خاص- ثقافات
*حوار/ نــوّارة لــحــرش
في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد والمحاضر، الدكتور عبد الله العشّي، عن العولمة ومنظومة المصطلحات التي تؤطر خطابها، وكذا عن مشروعها الّذي يرى أنّه لم يتشكل بعد وأنّه في طوّر التشكل المتواصل، وأنّه قد يخضع للتغير في أيّة لحظة حسب التغيرات التاريخية. كما يتناول في سياق الحوار، العولمة في الخطاب العربي، وكذا تأثيراتها في المنطقة العربية.
للإشارة الدكتور عبد الله لعشّي، ناقد وشاعر جزائري، درّس في عِدّة جامعات جزائرية وعربية، وحاليا هو في جامعة باتنة/كلية الآداب والعلوم الإنسانية. صدرت له عِدّة مجموعات شِعرية، من بينها: “مقام البوح”، و”يطوف بالأسماء”، كما لديه العديد من المؤلفات النقدية، من بينها: “زحام الخطابات”ـ و”أسئلة الشِّعرية”.
لك دراسات وأبحاث في العولمة وتحولاتها العالمية وعنفها. ما الذي يمكن أن تقوله بهذا الشأن؟
عبد الله العشّي: لقد تغيّر العالم في ربع القرن الأخير تغيرا يكاد يعيد تشكيل الخريطة الجغرافية والتاريخية والثقافية والروحية، إن لم يكن قد أعاد تشكيلها بالفعل، وهذا ما جعلنا نحس أحيانا أنّنا لأوّل مرّة في التاريخ نعيش عالما جديدا بمثل هذه الجِدة التي لا تعطي الإنسان فرصة للتفكير واتخاذ الموقف الملائم، بل يغرقه بفيض من الأفكار تدفعه مضطرا للانسياق وراء ما يحدث، وكأنّه فقد قدرته على التحكم في توازنه.
وقد عبر عن هذا التحوّل الكاتب البريطاني أنطوني جيدنز حين قال: “كلّما تفاقمت التغيرات التي أدت إلى تشكيل مجتمع عالمي لم يكن موجودا من قبل، ونحن أوّل جيل يعيش في هذا المجتمع الذي نكاد لا نرى ملامحه الآن. إنّه يزعزع أنماط حياتنا أينما كنا، والآن في الأقل لا يعد هذا نظاما عالميا تمليه إرادة بشرية جماعية، وإنّما هو فوضى ناجمة عن مزيج من التأثيرات”. وقد ساعد على هذا التحوّل الرهيب أمران أساسيان في اعتقادي: الأوّل هو ثورة المعلومات التي تعد ثورة حقيقية لا مجازا. لقد أصبح ما كان في حُكم الخرافي واقعا مدهشا، وأصبح “التوالد” العلمي بلا حدود. والأمر الثاني هو أنّ هذه الثورة العلمية أصبحت تهيمن عليها وتوجهها مؤسسات سياسية وعسكرية واقتصادية، هي نفسها التي توجه الحضارة المعاصرة لتهيمن على الكوكب الأرضي كلّه.
ليس ثمة من خطأ في الثورة العلمية المشار إليها، ولا أظن أنّ فينا من سيقف موقفا سلبيا أمام الفتوحات العلمية، ولكن الخطر يأتي من المؤسسات المحتكرة للعِلم والموجهة له، لقد ثبت واقعيا أنّ هذه المؤسسات هي مؤسسات مؤدلجة، بمعنى أنّها لا تتمتع بحياد العِلم وموضوعيته، بل هي مؤسسات تحمل أفكارا رهيبة، مشروعات فكرية وسياسية أقل ما يمكن أن تُوصف به أنّها مشروعات استعلائية مُتكبرة، تعتقد أنّ العالم على ضلال إلاّ من اتبعها، وأنّه لا يقوى على فعل شيء ما يعتمد عليها، وترى أنّ هذا العالم لم يعد يتسع للجميع، فهو فقط لمحتكري الثورة العلمية، وعلى الآخرين الالتزام والتبعية والتقليد. هكذا يُفكر القوي في عالمنا المعاصر، لقد انتفى البعد الأخلاقي والإنساني، ونؤكد ثانية أنّ ذلك لم يتم بسبب العِلم بل بسبب المؤسسات الموجهة لهذا العِلم. في مثل هذا المناخ ظهرت العولمة، ليس بوصفها مقولة علمية مجرّدة حيادية، بل بوصفها مقولة إيديولوجية استغلت نتائج العِلم المعاصر من أجل الهيمنة على العالم وتوحيده خارج حدود الثقافات والهويات الخاصة، ومن أجل أن يتم ذلك كان لا بدّ أن تتبنى إيديولوجية، لم تكشف عنها بشكل مباشر ولكن يمكن تبين معالمها من خلال الواقع.
هل يمكن القول أنّ العولمة تسير ضدّ التاريخ، أو ضدّ منطق التاريخ؟
عبد الله العشّي: إنّ العولمة تسير ضدّ منطق التاريخ، إذ ليس من المعقول أن يتم تهميش الهويات أو إلغاؤها وقد تشكلت عبر عشرا ت الآلاف من السنين وتحوّلت إلى مكوّن للأمم، ليس مجرّد مكوّن ثقافي أو ديني أو أخلاقي، بل يمكن على سبيل الاستعارة أن نقول: إنّها مكوّن بيولوجي مثل الكروموزوم المسؤول عن نوع الجنس البشري، فالبشر مختلفون ومتفقون، متميزون ويمكنهم العيش بهذا التمايز والإسهام في سعادة الإنسان، أمّا تحويل البشرية إلى هوية ثقافية واحدة فأمرٌ مناقض للتاريخ. فكما يقول محمد عابد الجابري “ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيّام، وإنّما وجدت، وتوجد وستوجد ثقافات متعدّدة متنوعة تعمل كلٌّ منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والإنكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع”.
إذن، هي ضدّ منطق التاريخ أيضا، لأنّها ليست تطورا طبيعيا في الحركة الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية، كما قد يتوّهم بعضهم، وإن كانت تطورا لشيء فإنّما هي تطور للفكر الاستعماري الأوروبي، ومن هذا المنطلق يمكن عد العولمة هي المرحلة الاستعمارية الثالثة بعد الاستعمار العسكري والاستعمار الاقتصادي، وها هي ذي تمثل الاستعمار الشامل. وعلى الرغم من التداول الشاسع لهذا المفهوم فإنّه غامض في نواح عِدة، وكأنّ هذا الغموض متعمد حتى لا ينكشف السرّ، ويحل اللغز.
يبدو أنّ هناك إشكالات متشابكة لهوية العولمة. ما رأيك؟
عبد الله العشّي: حين يسعى الباحث إلى تقديم تعريف علمي للعولمة سوف لن يعثر على تعريف يطمئِنُ إليه، ويتخذه مبدأ بحثه، على الرغم من الاستعمال الواسع لهذا المصطلح إلى درجة أصبح فيها مُهيمنا على الكتابات السياسية والاقتصادية والإعلامية، فقد أصبح المصطلح نفسه مُهيمنـًا، كما تسعى العولمة إلى الهيمنة، فالمؤسسات الغربية لم تستقر على تعريف موحد، أو أنّها لا تريد ذلك، مع أنّها تقدم تحديدات لأهداف النظام العالمي الجديد الذي تعد العولمة وسيلة تطبيقه. وقد أحس بهذا الغموض والتضليل بعض الكُتاب الغربيين، فقد كتب أنطوني جيدنز: “نظرا لشعبية مصطلح العولمة، يجب ألا يفاجئنا عدم وضوحه في جميع الأحوال أو ما هو رد الفعل الذي تشكل ضده”.
وما يُقدم تعريفا للعولمة إنّما هو تجميع لأفكار مُتناثرة من هنا وهناك، تَرِد أحيانا على ألسنة الرؤساء وأصحاب النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في العالم، ذلك أنّ العولمة أيضا هي مشروع لم يتم تشكيله بعد، فهو في طوّر التشكل المتواصل وقد يخضع للتغير في أيّة لحظة حسب التغيرات التاريخية، وحسب ردود أفعال المجتمعات الأخرى، ولكن هذا لا يعني أنّ الفكرة الجوهرية للعولمة غير معروفة، إنّها معروفة، ولكن أصحابها يرفضون البوح بها، حتى تظل عيوبها وأهدافها البعيدة مجهولة. ويعود أمر غياب التعريف المُحدّد للعولمة في اعتقادي إلى كونها مقولة يودُّ أصحابها إبقاءها بعيدا عن الفهم الكامل والصحيح وتقديمها في بعض مظاهرها الاقتصادية والإعلامية الإيجابية، حتى تظل سرا من جهة، ومن جهة ثانية حتى يتركوا فرصة للمجتمعات الأخرى لتعطيها المفهوم الذي تتصوّره لتظهر وكأنّها انبثقت من داخل هذه المجتمعات ولم ترد إليها من خارجها، وهذا أسوأ أشكال الاستعمار الفكري كما يشرحه مالك بن نبي في كتابه “الصراع الفكري”. فتصبح العولمة في هذه الحالة عولمة ذاتية وهذه أخطر أنواع العولمة. لأنّ المجتمعات تتصوّر أنّها تطورٌ طبيعي في حركتها بينما هي قد سيقت مجبرة إليها.
هل يعني هذا أنّ تعريف/ أو تعريفات هوية العولمة ستظل غامضة ومربكة، وأنّها في كلّ مرّة ستخضع لأفكار متضادة وغير مستقرة؟
عبد الله العشّي: قد حاول بعض المعرفين اختصار هوية العولمة، ومنهم جعفر شيخ إدريس، الذي حددها في مقالته “العولمة وصراع الحضارات” في كونها تقوم في أساسها: “على تصيير المحلي عالميا، فهي وصفٌ لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalisation، لكنّها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم”.
ثمّة طبعا مفهومان للعولمة، مفهوم نظري لعولمة لم تتشكل بعد على أرض الواقع، ومفهوم عملي وهو يتعلق بالجانب الذي تم تحققه من العولمة بالفعل ويتمثل في المكاسب التي حققها النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا المفهوم الثاني هو مرحلة أولى من مراحل العولمة التي تتطوّر بسرعة لا يستطيع المتابع أن يضبط حركتها. وقد ذهب بعضهم إلى أنّ العولمة ظاهرة تاريخية، عرفتها البشرية في تطورها الحضاري، ففي كلّ مرحلة كانت حضارة ما تهيمن على بقية الحضارات، وفي زمن ما كانت الحضارة الإسلامية حضارة عالمية. هذا الطرح من الناحية الوصفية صحيح لكنّه من حيث الأهداف الكبرى أمر متحفظ عليه، فثمة فرق كبير بين عالمية الحضارة الإسلامية والعولمة المعاصرة.
وماذا عن العولمة في الخطاب العربي؟
عبد الله العشّي: يكاد يجمع المفكرون العرب المعاصرون المتزنون بمذاهبهم المختلفة وتياراتهم المتعدّدة على صياغة خطاب سلبي ضدّ العولمة، حتى ولو ذهب بعضهم إلى ضرورة التفاعل معها تفاعلا إيجابيا، بمعنى الاستفادة من منجزاتها العلمية الهائلة، غير أنّ خطابهم يتضمن تحديد العولمة على أنّها نوع من الاستعمار الجديد الذي يسعى إلى الهيمنة الشاملة على العالم كلّه وإخضاع البشرية كلّها لنظام واحد في الفكر والسياسة والاقتصاد والفن وغيرها، وهنا يقول حسن حنفي: “العولمة هي أحد الأشكال المعروفة للهيمنة الغربية، ليس عن طريق الجيش والعسكر وليس فقط عن طريق الاقتصاد بل عن طريق السوق”. ويضيف: “العولمة ليست فقط تغريب العالم، بمعنى أن ينتشر الغرب من المركز إلى المحيط إلى الأطراف، وليست فقط أمركة، لأنّ أمريكا هي التي تتصدر العالم الآن لكونها القطب الوحيد الموجود، ولكنّها أخطر من ذلك فهي سيطرة اتجاه واحد، رأي واحد، فكر واحد، وكلّ دولة تتجرأ على أن تخرج من بيت الطاعة سيكون العدوان العسكري لها بالمرصاد”.
سيكون من الصعب أن نستعرض بالتفصيل نصوصا لمفكرين آخرين، يكفي أن نقول: إنّ الخطاب العربي المعاصر الإسلامي والقومي واليساري، باستثناء بعض المفكرين العلمانيين، يقف ضد مشروع العولمة ويقدمها بوصفها مشروعا استعماريا هداما ينبغي الوعي بأهدافه في الهيمنة وإلغاء الهويات والخصوصيات الذاتية. هذا الموقف العربي يؤكد أنّ العولمة تمارس عنفا واضحا ضدّ الثقافات، عنفا لا يدخل في الحوار الحضاري الّذي كان شعار الخطاب العربي المعاصر، وما يزال خطابه.
وكيف كانت تأثيراتها في/وعلى المنطقة العربية؟
عبد الله العشّي: من المؤسف أن تكون مجتمعاتنا العربية من أوائل المجتمعات التي تنعكس عليها آثار العولمة، بحكم العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية بينها وبين أوروبا والولايات المتحدة، وبحكم القرب الجغرافي، وربّما العلاقات التاريخية أيضا، لقد بدأت ضغوط العولمة تؤثر في اقتصاديات المنطقة وثقافتها وسياستها، وأصبحت ملفات المشكلات المحلية والإقليمية في يد الولايات المتحدة، وأصبحت الحلول تصنع في مؤسسات العولمة عن طريق أجهزتها النافذة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية: (الجات) وغيرها. وأصبحت المبادرات الأمريكية لإيجاد حلول لمشكلاتنا القومية أو الوطنية تتداول في الصحافة العربية أكثر مما تتداول الحلول المحلية.
لكن أبرز الأخطار التي تواجهنا بها ثقافة العولمة هي ما يأتي: إنّ العولمة تنطلق من وضع الهويات بين قوسين، أو بعبارة أخرى وضع الهويات جانبا والدخول في حركية العالم بهوية دون هوية، أي إلغاء المرجعية الدينية والأخلاقية والقومية أو ما إلى ذلك. إنّ العولمة تريد تجميع العالم على شيء واحد ولن يتم ذلك إلا بالبدء بإلغاء الهويات المحلية لأنّها العائق أمام تحقق المشروع العولمي، ونحن لا نستطيع أن نكون نحن، عربا مسلمين إلاّ بهويتنا، ولن يكون الأمر سهلا أن نحافظ على هويتنا ونحن لا نملك وسائل الدفاع أو المحافظة عليها، الوسائل العلمية والسياسية والاقتصادية وغيرها. والعولمة تقوم أساسا على ضرب هذه العناصر الثلاثة (الوطن والأمة والدولة). فليس في فلسفة العولمة مكان لمثل هذه المصطلحات في الفكر ولا في الواقع. وهذا هو الواقع اليوم، لقد فقدت أنظمة العالم الثالث جزءا من سيادتها على دولها، بحكم التدخل السافر لمؤسسات النظام العالمي الجديد، وأصبح التعريف القانوني للدولة يفتقر إلى عنصر السيادة على كلّ الكيان المسمى دولة. فكيف يمكن التعامل مع هذه العولمة وما أفضل الطرق لمقاومة ليست معرضة للانكسار؟.