أساس» المرأة و»مركز» وجودها. لكنّ تلميح هيدغر من منطقة أخرى: إنّ ما يشغله هو أن يكون الحب جزءًا من ماهية تفكيره. أن ينتمي الحب إلى فلسفته من الداخل بلا رجعة. إنّ ما يزعج الفيلسوف هو أن يقترب الحب أكثر من اللازم من منطقة الحقيقة. وذلك يعني عندئذ أن يقترب الظلّ من شمسه أكثر من اللازم ويهدّد ماهيتها.

الحب والانتظار

لذلك كان هيدغر يقاوم هذا الاقتراب المخيف بين الحب والحقيقة بتحويله إلى نوع مريح من «الانتظار». الحب هو تجربةُ انتظارِ أنفسنا. حين نحبّ لا نفعل غير أن ننتظر أنفسنا في اللامكان. قال لها: «إنّ إمكانية الانتظار بالنسبة للمحب هي أجمل شيء، ذلك أنّ المحب يكون فيها (حضورا)/‏ حاضرا»(ص59). الحب نوع من الانتظار لما وقع لنا منذ زمن طويل. وحده الانتظار يجعل الغائب حاضراً أي موجوداً في نوع خاص من الوجود. من يحب ينتظر «الوجود». قال لها: «وهل يمكنك التفكير في شيء أكبر من: انتظار هذا الوجود أزليّاً؟» (ص60).

لا يعِدنا الحب بأكثر من معنى وجودنا؛ لكنّنا لا نقبل دوما بأن نكون ما نحن. ما يريده الحب هو «الوجود معاً فقط» (ص61). وهكذا يمكن تعريف الحب بأنّه تقنية انتظار تضيف اللقاء إلى الموجودات. لا يكفي أن توجد الموجودات حتى تكون معاً. وحده الحب يسمح للبشر بأن يجعلوا الموجودات موجودة «معاً»: الحب يضيف «العالم» إلى الموجودات. قال لها: «تركُ ما وقع يقع هو بالنسبة لنا فرحة حقيقية ومصدر كل يوم في الحياة» (نفسه). العالم هو تركُ ما وقع يقع. يحتاج البشر إلى السماح للموجودات بأن تكون معا. وليس لهم من حالة مناسبة لمساعدة العالم على التشكّل مثل الحب. كلّ من يحبّ يصنع لقاءً أكبر منه. لقاء يجعل كلّ «يوم» لقاء مع العالم. لكن لا أحد بإمكانه أن يملك يومه. قال لها: «إنّ يومي أكبر مني بكثير» (ص62).

وهكذا لا معنى لحبّ يظلّ حبيس ما هو بشري. ولا يتحوّل إلى «صفح» من نوع «غير أرضي» ولكن لا يعيشه إلاّ البشر. من يحبّ يصفح عن الموجودات. لكنّه لا يستطيع ذلك إلاّ بقدر ما يختلط الجمال والجلال في قلب ما. قال لها: «في النظرات الكبيرة لعينيك… أتعرّف… في وجهك غير الأرضي بأنّ هناك صفحاً كبيراً في روحك وبأنك تسهرين عليه بعناية» (ص63). وحده ما هو مقدّس يمكن أن يصفح. ولذلك لا معنى لحبّ غير مقدّس، أي لا يختلط فيه الجميل والجليل. قال لها: «إن الجلال ينطبق على الحياة ويعطي لها حجمها» (نفسه).

وفي عديد المرات يصف هيدغر حبّ أرندت له بأنّه «هدية» (ص60، 66) بل بأنّها «آخر هدية» (ص63). هذا التركيز على معنى الهدية يعني أنّ الحب ليس مقصوداً ولا إلزاميّاً أبدا. إنّه صدفةُ نفسِه. لكنّ ذلك لا يعني أنّه شيء عَرَضي في حياة من يحب. بل أنّه ينتمي إلى ضرورة أعلى من العلاقة بين الجنسين. من يحب يعود إلى ماهيته. ولا يدين بذلك إلى أحد. قال لها: «كون المرء محبّا هو أن يكون موغلاً في أعمق وجوده… إنّني أحبّك، تعني أريد أن تكوني ماهيتك/‏ أن تكوني ما أنت» (ص64). الحبّ يحرّر ماهية المحبوب ولا يغتصبها. هو ينتمي ولا يتملّك. هو تركُ الكينونة تأخذ مجراها. ولا يعترض على أيّ شيء. بعض الناس يحتاج إلى التملّك، لكنّه يسيء الطريق إلى الحب.

