(2) فرناندو بيسوا: لا ليست الأشياء؛ بل إحساسنا بالأشياء
بحكم عمل والدي، تنقّلتُ منذُ طفولتي بين المُدُن. سكنتُ بيوتًا غريبة، وهجرتها بلا دموعٍ أو تأنيب ضمير. أكثرها رسوخًا في ذاكرتي بيتٌ أرضيّ مُحاط بأسوارٍ عالية تمنعُ تلصّص الغرباء على رسومات الطّفلة التي لا تتجاوز قامتها طول شجيرات مِكنسة الجنّة المتناثرة في حديقته. أقربها إلى قلبي بيتٌ سماويّ مُحاط بأسوارٍ واطئّة تسمحُ بتلصُّصِ العشّاق على قصائد الفتاة التي لا تتجاوز حرّيّتها حدود فتحة صدر فستان عرسها الأبيض.
لاحقًا، وبانتهاء رحلة والدي الوظيفيّة، لم أتمكَّن من الاستقرار في بيتٍ واحد مثل بقيّة أفراد العائلة، إذ وضعني القدر مرّةً تلو الأخرى بمواجهة بيوت وحيدة مجهولة النَّسَب تبحث عن اعترافٍ ما، أو رفقةٍ مؤقّتة.
لعنات البيوت وبركاتها، مسرّاتها وتعاساتها، توجّهاتها الشّمسيّة وتقلّباتها المزاجيّة، كلّها وأكثر، صارت تحت تصرّفي لحظة سلّمتني مفاتيح أبوابها، وباحَت لي برموز لغتها السّرّيّة.
(3) لطيفة الزيات؛ بيت الموت
هذا الشَّغَف بتتبّع سير البيوت الذّاتيّة اختبرته الرّوائيّة والكاتبة والمناضلة المصريّة لطيفة الزيّات (1923- 1996)، فقد كشفت أوراقها الخاصّة عن حياةٍ حافلة بالرّحيل وتبعاته، إذ تنقّلت بين الكثير من المساكن، كانت إقامتها تطول فيها لمددٍ تتراوح ما بين اليوم الواحد والعديد من السنين، كما سكنت السِّجن لفترةٍ من حياتها بعد مطاردةٍ من البوليس السرّي لزوجها الأوّل، أو لها، أو لكليهما، دفعتها خلال عاميّ 1948-1949 إلى التنقّل ليلا بين خمسة منازل؛ آخرها بيتها الذي شمّعتهُ السّلطات في صحراء سيدي بشر.
كما وسم الرّحيل مرحلة زواجها الثّاني حيث كان المبرّر على لسان زوجها:”أريد لك الأفضل والأحسن يا حبيبتي”، وبكت حبيبته وهما يغادران المسكن الأوّل وهي تدرك ألا أفضل ينتظرها، وحين غادرت بيته أخيرا في عام 1956 عائدة إلى بيت أهلها مثبتة أنّ مجرى حياتها كرويّ، كانت قد تعلَّمت أنّهُ- زوجها الثّاني- استقرَّ فقط عندما وجد المنزل الأكثر إبهارًا للآخرين.
تعلّمت الأديبة المصريَّة لغة البيوت وفكّت أسرار رموزها الغامضة، فها هي تدوّن تأمّلاتها حول البيت القديم الذي ولدت فيه- وهو البيت الذي ورثه جدّها عن أبيه- مؤكِّدة أنّه يرتبط في وجدانها بالموت؛ ليس موتًا مادّيًّا فهي لم تواجهه فيه وجهًا لوجه ولو حتّى مرّة واحدة: ” كانَ الموت في البيت القديم ذاته، ربما لأنّ المبنى لم يكُن بيتًا بل نصبًا تذكاريًّا لبيت، وشاهدًا كشواهد القبور على حقبةٍ رماديَّة انتهت بلا رجعة”.
الغريب أنّ لطيفة تعترف إنّها حين تفكّر في البيت بمعنى البيت، تندرج كل هذه المساكن في ذهنها كمجرّد منازل، وتتبقَّى حقيقة أنَّه لم يكن لها سوى بيتين؛ البيت القديم بصفته قدرها وميراثها، وبيت صحراء سيدي بشر لأنّهُ صنعها واختيارها، وربما لأن الاثنين شكّلا جزءًا لا يتجزّأ من كيانها، وربما لأنّها انتمت إلى الاثنين بنفس المقدار، ولم تتوصّل إلى ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحًا نهائيًّا، اختلَّ سير حياتها كما تقول، أو استقام كما تقول نصوصها الإبداعية منذ الباب المفتوح(1960) إلى الرجل الذي عرف تهمته (1995) مرورًا بالشَّيخوخة وقصص أخرى (1985)، وحملة تفتيش: أوراق شخصيّة (1992)، وصاحب البيت (1994)، وبيع وشراء (1994).
(4) الشِّعر من نافذة الطّابق الخامس
الفترة الذهبيّة والأكثر غزارة ونقاءً للشّعر عشتُها في بيت “دوبلكس” صغير بأرضيّةٍ خشبيّة وسلّم داخليّ قصير، تتقدّمهُ فسحة خارجيّة بحجم غرفة طفل تسمّى حديقة. كانَ الشِّعر يلاحقني مثل ظلّي؛ يندسّ تحت الملاءات والأغطية مخلّفًا آثار أقدامه داخل أحلامي الليليّة. يضيف كميّات غير صحيّة من الفلفل الحارّ إلى وجبات طعامنا الأساسيّة. يسكب الكلور في سلّة الغسيل المكوّم. يرسم خطوطًا متعرّجة بقلم أحمر الشّفاه على أسطح المرايا. كانَ الشِّعر، في بيت الدّوبلكس، ينمو بحيويّة طفلٍ في السّادسة من عمره.
ولأنّ طاولة الكتابة تقع في الطّابق العلويّ، خيّل إليّ في لحظة طمع شعريّة، أنَّ طفل السّادسة يستحقّ جرعة من الارتفاعات الشّاهقة، وانبثقت عنها فكرة الانتقال إلى بيتٍ تدلدلُ النّجوم سيقانها فيه كل ليلة، لكنّ البيت المعلّق الجديد أظهر، ومنذ الأيّام الأولى، تمنّعًا وعداءً غير مبرّر للشّعر ومجازاته، قبل أن يسقط الأخير- بشبهةٍ جنائيّة- من نافذة الطّابق الخامس، عندها أدركتُ بأنَّ الارتفاعات مهما تطاولت، تقف عاجزة أمام سوء أخلاق البيوت اللاشعريّة.
(5) مارغريت دوراس: ورغم كلّ شيء، ففي مكانٍ من العالم نصنعُ الكُتُب
العلاقة التي ربطت الأديبة الفرنسيّة مارغريت دوراس (1914- 1996) بتفاصيل بيتها في نوفل شاتو، فريدة ومن النّوع الذي يقلب المعادلة؛ إذ تقول في مذكّراتها، إنَّ ملكيّة هذا البيت- وكانت قد اشترته بمال حقوق السّينما عن رواية غاليمار (1950)- سابقة لجنون الكتابة:” هذا الضّرب من البركان، أعتقد أنّ لهذا البيت أثرًا فيه”؛ حتى أنّها رفضت حقيقة أنّه لَم يُكتَب فيه قبل مجيئها، الأمر الذي دفعها إلى التقصّي حول تاريخه؛ سألَتْ مختار القرية. سألَت الجيران، والتّجار. أبدًا لم يحدث. هاتَفَت المحافظة في فرساي، أكثر من مرَّة، كي تسأل عمّن سكن قبلها في هذا البيت. في سجِّل عائلات السّاكنين وأسمائهم ومهنهم. لم تعثر على أيّ كاتب، بينما كان بالوسع أن تكون أسماء كتّاب.
بيتُ الكتابةِ حارس وحدتها المُقدَّسة؛ الوحدة التي لا نجدها، بل نصنعها، وهي صنعتها لأنّها قرَّرت أنّ هذا المكان يليق بها لتكون وحيدة، ومن أجل كتابة كتبها، ولقد كانت وحيدة في هذا البيت، أغلَقَت على نفسها فيه، وشعرَت أيضًا بالخوف، ثمَّ حصل أنّها عشقته، فأصبحَ بيت الكتابة، مِن هُنا خرجت كتبها، مِن هذا الضّوء، وتلكَ الحديقة. مِنَ الضّوء الظَّليل للبركة، لقد احتاجتُ إلى عشرين عامًا لتكتب ما سجّلتهُ هُنا.
وتظل حقيقة مشوّقة أخيرة، تهمسُ بكلماتها العاشقة دوراس:”لا يوجد بيت وحيد، هكذا، كيفما اتّفق، لا بدّ مِن وقتٍ حوله، من ناس، وحكايات، وتحوّلات؛ أشياء من قبيل الزّواج، أو موت ذبابة”.
_________
*العدد 62 من مجلة الإمارات الثقافية.