في كل عام ومع مناسبة ثقافية كبرى مرتبطة بالقراءة والكتاب مثل معرض الشارقة الدولي للكتاب، تثور أسئلة عديدة حول المقروء أو الأكثر تفضيلاً للقراءة من بين كل الكتب التي تعرض على الزوار. ويبرز بالتالي ذلك الجدل القديم الجديد المجسد في السؤال: هل نحن في عصر بسمات أدبية خاصة، تفرز نوعاً أدبياً أكثر من غيره من كل الأجناس الأخرى كالرواية والقصة القصيرة والشعر والمسرح ؟، ينزع الكثيرون إلى الإجابة من واقع مشاهداتهم حول العالم، وما يرونه من إقبال الجمهور في كثير من البلدان ومعارض الكتب على الرواية، بأننا فعلاً في عصر الرواية، تلك التي تستحوذ بملكاتها وفضاءاتها السردية الخيالية على ألباب البشر، فتبقيهم حتى الآن ومنذ ظهورها كإبداع أدبي، في كنفها وفي مخيالها الساحر.
لكننا الآن وانطلاقاً من نفس المشاهدات العامة في عديد من البلدان والمراكز الثقافية العالمية، بتنا نشهد نوعاً ما صعوداً آخر لكتاب السيرة الذاتية، وتفضيل بعض القراء أن يشتروا كتب مذكرات يومية.
إذا جاز لنا أن نفترض أن ازدهار عصر الرواية الحالي مرده إلى أن الإنسان يريد أن يرى واقعه بنمط من التخييل يلهيه عن قسوة ذلك الواقع أحياناً، فلِمَ يفضل البعض قراءة الواقع في كتب السيرة الذاتية بكل تفاصيله التي يعيش معظمها يومياً؟، ولم يَكتب كتاب السيرة الذاتية أصلاً، أو بعبارة أخرى ما هي الدوافع التي تجعل شخصية ما تقرر أن تنشر سيرتها الذاتية في كتاب؟.
من المدهش ربما بالنسبة للكثيرين أننا لو عدنا لتتبع تاريخ أصل السيرة الذاتية، لفوجئنا باكتشاف مفاده أن أدب السيرة الذاتية كان من أوائل أنواع الأدب التي اختطها الإنسان للتعبير عن نفسه، ولرسم صورته على جدار الزمن، وبغية استمرار ذكره حتى بعد موته لفترة طويلة، ويعزو الباحثون في هذا المجال أول ظهور للسيرة الذاتية إلى مصر القديمة، أي إلى عهد الحضارة الفرعونية، ويعتبر أولئك الباحثون أن جذور السير عميقة في التاريخ المصري القديم، وربما تعود بداياتها إلى لوحات الأسرة الأولى التي حمل أصحابها العديد من الألقاب،غير أنهم يؤكدون أن أول سير تقدم نوعاً من الفن القصصي، هي سير تزامنت مع نهاية الأسرة الرابعة أو بداية الأسرة الخامسة، ويمكن تقسيم هذا النوع من السير إلى نوعين: «سير مثالية»، وتقدم صاحبها بجمل تقليدية طويلة تعنى بإظهاره كشخص مثالي، والنوع الثاني يسمى «سيرة ذات حدث» ويصف خبرات صاحب السيرة والحدث أو (الأحداث) التي مر بها في حياته، خصوصاً الوظيفية منها.
ويمكن استحضار الدوافع النفسية انطلاقاً من ذلك التاريخ الضارب في العمق لأدب السيرة الذاتية، فالإنسان كما هو واضح مما سبق دأب منذ فجر التاريخ على محاولة تدوين ذاته من خلال سيرته؛ لأنه يريد أن يعيش طويلاً أكثر من عمره المحدود.
لكن نفس النمط من التصنيف بالنسبة لأنواع السير الذاتية ونفس الدوافع وغيرها أكثر تعقيداً من ذلك، ربما نجدها في عصرنا الحالي بكل مفرداته الحضارية شديدة الترابط، نظراً إلى ثورة الاتصالات وسهولة التواصل، والتفاعل اليومي بين الناس عبر المدونات ومواقع التواصل والتفاعل الاجتماعي، مما يجعل كتابة السيرة الذاتية بشكل منظم ككتاب تواجه إشكال وسؤال القيمة؟.
ومع كل ذلك لا زالت كتب السير الذاتية تحظى بإقبال هائل، عند ظهور أي كتاب منها في أماكن عديدة من العالم ومن بينها الوطن العربي، وهنا نجد أن كتب السيرة الذاتية تجاوزت تلك التصنيفات البسيطة التي قدمناها آنفاً، وباتت تنتج أشكالها الجديدة المراوغة نوعاً ما، فهي أحياناً تتشبه بالرواية لدرجة أن النقاد باتوا يبتدعون تصنيفاً خاصاً لذلك النمط من السير الذاتية تحت مسمى: الرواية التي تحكي سيرة ذاتية، ويبقى النوع الأكثر مناورة في اعتقادي من كتب السير الذاتية هو تلك التي يبتدعها الكاتب الروائي أو الشاعر أو الأديب بشكل عام، ليتحدث فيها عن يوميات وتفاصيل إبداعاته والأزمات المرتبطة بالإلهام أو العجز عن الكتابة تارة أخرى، وثمة أمثلة من هذه السير الذاتية أحدثت لدى صدورها ضجة و انتشرت بسرعة هائلة لدى ملايين القراء، ومن بينها مذكرات فرانز كافكا، وسيليفيا بلاث، وفرجينا وولف، وغوستاف فلوبير، ورغم أن تلك المذكرات لم تكن سيرة ذاتية بالمفهوم المصطلحي للسيرة الذاتية الآنف الذكر، إلا أنها كانت سيرة يوميات مهنية وظيفية لكتاب وأدباء تركوا بصمتهم على الأدب العالمي، وكانت تروي مشاهد وأزمات وحالات قلق وعذاب وانتظار شغوف بالحياة وأحياناً بالموت عاشه أولئك الأربعة بحسب اختلافاتهم، وبالتالي كان من المنطقي جداً أن يقبل الناس على قراءتها، ربما ليدخلوا بسهولة مناطق لا تدخل عادة في مسيرة المبدعين، ويحطموا ولو لفترة محدودة ذلك البرج العاجي الذي تعودوا أن المبدعين والمثقفين يسكنونه بعيداً عن عامة الناس وأفكارهم وآلامهم وآمالهم.
والمتأمل في النماذج الأربعة التي ذكرناها يراها مجسدة لعوالم يكاد كل إنسان قارئ لها يرى فيها جزءاً منه، ومن طموحه في حياته، ومن معاناته لاقتناص حلم ما، من سعادته بالنجاح أو فشله فيها، فالشاعرة والروائية سيليفيا بلاث تروي عن لحظات من العجز والألم وحالات هستيريا ألمت بها، وعن دفاعاتها النفسية تجاه كل ذلك، وكيف أنها تريد أن تتغلب على ذلك، و تتحدث عن عجزها عن الكتابة، وعن كل تلك الظروف الصعبة المتداخلة بين الشخصي والمهني، فترسم بذلك لوحة عامة يمكن لأي منا أن يرى فيها جزءاً من نفسه، وتقول: ( مرض، سُعار من الاستياء من كل شيء، ذاتي في الحضيض. أستلقي وأنا مستيقظة ليلاً، مستيقظة ومنهكة، لا بد وأن أكون طبيبة نفسي. يجب أن أعالج هذا الشلل المدمر والجزع الطاحن وأحلام اليقظة. إن أردت الكتابة، فإن هذا بالكاد السبيل الناجع للتصرف- برعب من الكتابة، والتجمد بسببها. شبح الرواية التي لم تولد بعد أشبه برأس ميدوسا. ومضات من الأفكار أو مشاهدات بسيطة حول الشخصيات تخطر على بالي. ولكن ليست لدي أدنى فكرة كيف أبدأ. يتعين عليّ، ربما، أن أبدأ وحسب. ثمة شيء في داخلي يؤكد بأنني سأكتب «ديوان شعر» جيداً في اليوم الواحد- ولكن هذا هراء- فأنا أجن عندما أمضي يوماً واحداً في كتابة اثني عشر سطراً رديئاً- كما حدث البارحة).
هذا البوح الذي ينثره الشاعر أو الكاتب أو الشخصية المشهورة بشكل عام داخل كتاب يسمى سيرة ذاتية، هو على الأغلب ما يجعله جذاباً لملايين القراء، رغم تشابه قسوة الواقع الذي يحكي عنه مع قسوة الواقع الذي يعيشه القارئ، ورغم أنه سيفقد القارئ الميزة التي يجدها في الروايات وهي الإحساس في كل لحظة بأنه يقرأ أحداثاً متخيلة مهما كانت قسوتها، وينتشي بخيالها فيغيب عن الواقع إذا كانت الأحداث آسرة، كل ذلك سيفتقده عند قراءة كتب السيرة الذاتية، لكنه بالمقابل سيرى نفسه بطريقة ما، سيرى ما يشبهه، أو ما كان يطمح أن يشبهه، فمثلاً في كتب السير الذاتية للرؤساء أو السياسيين أو الفنانين المشاهير، تتبدى جوانب من القدرة على تحقيق الطموح الشخصي، ومواجهة خيبات الأمل، بحيث تشكل عند قراءتها حالة ملهمة لملايين البسطاء العاديين، الذين يطمحون إلى أن يكونوا ذات يوم شيئاً مذكوراً. وإجمالاً يمكننا القول إنه من غير الدقيق التحدث عن أسباب بعينها هي التي تصنع الإقبال الشديد على كتب السيرة الذاتية، لكن الأكيد أن الفكرة الفلسفية التي تصنع تلك الكتب هي نفسها التي تحدد عدد قرائها، فالإنسان بشكل عام شغوف برؤية ذاته وبقراءة ذاته حتى عبر ذوات الآخرين، والإنسان وهو يكتب يمارس الجزء الآخر، إن صحت التسمية، من فعل رؤية الذات، متجسدة في كلمات وأسطر وجمل وصفحات وكتب، إنه إذاً فن ممارسة عشق الإنسان المزمن لذاته.
__________
*الخليج الثقافي