الفيلسوف القلِق

مارتن هيدغر فيلسوف ألماني (26 سبتمبر 1889 – 26 مايو 1976)، ولد جنوب ألمانيا، درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف إدموند هوسرل مؤسس الظاهريات، ثم أصبح أستاذاً فيها عام 1928. وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. ومن أبرز مؤلفاته: الوجود والزمان (1927)، دروب مُوصَدة (1950)، ما الذي يُسَمَّى فكراً (1954)، المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا (1961)، نداء الحقيقة، في ماهية الحرية الإنسانية (1982)، نيتشه (1983).

تميز هيدغر بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين ومن أهمها الوجودية، التأويليات، فلسفة النقض أو التفكيكية، ما بعد الحداثة. ومن أهم إنجازاته أنه أعاد توجيه الفلسفة الغربية بعيداً عن الأسئلة الميتافيزيقية واللاهوتية والأسئلة الإبستمولوجية، ليطرح عوضاً عنها أسئلة نظرية الوجود (الأنطولوجيا)، وهي أسئلة تتركز أساساً على معنى الكينونة (Dasein). ويتهمه كثير من الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين بمعاداة السامية أو على الأقل يلومونه على انتمائه خلال فترة معينة للحزب النازي الألماني.

كانت تجربة مارتن هيدغر في القلق والتي كشفت له لا الوجود وإنما العدم، أساسية بشكل لافت، فالقلق الذي عايشه هيدغر له صلة بفكرة ال عدم. منشأ القلق عند هيدغر ليس الشعور بالذنب بعد ارتكاب خطيئةٍ ما كما عند كيركغور، وإنما منشأه هو الخوف من العدم، فيكون مصدره هو الوجود.

المنظّرة السياسية

حنّا آرندت (14 أكتوبر 1906 – 4 ديسمبر 1975)، كانت منظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل ألماني. على الرغم من أنه كثيراً ما تم وصفها بالفيلسوفة، فإنها كانت دائماً ترفض هذه العلامة على أساس أن الفلسفة تتعاطى مع «الإنسان في صيغة المفرد». وبدلاً عن ذلك وصفت نفسها بالمنظّرة السياسية، لأن عملها يركز على كون «البشر، لا الإنسان الفرد، يعيشون على الأرض ويسكنون العالم».

ولدت حنّا لعائلة علمانية من يهود ألمانيا في مدينة ليندن (وهي الآن جزء من هانوفر)، ونشأت في كونسبرج وبرلين. وتعتبر محطات سيرتها الذاتية بحد ذاتها تجسيداً لأهم أحداث وخصائص هذا القرن الدموي. درست الفلسفة في جامعة ماربورغ مع مارتن هايدغر، والذي دخلت معه في علاقة طويلة، رومانسية وعاصفة.

في صيف عام 1933، اعتقلت المخابرات النازية حنّا أرندت، ثم أطلقت سراحها فيما بعد. ثم نجحت هذه «اليهودية الألمانية المطاردة من قبل النازيين»، على حد تعبيرها، في الهروب من براثن النازية إلى باريس ثم إلى نيويورك، حيث عملت صحفية، ومراجعة لغوية، ومحاضرة جامعية، وبدأت عملها السياسي الحقيقي.

وفيما بعد، وضعت أرندت كل طاقتها وموهبتها في خدمة المنظمات اليهودية العاملة في نيويورك، التي أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من يهود أوروبا، والعمل على إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين التاريخية. لكنها انفصلت عن هذه المنظمات لاحقاً.

…………………………………..

هامش:

– Hannah Arendt /‏ Martin Heidegger, Briefe 1925-1975 (Vittorio klostermann GmbH, Frankfurt am Main, 2004.

تمّت ترجمة هذه الرسائل إلى العربية: حنّة أرندت – مارتن هيدغر، رسائل. حنّة أرندت ومارتن هيدغر 1925 ـ 1975. تعريب وتقديم حميد لشهب (بيروت: دار جداول، 2014). ملاحظة: ترد جميع الإحالات على هذا الكتاب داخل المتن.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *