خاص- ثقافات
*سيومي خليل
جلس مباشرة أمام التلفاز التي تحتل جزء مهما من الحائط ، قرّب الطاولة إلى الكرسي الذي سيجلس عليه ، اعتدل ، وصفق مرتين متتاليتين ، أخرج علبة مالبورو ، ووضع محفظة نقوده على الطاولة بنية اللون ، وضع قدما على قدم ، وأشبك يديه على ركبة القدم الأعلى ، ثم راح ينظر في التلفزة دون أن ترمش روموش عينيه الضيقتين . جاءت النادلة التي كانت تسدل شعرها على كتفيها كأنها في عرس قروي جمع النساء والرجال معا ، وقفت أمامه، نظر إليها ، تحديدا نظر إلى أحمر الشفاه فاقع اللون كأنه صباغة على حافة حائط ، ارتبك قبل أن يقول لها ما يريد ، خرجت حروف كلمته الأولى مبحوحة وبها رضاب عالق بالحلق ، ثم بعدها سمعت النادلة ..طاليان بلامونت . انصرفت النادلة ، قبل أن تصل إلى الكونتوار الذي يقبع فيه البارمان كمراقب أو حارس لتجزئة سكنية في مرصده الخشبي الضيق ، سمعت الزبون يصيح كأنه في بيته …معاش الماتش أختي؟ رد عليه أحد الزبائن الذي كان يجلس وراءه ..راه بادي مكتشوفش ..أدار عنقه بسرعة إلى جهة الصوت ،حرك عينيه بسرعة وجمع مقدمة فمه كأنه فأر صغير رأى قطا ضخما أمامه . أعاد عنقه إلى مكانه السابق دون أن يقول شيئا ثم راح يشاهد مباراة كرة القدم التي تجمع أولامبيك آسفي مع فريق آخر لم يشغل نفسه به أبدا . كان عنقه ينوس يمنة ويسرة كأنه قطعة مربوطة بحبل متدلى ، عيناه رغم ذلك كانتا على نفس الحركة منذ دخل إلى المقهى . جاءت النادلة بالقهوة السوداء وقليل من لامونت في كأس صغير من الحديد اضافة إلى كأس ماء يبدو أنه كان باردا في هذا الجو الرطب والمليء بالقر . بعد أن وضعت النادلة وشعرها يتدلى مع انحنائها القهوة وكأس الماء ولامونت على الطاولة ، طلب منها سيجارة ، انتبهت إلى علبة المالبورو أمامه ، لكنها لم تشر إلى شيء وناولته السيجارة ، وهو يحاول أخذ السيجارة تحسس سلاميات أصابعها في حركة خفيفة ومايل عينيه كأنه يغمز النادلة ، في هذه اللحظة ويد النادلة مازالت ممدودة والسيجارة على طرف سلاميتي الإبهام والسبابة ويده لها نفس الحركة سُجل هدف وصاح الزبون الذي كلمه سابقا مغضبا في وجه فريق أولامبيك آسفي الذي سُجل عليه الهدف ، بدوره صاح هو الآخر ، وضرب الطاولة صائحا في النادلة ..مخليتينيش نشوف البيت .. ثم تفل ، وتركها دون أن يأخذ السيجارة منها . بدأ يدخن بعد أن استخرج سيجارة من علبته المالبورو ،ويراقب التلفزة دون أن يتوقف عن تقديم إرشادات تقنية لللاعبين ، يشير بيديه إليهم كأنه يقف أمامهم ،ويصيح موجها المدافع إلى البقاء في مكانه ، أو محفزا لاعب الجناح الأيمن على الركض سريعا جهة الكرة . يشرب من القهوة ، ويعقبها برشف نفس عميق من سيجارته ، وبعد أن يضع رمادها في المرمدة ، يعود إلى تحريك يديه مشيرا لللاعبين بالانضباط والالتزام باللعب ، مضيفا سيلا من الشتائم التي ينقلها عن كل ساكنة مدينة آسفي كما كان يقول حين يتفوه بها . كل من في المقهى حينها كانوا ينظرون إليه بدل أن ينظروا إلى التلفزة ويتابعوا مجريات المباراة الكروية ؛ لقد صارت هناك تلفزتان ، تلفزة معلقة على حائط مصبوغ بصباغة باهتة يشاهدها زبون واحد ، وتلفزة جلست على كرسي كانت لا تتوقف عن تقديم إرشادات لللاعبين كان يشاهدها كل من في المقهى باستثناء زبون واحد . كانت ابتسامات عديدة تظهر من شفاه زبائن المقهى وهم يشاهدون ما يفعله هذا الزبون ، قهقهات سمعت من ركن تجمع فيه بعض الشباب ، النادلة نفسها رغم أنها تعرضت لإهانته كانت تنظر إليه وتضحك وهي تستمع إلى قفشاته ونصائحه لللاعبين …كلما تحركت الكرة إلى مرمى الفريق العدو تتحرك كل أطرافه فرحة ، أحيانا يقف صائحا حين يكاد هدف التعادل أن يأتي ، أو حين تمر كرة قريبة من مرمى العدو ، يقف منتصبا كأنه سمع أمرا عسكريا بالوقوف وبعدها يتهاوى على الكرسي كأنه بطانية ثقيلة ومبللة سقطت من خيط نشر الغسيل .طيلة هذه المسرحية التي حدثت في المقهى كان لا ينهي سيجارة حتى يشعل آخرى كأن الفريق الذي يلعب هو فريقه الخاص ، من ماله يموله ، ومن لحم عظامه يطعمه . يشرب القهوة ويرشف السيجارة ويتكلم دون توقف …حين سجل فريق أولامبيك آسفي هدف التعادل ، ارتجت المقهى بكل مافيها ،الكراسى كانت تلاحق من انتفض من عليها بقوة ، وتتحرك الطاولات متجاوبة مع هذا الصخب المفاجئ، وتتراقص الكؤوس والفناجيين وبرراد الشاي وقناني الماء البلاستيكية … أما هو فقد جمد ولم يتحرك ، لم يقل شيئا ، وظل محدقا في التلفزة بعينين مندهشتين ، التفت إلى أحد الزبائن الذي انتهت رجته وسأله .. شكون مارك ؟ نظر إليه الزبون وهو يضحك بشكل واضح …حنا ابنادم واش انت معارفش حتى الفريق . حين توقف الصخب في المقهى انتفض هو صائحا مهللا ، بل إنه توسط قلب المقهى وراح يسجد سجدات شكر ؛ تقابل مع الكونتوار تحديدا ورأس البارمان يظهر منه كنصف تفاحة كبيرة ، ثم سجد سجدته الأولى ، وبعدها سجد سجدته الثانية ، وقام من مكانه ، لكن أحد الظرفاء طلب منه أن يحيي تحية الصلاة ، ودون أي خجل عاد إلى الأرض ، وجلس على ساقيه مظهرا وركيه الهزيلين وبدأ يحرك سبابته ويتمتم ببعض الكلمات .