أنت يا قدسُ

خاص- ثقافات

*طلال حمّاد

(1)

وجهٌ
من ورود المساءِ
في العيون التي
تُحدّق في الأفق المسيّج
بالأسلاك
ومن وهج الصباح
في قلوبٍ تقاوم الأحزانَ فيها
والجراح
ومن قُبُلاتٍ مخضّبة
بدم الفداءِ المعبّأ
في صواعق الأرواح
وجْهُكِ

عُنُقٌ
من فراشات الحرير المُطرّز
ومن قوارير العقيقِ
ومن عَسَلٍ رائقٍ
في أكاليلَ من طيبٍ ومن عنبَرٍ فوّاح
على قبرِ شَهيدٍ
في تُرابِك المقدّسِ
عُنْقُكِ

صدرٌ
من حنطةٍ الحقولِ
وقد مدّت ضفائرَها
على غَسَقِ المُروجِ الشاسعة
من الماءِ.. إلى الماء
ومن باء الكلامِ.. إلى الياء
ومن الألِفِ.. ثالثةً ورابعة
وخامسةً
وربّما سابعة
من كنعان الأوّل
قبل الميلادِ
إلى آخِرِ نُطفةٍ
في عُروق الزمانِ
ومن كنوزٍ مُخبّأةٍ
في كتابٍ
مودَعٍ
في خزائن الروح
والتُحفِ الثمينة
وفي فسيفساء الذاكرة
وفي إجاصتينِ
تقطُرانِ حليباً
إلى ما بعد الفطامِ
وقبل انتفاض الجسد
ومن حنانٍ
في وسائدَ من قُرُنفُلٍ وياسمين
صنعتها يداكِ
ليديّ الموزّعتين في المنافي
والمتقاطعتينِ
على صليب الحرائِقِ
في شظايا النفسِ المبعثرَةِ
في البلادِ
صدرُكِ

بطنٌ
واحةٌ من ينابيع مرمريّة
أو مرايا
مسحورةٍ
تحكي حكاياتٍ
من دواوين القرى القديمةِ
ومرسومةٍ
على أباريق الزيتِ
وأزهار اللّوز الشماليّ
والزعتر البلديّ
والعنبر
وإنْ شئتَ فهو كرمةٌ من نوافذٍ معتّقةٍ
في خوابي الطفولة
ومن دروبٍ أدمنت
دنان الشباب
وفَوْحَها
وأحياءٍ تشرَبُ ـــــ من مئات السنينِ ــــ
من أقداح الكهولة الحكيمة
حكمة الديمومة
والتكاثُرِ
وضيعةِ من أناشيدٍ
وصُوَرْ
وأصدقاءٍ يجيئونَ في آخر اللّيلِ
يرسمونَ معاً
الاحجياتِ على عتبات العمر
وصديقاتٍ بقمصانٍ من مزهريّاتٍ
وقناديلُ فرح
مضاءةٍ في عتمة الدرب المؤدّي
إلى منابع الذاكرة
ومدرسةٍ
تُعلّمنا اللّغاتَ
وأنّ الأرضَ للسفر
فلا تطأ قَدَمٌ قَدَماً
ولا تقتُلُ نفسٌ أخرى
ومعالِمَ
هي البلادُ والعَرَباتُ والمذياع
ومناديل الوداع
وأحلامُ الراحلينَ إلى أعالي البحارِ
والقادمينَ من الأوجاع
وحضنُ أمّي
ومدّخراتُ أبي
وأشيائي الصغيرَةَ
من رحلة التيه
عبر البلادِ
وفي العرباتِ
وأحلامِ الآخرينَ
والدمى المُتحرّكة
والعصافيرِ التي تسكُنُ خاصرتي
والنساءِ اللواتي
يشتَهينَ الموزَ والسفرجَلَ
والخمرَ المعتَّقَ
في دمي
ويأتينَ ثُمّ يمضينَ
مثلَ نسمةٍ على شاطئ البَحْرِ
وفراشَةٍ تبحَثُ عن رحيق الزهرِ
وتهرُبُ من أصابعي
يأتينَ فيشتَعِلُ الماءُ في جذور البنفسج
وينصرفنَ عنّي
يغتَسلنَ من بذور العشقِ
مثل عرائس البحرِ في الحكايات الجميلة
بماء الورد المُقطّر
وأغاني المطر
بطْنُكِ

(2)

وأنت
أنت يا قدسُ
أنت كلّ شيءٍ تبقّى
من حطام الأزمنة
في أضلاعنا
ومن ركام الأمكنة
في أعصابنا
وهل تبقّى
في أديم أجسادنا
سوى حرائق الغضب
وكيف يا قدسُ
لا نغضب
وأنت كلّ ما تبقّى
من نسيج الذاكرة
في الخارطة؟
” باب الحديد” هنا
معذّبٌ
في أضلُعي
و”حبسُ الرباط” الذي
مرّ حرّاً
من لغتي القديمة
إلى ساحة الفداء والمقاومة
مجلسي
و”شارع الواد” المستحمّ في “عين الشفاء”
قبل أن يُسمّم الماءُ
ويختنق الهواءُ
بغاز القنابل والكوكايين
و”باب السلسلة” المصادر
من خزائن التاريخ
والمكتبات القديمة
و”دير العدس” الذي
يجمع الهلال إلى الصليب
كما يُجمعُ العدسُ إلى الأرزّ
في طبق الفقراء
دون شكوى لأحد
ودرب الصليب طريقُ آلامي
من أوّل الخيانة
في “العشاء الأخير”
إلى جلجلة القيامة
مهدي ومدرستي
و”باب دمشق”
عامود ذاكرتي
و”خان الزيت”
خاني وقنديل زيتي
و”الباشورة”
قبل أن يسلبها الغزاةُ الزاحفونَ
كالتتار
على طفولتي
من شرايين دمي
تظلّلني
من عداءات اللغة الهجينة
و”باب القيامة”
والقبر المقدّس
في كنيسة الروح
والمسجد الأقصى
القبلة الأولى
وكعبة الأسير
وهو يرنو
إلى من أسرى
بعبده ليلا
وصدر أمي
أحنّ إليه، وتحرمني منه التصاريح
والمعابر
والحواجز
والمستوطنات الغريبة
وقبر أبي، هل يضمّني
بين ذراعيه، ليُدفئني
باعدتنا المنافي، متّ في الغياب يا أبي
بكى، عندما جاءه الموتُ
هل تبكي من الموت، يا أبتي؟
أبكي أنّني لن أراكَ، قالَ أبي
وراح مسافراً
في تُراب الوطن
دوني
كلّ ذا، متحفي
ومكتبتي
وتاريخ أجدادي
وعينُ الماءِ
والمصباح اليدويُّ
ومنشوري السرّيُ
والموعد الأوَّلُ
والقصائد الأولى
في بيتنا القديمِ
بيتُنا المُحاصَرُ الآنَ
بجحافل القادمين من أذيال الخرافات الهجينة
على عربات التكنولوجيا القديمة
من رفات الإيديولوجيا القديمة
وأحلام الغزاة المسكونةِ
بشهوات القتْلِ الجماعيّ
والغنائم الثمينة
فيا أيّها العالم الجديدُ
أهذا هُوَ العالم الجديدُ؟
يقفُ المحاصرون الآنَ،
والنّاجونَ من حروب الإبادة
منذ نشأة التاريخِ
في “يبوس” الأوّلين
و”أورُسالِمَ”، و” قديتسَ”، و”إيليّا كابيتولينا”
و”البيت المقدّس” في أخبار اللاحقين
يقفون الآنَ
في الخندق الأخيرِ
لصدّ الغزاة الحالمين
بسيرة الطّغاة الأقدمين
والملوك الغابرين
فكيف يا “أورشليم”،
مرّة أخرى
ستنهضين
فوق أعناق الضحايا
قتلى ومبعدين
في مخيّمات الموت واللاجئين
باسم العالم القديم
في العالم الجديد؟

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *