كانت معركة تحرير تراثنا العربي الإسلامي من احتكار القراءة الدينية المنغلقة ومن التأويل الذكوري لنصوصه الأساسية أهم معركة خاضتها المغربية فاطمة المرنيسي، التي مرّت منذ أيام ذكرى رحيلها الثانية، عبر مشروع فكري متكامل.
ففيما انخرطت مناضلات الحركة النسائية العربية في فضح العقلية الذكورية وعمقها المرجعي في ثقافتنا العربية الإسلامية، انبرت المرنيسي لخوض معركة استرداد هذا التراث وتحريره من التأويلات الذكورية المتخلفة والدينية المتعصبة. هكذا ألّفت أكثر من كتاب لتثبت لنا كيف كانت المرأة عزيزةً في تاريخ الإسلام منذ “نساء النبي” حتى “السلطانات المنسيات”.
ولأنّ فاطمة المرنيسي تكره الاختزال أيًّا كانت مصادره، فقد حرصت على تحرير الحريم الشرقي من رؤية الغرب الاختزالية له، ونذرت لهذه المهمة أكثر من مؤلَّف بدْءًا بعملها السير-ذاتي “نساء على أجنحة الحلم” حيث قدّمت لنا وثيقة سردية تخيّلية كشفت بعض أسرار الحريم.
هكذا انطلقت معركة المرنيسي من أجل استرداد “الحريم” وتحريره من القراءة الاستشراقية التي اعتمدت لوحات ماتيس وأنجر ودولاكروا وغيرهم من رسامي الاستشراق مرجعًا لتشكيل “حريم” وهميّ عُدَّ مرتعًا للأجساد النسائية العارية الخانعة على استعداد دائم لتلبية نزوات الرجل.
في “نساء على أجنحة الحلم” بدا حريم فاطمة المرنيسي مختلفا. لم تكن نساؤه عاريات كلّ فتنتهنّ الجسد، بل نساء حاذقات كيدهُنّ شديد وحكاياتهُنَّ بلا حدود.
نساء الحريم العربي الإسلامي، كما قدمتهن المرنيسي، لسن خانعات كما تزعم لوحات فنّاني الاستشراق، بل حرونات حتى أنّ هارون الرشيد، بجلالة قدره، لم يتردّد في الشكوى من عدم انقيادهن لسلطته في بيته الشعري الشهير: مالي تطاوعُني البرية كلُّها/ وأطيعهُنَّ وهنّ في عصياني.
والطريف أنّ فاطمة المرنيسي ما إن حرّرت الحريم الشرقي من النظرة الاستشراقية إليه، حتى هاجمت الغربيين فاضحة حريمهم المعاصر الأكثر تسلطا من حريمنا القديم.
فإذا كان الحريم الشرقي “سجنًا” في المكان، فالحريم الغربي سجنٌ في الزمن. حريمٌ يسجن المرأة المعاصرة في صورة الصبية الجميلة الرشيقة التي صنعها الرجل وكرّسها، عبر الإعلان في الصحافة والتلفزيون، نموذجا للأنوثة. وعلى النساء من مختلف الأحجام والأعمار أن يفعلن المستحيل ليحافظن على مظهر سيدة الإعلان.
ثم هناك “سجن المقاس 38” الذي انتقدته المرنيسي بسخرية وهي تطوف محلات بيع الملابس بنيويورك، دون أن تجد تنورة على مقاسها. ذاك أنّ مقاسَيْ 36 و38 هما المعيار، وكل من لم يحترم المعايير يضع نفسه خارج حسابات كالفان كلين وإيف سان لوران وأرماني. مفهوم حريمي قاسٍ عنيف، رغم أنه مغلف بالاختيارات الجمالية وبتصوّر سحري مخادع للأنوثة.
حينما اخترتُ للكتاب الجماعي الذي أصدَرْتُه عن فاطمة المرنيسي بعد رحيلها عنوان “شهرزاد المغربية” كنت أعرف رمزية شهرزاد بالنسبة إليها. كانت مُلهِمَتها. ومثلما نجحَتْ شهرزاد “ألف ليلة وليلة” في مواجهة سيف شهريار وجبروته بالحكايا، أصرّتْ المرنيسي بدورها على الحكاية.
ولأن الحكايات السائبة المرتجلة لا تكفي لمواجهة شهريارات هذا العصر، بدأت شهرزاد المغربية تبشّر بالكتابة. هكذا أطلقت من شقتها بحيّ أكدال بالرباط ورشات “الكتابة من أجل الديمقراطية” حيث منحت الفرصة لأمهات المعتقلين السياسيين، وناسجات الزرابي، وضحايا الاغتصاب والتحرش الجنسي لكي يكتبن حكاياتهن.
إنها شهرزاد معاصرة مهووسة بالكتابة، شهرزاد ديمقراطية تؤمن بأن احتكار الحكي لم يعد ممكنا في عالم اليوم. ثم إنّ شهرزاد بالنسبة للمرنيسي كانت نموذجا للعقل النسائي الذي يعرف كيف يتلاعب بالعقلية الذكورية ويسحب منها ببراعة أسلحتها. هكذا حرّرَتْ شهرزاد نفسها وبنات جنسها من سيف شهريار، وحرّرت شهريار من عقدته. كذلك فعلت شهرزاد المغربية. حاولت أن تحررنا جميعا، عبر الكتابة هذه المرّة.
_________
*العرب