يُمكنك أنْ تَكُون هنَا وهنَاك

خاص-ثقافات

سيومي خليل

تخيل أنَّك علقت فجأة في أَحد الكرَاسي الدوارة التي توجَد في السِّرك . ذهبتُ لتَقَضي مساءك الطَّويل في ساحة السرك . شاهدت الأطفال وهم يَتَقافزون هنا وهنَاك ، ولمللَك الشَّديد ذلك المسَاء فكرت أنْ تَركب كرسيا دوارا. اشتريت تذكرة ، وانتبهت أنك الوَحيد في هذه اللعبة الدوارة . أركبك العَامل ، وأغلق عليك الأبواب التي تُحيط بالكُرسي ، وظلت تلك الفتحة التي يَرى منها الركاب المدينة وهم معلقون في السماء . أحيانَا تزود هذه الكراسي بجهاز رُؤية عنْ بعد ..إذن تخيل أن الكرسي الذي جلست عليه به هذا المنظار . تَحركت الآلة صعودا ونزولاً .كنت ترى مناظر المدينة من الجهاز المثبت على الكرسي . عدت إلى الصغر ،وأَحسَست أنَّ مَللك بدأ يخف . انتبهْت إلى أن الآلة توقفت . انتظرت أن يفتح العامل عليك الأبواب المحيطة بالكرسي . لسبب ما لم يَفْعل العامل هذا الأمر ، بل تَحَرَّكت الآلة من جديد وعادت لتُحَلق في السماء . فكرت أن العامل أرَاد أن يمنحك لفة جديدة . قلت :
لأستمتع بمنَاظر المدنية .
توقفت الآلة من جديد، لكن العَامل لم يفتح الكُرسي أيضا . هذه المرة شعرتَ أنَّ العَامل أصابه مكروه ما . انتَبهت إلى الأصوات من حولك فلم تجد إلاَّ الصمت . الأضواء التي كانت بالسرك لم تعد ، وحل ظلم قاتم محلها . ما إن بَدَأ الخوفُ يتسلل إليك حتى تحَركت الآلة من جديد وبدأت دورانها . هذه المرة لم تكنْ مُنْشغلا بتتبع المناظر ، بل كُنْت تُنيم الخوف داخلك . توقفت الآلة من جديد ، لكن الكرسي الذي توجد به لم يتوقف على الأرض ، بل توقف في القمّة . كنت هناك جالسا في الأعلى . صحت ، ضربتَ الأبْواب الحديدية ، لكن لا أجد يبدو أنه هناك لينقذَك . فكرت أن ترمي أي شيء يدل علي أنك في الأعْلى . تذكرت أنَّك تحمل مذكرة وقلما . بدأت تكتب على أورق المذكرة …
أنقذوني إنِّي في الأعلى .
لا أحد كان هناَك لينتبه للأوراق الكَثيرة التي رميتها. أيقنت أن العامل ابن الكلب نساك هناك، وأنَّ ليلك سيكُون داخل الكرسي الدوار . قلت :
لا بَأس أن أقضي الليل اللعين هنا .
تذكرْت المنظَار ، وفكرت أنَّه يمكنك أن تراقب المدينة ، وتعرف أسرار البيوت من مكانك . كنت تنْتَقل من مكان إلى آخر ، ومن بيت للثَّاني. فجأة انْتَبهت أن سكنك لا يبعد عن ساحة السّرك كثيرا . شقتك الأنيقة التي تَسكنهَا وحدك تنتظر أن ترى ما يقع فيها . لكن لمَ عَليك أن تُراقب بيتك الخالي من أي روح؟ ..هكذا فكرت . لكنك رغْم ذلك قلت :
لأتلصص على بَيتي كمَا تَلصصتُ علَى بيوت الناس .
