*حسن داوود
كنا نزوره في بيته في صيدا، أو نتمشّى معه أنا والأصحاب هناك في شارع الدلاعة، كما كان يسميه، أو إن ابتعدنا، قد نصل إلى شارع المدينة العريض. وهذه أيضا، مسافة قليلة على أي حال. ذاك أن بسام حجار لم يكن يحبّ أن يبتعد. أتذكّره فرحا ونحن هناك على الطريق، وجميلا بعينيه الواسعتين وشاربيه اللذين كان يرفع طرفيهما قليلا إلى الأعلى على طريقة ما كان يفعل الرجال القديمون. على الطريق إذن، في صيدا، كنا نشعر بزهو من خرج إلى العالم من الكتب. نحسّ، نحن الأربعة أو الخمسة، أننا مغتبطون بما عرفنا أو بما كتبنا، وأننا متشاركون في هذه الغبطة، ومتوادّون. كان الأفق عريضا أمامنا، مضيئا، بل وساطعا. لكن بسام كان يستعجل انتهاء النزهة مع ذلك. يقول هيا بنا نرجع إلى البيت.
لا يحبّ أن يبتعد. بيروت مثلا بعيدة عن صيدا بعدا لا يُحتمل. وإذ أجيء إلى تذكّر بسام حجار في زمن الشباب ذاك، إذ أروح أفتش في ذاكرتي، لا أجده ماشيا في بيروت، أو جالسا في أحد مقاهيها، أو في واحد من بيوتها. صيدا فقط، بل بيته في صيدا الذي، لطول إقامته فيه، وإلفته غرفه، أنطقَ صمته بالقصائد التي كتبها عنه. أكثر ما أذكر مما كتبه عن البيت الكولوار الطويل، الخالي إلا من بلاطه وجداريه المتقابلين، وربما يحصل أن يُسمع في تذكّر ذلك الشعر حفيفَ خطوات، أو أن يُتخيّل، ظلٌّ متحرّك فيه، ظلّ بسام المتردّد إلى أي الغرف يدخل.
أما في نهاية ذلك الكولوار فهناك المكتبة التي كان يقضي فيها أكثر وقته. مَجلسُنا، حين نزوره، يكون هناك. نحن على الكراسي وهو وراء الطاولة الحاضرة أبدا لاستئنافه العمل. أقلام كثيرة، أكثرها أقلام رصاص، مبريّة دائما، إذ كانت المبراة قريبة من يده وكثيرا ما تُستعمل. الممحاة كذلك، إذ أنه يؤثر الكتابة بالقلم الرصاص، ليس لسهولة محو ما يُخَطُّ به قلم الرصاص، بل لأن بسام حجار، كما كنت أحسب، يستمرئ ذلك الانشغال المتواصل باستخدام تلك الأدوات الصغيرة. يمحو ثم يبري ثم يكتب ثم يعود فيمحو. ربما كان هذا التشاغل مناسبا لوتيرته في التفكير والكتابة، وذلك على طريقة ما كان قاله جان جينيه عن زمن الكتابة الجميل، ذاك الذي كان على الكاتب فيه أن يغطّ ريشته بالحبر، كلما كتب جملة أو جملتين.
وكان قلم الرصاص، مع ملحقاته، مناسبا لاستغراقه في الترجمة، حيث المحو هنا يمثّل إعادات نظر متكرّرة بما تكتب اليد السريعة. وكنا، نحن أصدقاءه، نقول إن سرعته في الترجمة تشبه سرعة القراءة، أو نهم القراءة عند القارئ المفتون بما يقرأ. كما كنا نتساءل كيف يمكن له أن يجمع بين السرعة في الترجمة وهذه الصياغة، الدقيقة والجميلة معا. في أحيان كان يبدو ذلك مذهلا، كأن يترجم كتابا في شهر مثلا، ولتبيّن كم كانت الحصيلة رائعة يكفي أن نقرأ صفحات من ترجمته لكتاب إليكسيس دو توكفيل عن الديمقراطية في أمريكا، الكتاب المرجع في حقول علمية عدّة، والمكتوب بنصيّة أدبية رفيعة تميّز بها أسلوب ذلك الرجل.
كثيرا ما يخطر لي أن أُخرج كتاب دوتوكفيل هذا من رفّه على المكتبة، اشتياقا لرفعة لغته ولسيولتها، واستحضارا لبهجة بسام في ما كان يحّلق، كما طائرة على علوّ مرتفع بما يكفي، لكي يُرى العالم قريبا لكن من الأعلى، متنقلا فوق جغرافيا أمعن دو توكفيل في وصف تفاصيلها. ذلك الشعور بالانسياب وحب القراءة هو ما تأخذنا إليه ترجمة بسام. فلنتذكّر ما قرأناه من روايات جاءنا بها قلمه. ولنستعد الآن ما كنا نقوله، مع صدور كل رواية جديدة: لولا بسام حجار لكانت متابعتنا لروايات العالم ناقصة. ذاك أنه كان يكتشف العمل الذي يترجمه اكتشافا. وكان يفاجئ في اهتدائه إلى ما اكتشفه. هو الذي كان يؤثر العزلة في بيته، وقلما تمكّنا من انتزاعه منه، كان يأتي لنا بكل جديد، ويطلق لنا أسماء جديدة لكتاب سيصبحون، بعد ترجمته لهم، اكتشافَنا نحن. وفي الجريدة، حين كنا نعمل معا، كان يفاجئنا أيضا باتساع ثقافته إلى أنواع فنون كنا نظنّ أنها ليست في المجال الذي يمكن أن يخوض فيه كاره الخروج من بيته.
أن يقترح علينا آنذاك أن نحتفل، مثلا، بمناسبة تعلّقت بمجلة «بلاي بوي»، أو أن يقارن بين الكتب التي كتبت عن حياة مارلين مونرو، وأن يتابع الرحلات إلى الفضاء الخارجي إلخ، ذلك ما كنا نظنه غير متّفق مع عقل صوفيّ، وهو، بسام، كان مولعا بالمتصوّفة وكتبهم. كم كان اندهاشه بالموضة والأزياء وما قد يبدو زينة العالم مفارقا لتوحده الشعري الأكثر عمقا… لكننا سنترك الكلام عن شعر بسام، الذي هو بدعته وجوهرته، إلى لقاء لنا آخر.
*السطور أعلاه كُتبت لذكرى الراحل بسام حجار ولمناسبة إصدار كتاب «أزاهير الخراب» لباتريك موديانو بالعربية. الشاعر الراحل بسام حجار الذي أغنى المكتبة العربية بترجمة عشرات الروايات وكتب مرجعية أخرى كان أنجز ترجمة رواية موديانو قبيل رحيله في 2009، لكن مخطوطها ظلّ منتظرا بين ما تركه من أوراق. منذ أيام صدرت الرواية عن دار «نوفل» في بيروت.
_______
*القدس العربي