أدرت المنظَار جهة حيك ، وبدأت تبْحث عنْ شُقتك ، وجدتها كما تركتها ، لاَشَيء يغري للمراقبة . من حسن حظك أو منْ سوئِه أنَّك تترك نافذة غرفة النوم مفتوحة . صوبت المنظَار جهتها .كان هناك ظلام شديد لا غير . ماذَا تَتَوقع أن يكون فيها ؟ قبل أن تنتقل إلى مكان آخَر انْتَبهت أنَّ هناك شيء يتحرك في الغرفة ، جسَد ما يجوب الغرفة ، وينتقل في زواياها بهُدوء واضح . ارتعبتُ ، وفكرت أن الله جعلك تعلق في هذه الآلة لتَكتشف لصَّا في غُرفتك . تَحفزت حواسك لتعرف ملامح اللص ، وانتظرت أن يُشعل الضوء كي تتبينه . اللص أشعل الضوء وكان يَقف ووجهه في الجهة الآخرى . بدا اللِّص يَرتدي نفس ملابسك ، بل إنه يرتديها نفسها .لم يظهر علَى اللص أنه جاء من مكان غير الشقة نفسها . لم تَفْهم كيف يمكن للص أنْ يَرتدي ملابس نوم شخص يقوم بسرقته . قلت :
لص ومريض أيضَا .
ما إنْ إدار اللص وجهه جهتك حتى ندت منك صيحة مفجوعة . لم يكن اللص إلا أنت . من كان يتحرك هناك ليس فِي الوَاقع إلاَّ أنْت ، وأنت تراقبه من هنا ، وتتلصص عليه كما كنت تتلصص على الآخرين .
كيفَ يمكن أن يحدث هذا ؟
أشياء كَثيرة تقع لا نعرف كيف تقع ، ولا لم تَقَع ، مثل موت الأطفَال في حوادث السير ، أو اغتصابهم وهم رضع ، أو إبادة مجموعة من النَّاس لا يعرفون شيئا عن الحروب …
لا .. لا .. هذا ما كنت تقوله وأنْت مُضطرب ، فلا أحد يمكن أن يكون هنا وهناك في نفس الوقت . قلت :
هذا ما علمونا إياه .
لكنك بالفعل كنت هنا وهناَك .كنتَ تُراقبك وأنت تقوم بعاداتك الليلية التي لا يعرفها أحد إلا أنت. تلصصت عَليك وأنْت تسمع دقات قلبك المتسارعَة ، وتتساءل :
أي اسم لهذه الظاهرة .
مازلت لمْ تَستوعب ما يقع ، مثل عدم استيعاب الناس لنزول مَطر أَحمر ، أو عدم فهمهم لعمل مرض السَّرطَان . لا شيء بدا مما تفكر فيه مناسبا لما يقع أمامك . فجأة تتذكر رواية سبوتنيك الحبيبة للروائي هاروكي موراكامي . ضربتَ البَاب الحديدي بكف يدك وقلت :
لقد تحدث عن حدث يشبه ما يقع لي .
بدأت تتذكر أحدَاث الرواية . لقد كان هُنَاك عشق عارم بين فتاتين غريبتين . إحداهما تكبر الآخْرَى ، ما بينهما يفوق أي ارتبَاط جسدي ، يمكن أن يكون تلاقي عوالم غربية . الفتاة الكَبيرة حكتْ لصَديقتها قصة ابيضاض شعرها الذي تَصبغه دائما باللون الأسود، فرغم أنَّها لمْ تتعد الأرْبعين ، إلاَّ أنَّ شعرها كان أبيض تماما ، ولا وجُود لشعرَة سوداء به . لقد حكت لها كيفَ أنَّها علقت في أحد المقاعد الدوارة حين كانت في العشرين من عمرها ، وشاهدت من المنظار شقتها التي كانت تسكنها لوحدها . لقَد شَاهدت نفسها هناك .ما أرعبهَا هو أنَّها كانت تُشاهد نفسها تمارس الجنس مع أكثر شخص تَكرهه. لم يكن جنسا عاديا ذَلكَ الذي شَاهدته، بل كانت تشاهد من مكانهَا نَفْسها في أوضاع لم تتخيلها يومَا . شاهدتْ جسدهَا يقوم بكل الإثارات الجنسية الممكنَة .كان الجسد لينا ومطِيعَا ، وبدا بينَ يَدَي أكثر رَجل تكرهه عبارة عن خرقة تَنبض بالحياة . أرعبها الأمْر فسَقَطت مغشيا عليها في المقعد . في الصباح ،حين اكتشف العمال أمرها ،كان شعرها أبيض.
وأنت تتذكر في مكانك أحداث الرواية ستقول :
الروائيون مجانيين ، لكن عليك أن تتذكر أن العوالم المتوازية كثيرة جدا، وأنك عالق في إحداها .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *