فوبيا الكاميرا والرغبة في التخلص من كل شيء شخصي

خاص- ثقافات

*د. عبد الجبار الرفاعي

ولدت ونشأت وترعرعت في قرية جنوب العراق فقيرة بكل شئ، تفتقر إلى الوثائق والنصوص المكتوبة، ذلك أن أهل الريف ثقافتهم شفاهية، يندر أن تعثر على مدونة في حياتهم. لا أتذكر في بيتنا أوراقاً أو كتباً أو صحفاً، ما عدا كراسات قليلة ذات أوراق صفراء تتحدث عن حكايات شعبية، بعضها مستل من “ألف ليلة وليلة” لا يتجاوز عدد صفحاته 32 صفحة، كان أخي الكبير شريف القحطاني يشتريها من كربلاء أو النجف حين يذهب لزيارة المراقد المقدسة.

الولع بالطوابع وصور المشاهير
في المرحلة المتوسطة التحقت بمتوسطة قلعة سكر، وبدأت أتعرف على المراسلات البريدية وطوابع البريد، وبعض الكتب في هذه المدينة. حرصت على نزع الطوابع البريدية من أغلفة الرسائل التي تصلني من أخي الذي كان يعمل في الكويت، وما أعثر عليه من طوابع رسائل ممزقة ومهملة أغلفتها في مكب النفايات.
طابع البريد هو أول رصيد بدأ يتراكم لأرشيفي البدائي البسيط، كان طابع البريد نافذة ضوء تمدني صورها بشيء من معرفة مناسبات وأعلام ورموز بلدي، بل كان نافذة اكتشاف لبعض البلدان التي لم أكن من قبل أعرف حتى اسمها. وبمرور الأيام تملكتني رغبة الاحتفاظ بما يصلني من رسائل، وبعض صور المفكرين والفلاسفة المنشورة في الصحافة. أتذكر في ذلك الوقت أني قمت بإلصاق صور فلاسفة ومفكرين غربيين، اقتطعتها بمرور الأيام من صحف قديمة، على “كارتونة” أصبحت لوحة، وعلقتها في غرفة الطين بمنزلنا الريفي، طالما أثارت هذه اللوحة فضول الفلاحين في القرية الذين يزوروننا، فيتساءلون بدهشة واستغراب: من هؤلاء؟! خاصة وأن صوراً لأمثال هيغل وماركس وكانط وشوبنهاور ونيتشه وغيرهم من الفلاسفة لم تكن ملامحهم مألوفة في مجتمع صغير مغلق كقريتنا، مجتمع شفاهي صِلاته مع ما حوله هامشية ومحدودة جداً، لا يرى من الألوان سوى ألوان السماء والمحاصيل الزاعية والحيوانات. كانت تثير الفلاحين نظرات أعين الفلاسفة الحادة، شعورهم الطويلة، وجوههم الصارمة، لا توحي وجوههم بهدوء وابتسامة واسترخاء ودَعَة وراحة ودفء. أضطر أحياناً الى التحدث للفلاحين عن أن هؤلاء رجال كبار، وأحاول أن أقارن بينهم وما يختبئ في ذاكرتهم من رجال مقدسين وفرسان وزعماء تاريخيين، نسج لهم متخيلهم الجماعي صوراً شديدة الإثارة، عابرة للزمان والمكان. رسمها ذلك المتخيل الذي أضحى منبعاً يصوغ رؤيتهم لله والمقدس والانسان والعالم، ويحدد مفهومهم للحقيقة، وكيفية ادراكها.
كانوا يعربون عن دهشتهم من هذه اللوحة النابتة في غرفة طينٍ، غريب كل شيء فيها على ما تتحدث به صورها، إذ لا ديكور أو أثاث أو ترتيب متسق فيها. إنها صور لا معنى تبوح به اليهم، إلاّ ما يحيل إلى متخيلهم الميثيولوجي للمقدس، المفارق للصور الدنيوية الحسية. أكثر من مرة ازدرى بعضُهم أصحابَ هذه الصور، فوصفوهم بالجنون أو الهبل، وأسمعوني عبثية هذه اللوحة الغرائبية التي صنعتها لمخلوقات تثير الاشمئزاز والقرف، بوصفها لا تشبه مفهومهم للكائن البشري. مفهوم البشر في قريتي هو الفلاح والراعي ابن الأرض، المألوف والمعروف، وكل إنسان غيره من الصعب منحه صفة الآدمية لدى هؤلاء الناس الذين لا يعرفون إلاّ أساطير عن الأجناس البشرية خارج محيطهم.

السأم السريع من تدوين اليوميات
في مرحلة دراستي الثانوية في مدينة الشطرة جنوب العراق بدأتُ بتدوين يوميات في صفحات مفكرة صغيرة جداً، أكتب كل يوم مساء عدة جمل، تشير الى أهم الحوادث والمواقف الشخصية في ذلك اليوم. وهي عدوى استبدت بي من بعض زملائي في الإعدادية التي درست فيها. إذ كان التلامذة من جيلي يغرمون بهوايات متنوعة، منها كتابة الشعر الشعبي العراقي في دفاتر صغيرة، والحرص على استظهاره وإنشاده وغنائه عند سهراتهم ليالي العطل في السكن الطلابي، ومنها الشغف بصور المطربات ونجوم الفن، التي يتصيدونها من مجلات الفن اللبنانية والمصرية. وجدت نفسي خارج غواياتهم وهواياتهم، ما خلا تدوين يوميات قبيل النوم كل ليلة، وهي تسجيل رديء لحوادث شخصية رتيبة، لا تشي برؤيا لما تبوح به تلك المواقف والحوادث. لم تتواصل هذه العملية طويلاً، إذ سرعان ما شعرت بتفاهة ما أقوم به وعدم أهميته، لذلك أعرضت عن ذلك، وأهملت تلك اليوميات. ربما لو استمرت كتابتي لليوميات مدة طويلة لتطورت عموديا وأفقياً عبر انفتاحها بمرور الزمن على فضاء بديل، يمنحها طاقة تجدد حيويتها وتكرس ديمومتها. حتى اليوم أعجر عن أن تصير الكتابة مهنتي اليومية.
اكتشفت لاحقاً أن مزاجي الشخصي لا يطيق الرتابة وسرعان ما يسقط في السأم والضجر. لحظةُ يكرر اليومُ صورةَ الغد، وينسخها كما هي بكل تفاصيلها وألوانها، أشعرُ بكوابيس مُرّة. في التكرار يتوقف الزمن الشخصي الباطني، لذلك لا أطيقه. لعل ذلك هو سر أسفاري وهجراتي في عوالم المدن والبلدن والكتب والأفكار والأشخاص والأشياء. لا تغويني هوايات وموضات جيلي، وحتى لو هرولت بغية محاكاتهم سرعان ما أهرب، كي أسكن لما تسكن إليه روحي.

الصورة الأولى في الكاميرا الشمسية
أول صورة فوتوغرافية طلبتها مني المدرسة الابتدائية، كي يلصقوها على صفحتي في سجل تلامذة المدرسة، هي صورة شمسية التقطها مصور بكامرته الخشبية في مدينة الرفاعي. لا أتذكر صورة سبقتها. أدهشتني العبقرية الفذة لمخترع الكاميرا الشمسية، ففي زيارة لمعرض الفنان والمخترع ليونارد دافنشي “1452 –  1519” في مدينة فلورنسا الايطالية عام 2007، شاهدت نموذجاً خشبياً ابتكره للكاميرا التي كان يحلم بصناعتها، بموازاة ما أنجزه من اختراعاته الكثيرة، أو ما اقترح فكرته ورسم خارطة لصناعته تترقب من ينتجها في زمان لاحق. أدركت أن عقل الإنسان يمكنه أن ينجز الكثير من وعوده وأحلامه، وإن كانت تبدو للوهلة الأولى وكأنها مستحيلة.
لاحظت أن الصورة تنطبع ابتداء بشكل مقلوب على رقاقة بلاستيكية، تسمى “جامة”، ربما لأنها شفافة كالزجاج الذي نسميه باللهجة العراقية “الجام”. “الجامة” صورة لا تشي إلاّ بملامح باهته، كأنها ملامح موتى. ثم يقوم المصور بعد ذلك بغسلها بمحلول كيمياوي داخل صندوق أسود، وبعد أن تجف يصوّرها من جديد، لينتج عدة صور منها.
عثرت في صورتي على شبح يحاكي بعض تعبيرات وجهي، ابتهجت كثيراً حين شاهدت صورتي للمرة الأولى في حياتي، وكأني عثرت في صورتي على شيء من ذاتي، وكل ذات عاشقة بطبيعتها لذاتها. لا نمتلك في بيتنا “مرآة” نرى فيها وجوهنا صباحاً ومساءً، إلاّ مرآة صغيرة جداً يستعملها المرحوم أبي فقط عند حلاقة ذقنه، وبعد أن يفرغ من الحلاقة يحتفظ بها في صندوق صغير مع ماكنة الحلاقة. المرآة أول نافذة ضوء للكائن البشري يكتشف فيها صورة وجهه وبعض ثيمات جسده، وتبدد شيئاً من عتمة الطبقات المبهمة لعوالم الذات.
كم أسعدني هذا المنجز البشري الذي منح الإنسان فرصة لرسم صورته بلا ريشة رسام وألوان، وكأن الكاميرا تحمل بشرى يشرق من نافذتها ضوء على دنيا الغد. أثارني شكل الكاميرا الشمسية وصندوقها المغطى بقماش كثيف أسود، وكيف يدخل المصور رأسه فيه لإنتاج الصورة عبر سلسلة عمليات بطيئة رتيبة.
كلما رأيت اختراعاً ومنجزاً جديداً للعلم أفرح، لبثت هذه الحالة معي إلى اليوم، وإن بتوتر أخف.كثيراً ما أشعر أن كل اختراع يزف بُشرى للعيش في غد أجمل، يهديها أولئك المخترعون الأفذاذ لكل كائن بشري، وإن كان ذلك الكائن لا يعرف قيمة منجز العلم، أو يناهضه كما هي الجماعات المتوحشة عدوة العلم والمعرفة والتكنولوجيا، غير انها لا تني تتوكأ عليها في إدارة وإنتاج فاشيتها الدموية.
مكاسب العلم عندي هي مرايا الغد التي تصوّر أحلام البشر وما يرتسم فيها على الدوام من انتصارات عقله على توحش الطبيعة، وتحطيم قسوتها، وقدرته على ترويضها، وظفره باستثمار ثرواتها، من أجل أن تصير حياته أسهل وأجمل. هكذا كان شعوري مع أول سيارة ركبتها، تنتمي صناعتها إلى خمسينيات القرن الماضي، هيكلها مصنوع من الخشب، ما خلا محركها الذي كان يعمل بالنفط الأبيض “الكيروسين”، ولا يدور إلاّ بـ”الهندر”.
لا أتذكر التقاط صور أخرى لي بعد هذه الصورة، إلاّ بضع صور لمعاملات إصدار الجنسية ودفتر الخدمة العسكرية ووثيقة التخرج من الابتدائية، نهاية الستينيات من القرن الماضي.

الشطرة وشخصية المدينة
بعد تخرجي من المدرسة المتوسطة في مدينة “قلعة سكر” جنوب العراق، انتقلت إلى مدينة الشطرة، التي أقمت فيها ثلاث سنوات، حتى تخرجت من الدراسة الثانوية.
تمتلك الشطرة منذ أكثر من نصف قرن شخصية مدينة، لا تخلو من فرادة في محيطها الاقليمي. مدينة تشهد عروضاً سينمائية ليلية، فيها استوديو حديث للتصوير، أسسه رجل محترف، ومكتبة عامة ثرية، قرأت فيها الجزء الأول من كتاب “لمحات اجتماعية في تارخ العراق الحديث” لعلي الوردي، وكتبت تعليقات على حواشي صفحاته، لا أعرف مدى أهميتها، وإن كنت أتمنى أن أعثر عليها الآن، كي أكتشف منطق التفكير الذي تملك عقلي ذلك الحين. الافتقار للأرشيف الشخصي افتقار لأهم أدة نكتشف فيها تاريخ تطور الوعي الشخصي ومحطات عملية التفكير، والمنعطفات التي عبرها العقل.
مطلع سبعينيات القرن الماضي كانت (الشطرة) أكثر تحضراً من المدن الصغيرة بجوارها، تنفرد هذه المدينة بوجود مكتبة لبيع الصحف والمجلات، المعروف عن صاحبها الكهل وقتئذ انه يساري، لذلك كان يعرض للبيع مجلات العربي الكويتية وغيرها والصحف العراقية. في الشطرة مطاعم تقدم أكلات شهية لم أذقها من قبل. وصالة لعرض الأفلام السينمائية، فيها دخلت لأول مرة السينما، وشغفت برومانسية الأفلام الهندية، كنت أغرق في انفعالات حارة، عندما يتصاعد التمثيل ليصل إلى ذروة المواقف العاطفية التراجيدية، والكلمات الحارقة، أكثر من مرة تباغتني دموعي لحظة الغرق في مشاهدها بحزن وألم. الأفلام الهندية تتحدث بكلمات وتعرض مشاهد عن بؤساء الهند تحكي شيئاً من مرارات ومواجع وجروح طفولتي وفتوتي.
بعد أقل من عامين امتنعت عن دخول السينما، وهجرت مشاهدة أي فلم، كذلك هربت من استماع أية موسيقى، ولم أعد أتذوق فتنة ألوان الصور الجذابة، حدث ذلك بعد أن طالعت كتاب “معالم في الطريق” لسيد قطب في الصف الخامس الثانوي. جرحتْ روحي غوايةُ شعاراته وأناشيده، مثلما استنزفتْ روحي النصوص الأخرى لأدبيات الجماعات الإسلامية. إنها نصوص كلما غرقت في مطالعتها، أسجل غياباً إضافياً عن عوالم الفنون الجميلة، بل إن مطالعتي للمزيد من تلك النصوص تغيبني عن تذوق صور الله الجميلة، وتجلياته الجمالية في الوجود.
في هذه المدينة شباب يهتمون بمطالعة الكتب والصحف والمجلات، يحاولون الانفتاح على عصرهم، ومواكبة كل ما هو جديد بحدود إمكاناتهم الضيقة. تتردد في كلماتهم أسماء بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء والكتّاب، ويؤشرون لبعض مؤلفاتهم المعرّبة في أحاديثم. وصف البعض (الشطرة) وقتئذ بـ”موسكو الصغرى”، لأن الحزب الشيوعي العراقي يمتلك قاعدة شبابية واسعة فيها.
في الشطرة بدأت تتراكم الصور في أرشيفي الشخصي، إذ كان بعض زملائي يمتلكون كاميرات تصوير عادية، مضافاً إلى وجود مصور يحتكر هذه الحرفة في المدينة، ولا يكف عن التفنن في تلوين الصور وتجميلها. بالتدريج اجتمعت لدي مجموعة صور شكّلت أول ألبوم، اقتنيته مطلع سبعينيات القرن الماضي، وأنا بعمر 16 عاماً، ثم أضفت له ألبوماً آخر بعد مضي عدة سنوات.
بعد عودتي من المنفى الذي أمضيت فيه ربع قرن تقريباً، زرت هذه المدينة وذهبت إلى محل ذلك المصور فوجدت أحد أبنائه، وحدثته عن أني كنت زبوناً لأبيه، وأتمنى أن أحصل على نماذج من صوري القديمة لديهم التي لا أمتلك أياً منها اليوم. لم أعثر من صوري في السبعينات إلاّ على ثلاث صور: الأولى تعود للعام الدراسي 1971. والثانية مع زميلي في الثانوية ابن الفهود جبار هزل في الشطرة عام 1972، هو قدمها لي بعد عودتي للوطن. وثالثة مع صديق العمر المرحوم الشهيد صالح هادي عودة السعيدي، عندما زرته في الموصل، حين كان جندياً مكلفاً خريف عام 1973.

انطفاء لهيب الشغف بالذاكرة
رغم حاجتي العميقة لأرشفة وتوثيق ذاكرتي، كما هي حاجة كل كائن بشري الأبدية لتخليد ذاكرته، لكن انخراطي في الجماعات الدينية في مرحلة مبكرة من حياتي أطفأ لهيب الشغف بالذاكرة، إثر تدجين متواصل، لا ينشد إلاّ تنميط الذات عبر إذابتها في الجماعة، والتنكر لحاجات جسد الإنسان ومشاعره، وتجاهل ظمأ روحه، وإطفاء منابع الفرح والمرح في شخصيته.
في هذه المرحلة لم تعد للصور وكل وثيقة تتصل بالأرشيف الشخصي أهمية عندي، ذلك أن لدي مهمة “رسولية” أعظم وأسمى من كل هذه الهوايات الرخيصة.كما تشدد على ذلك رؤيتي الجديدة للعالم، المستقاة من أدبيات هذه الجماعات.
طالما عشت صراعاً عنيفاً في مشاعري وحواسي الظاهرة والباطنة التواقة لكل ما هو جميل، وبين ما تمليه عليّ مفاهيم وتقاليد الانتماء لهذه الجماعات، التي تقول تعاليمها أن “كل شيء جميل في حياتك مؤجل، أي أنك سوف تستوفيه نسيئة غداً، لا نقداً هذا اليوم”. وكأن ما في الحياة من ضوء ومسرات كله لا يليق بمن يؤمن بالله ورسوله الكريم “ص”. الغريب أن أدبيات هذه الجماعات لا تكترث بالاستفهام الإنكاري للقرآن، واشارته في أكثر من آية لعدم تحريم زينة الله والطيبات، مثل: ” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ”. الأعراف 32. ما أفهمه أن “زينة الله والطيبات” تؤشر لجماليات الوجود، وكل ما يضئ ظلام العالم ويبدد عتمة أيامه.
تشدد تلك الأدبيات على أن مهمتها في هذا العالم هي التمهيد لإقامة دولة دينية، حتى لو تطلب ذلك الموت، لأن “الموت وليس الحياة هو أسمى أمانيها”،كما يشدد شعار “الاخوان المسلمون”. في سياق التثقيف على هذه المقولات لم تعد لأية صورة أو وثيقة شخصية أهمية تذكر لدي مهما كانت قيمتها.
ذبل اهتمامي بالصور والطوابع، ومسودات تمارين كتاباتي الأولى، وغيرها من أوراقي وأشيائي الخاصة. حتى في زواجي سنة 1977، ومن قبله عقد القران، أهملت عمداً تصوير هذه المناسبة، إلا أن زوجتي وعائلتها كانوا حريصين على التقاط بعض الصور. مع العلم أن أخوتها لم يكونوا بعيدين عن ثقافة هذه الجماعات، لكن تربيتهم المدينية احتفظت بشيء من الحس الجمالي، لذلك فشلت تقاليد هذه الجماعات بإطفاء ذلك الحس، بخلاف تربيتي الريفية وتقاليد القرية التي شكلت أرضية خصبة للتشبث بتقاليد الجماعات الدينية.
في آذار “مارس” عام 1980 أصدرت مديرية الأمن العامة ببغداد أوامر مشددة بمطاردتي وإلقاء القبض عليّ عاجلاً، بسبب اعترافات انتُزعت تحت التعذيب لبعض الشباب من رفاقي، وأصدرت عليّ فيما بعد “محكمة الثورة” حكماً غيابياً بالإعدام حتى الموت عام 1981. اختنقت يومذاك، بعد أن ضاقت عليّ جغرافيا وطني العراق الواسعة، بادرت إلى جملة تدابير وقائية، أولها التخلص من كل أرشيف الصور الشخصية والعائلية، فأحرقتها كلها. وقتها رغبت زوجتي أن تحتفظ ببعض صور العقد والزواج، لكني مزقتها، وأحالتها محرقتي جميعاً إلى رماد. كذلك عمدت لإحراق كل ما في خزانتي من مقالات الجريدة السرية لحزب الدعوة الإسلامية، الذي كنت منتظما فيه، ولم أحتفظ إلاّ بمقالة مخطوطة مطولة، كتبها مسؤولي في الحزب المرحوم الشيخ حسين معن، بعنوان: “فقه الدعوة”، كانت خلاصة نقاش بيننا حول المشروعية الفقهية للحزب، ومصادر الإلزام والتكييف الفقهي لطاعة وانضباط الأعضاء المنخرطين فيه بما يصدر لهم من أوامر. لم أجد أفضل من ساحة المنزل الصغير المتداعي، الذي أسكنه على حافة “بحر النجف”، في حزام البؤس والحرمان في النجف، كي أضع هذا النص في عدة أكياس بلاستيكية محكمة وأدفنها بعمق أكثر من متر، لا أدري ساعتها أن دفني لهذا النص سيغيبه عن عالمنا إلى الأبد، مثلما يُغيّب الدفن الموتى في مقبرة النجف إلى الأبد.

فوبيا الكاميرا والرغبة في التخلص من كل شيء شخصي
بعد هروبي من العراق استبدت بي رغبة التخلص من كل ورقة أو صورة أو أي أثر مادي يحيل الشرطة السرية إلى نشاطاتي واجتماعاتي، لذلك لم أهتم بالصور أو الأوراق الخاصة، وأتحاشى على الدوام التصوير مع الشباب المنتمين إلى حلقاتي الحزبية، بل أمتنع من التصوير مع من يحضر دروسي غير المعلنة أيضاً التي أقدمها لتلامذة جامعيين في بيوت أصدقاء.
لبثت في الكويت أربع سنوات، لم أشعر يوماً فيها بالأمان، رغم أني وجماعتي التي أنتمي اليها لم نكن نستهدف تغيير نظام الحكم في هذه الدولة، ولا ننشد تهديداً للأمن فيها، لأن جهودنا مكرسة لمقاومة نظام صدام الفاشي فقط. كنت مستعداً في أية لحظة لمداهمة الشرطة السرية والاعتقال، لذلك كنت أمزق وأحرق كل ما يمكن أن يُظن أنه رأس خيط يدل جهاز الأمن على شبكات علاقاتي، ونسيج تنظيماتي، وحلقاتي المتعددة، إذ كنت كل أسبوع أدير 24 من الحلقات التنظيمية، والدروس التثقيفية.
في ديسمبر عام 1983 باغتتنا سلسلة تفجيرات في الكويت، لا نعرف من نفذها، حدثت أثرها سلسلة اعتقالات ومطاردات، اضطررت بعدها بأسبوع لمغادرة الكويت، بعد أن عرفت بوشاية كاذبة للمباحث من أحد الأشخاص المعتقلين المتورطين في التفجيرات ضدي، وكموقف احترازي اعتقلت المباحث صاحب الشقة التي كنت أستأجرها، بوشاية كاذبة أيضاً لشخص عابث، ثم أطلقوا سراحه بعد أيام قليلة. ومن المفارقات أن هذا الرجل الطيب صاحب الشقة رحمه الله “توفي قبل سنوات قريبة”، غرق في هلع وكوابيس مزقته بعد اعتقاله، ولفرط رعبه قام بنقل مكتبتي إلى الصحراء، وأحرق كل الكتب فيها، حتى تفاسير القرآن. وهي مكتبة تضم كتباً ليست محضورة، إذ اشتريتها كلها من مكتبات الكويت، تجاوز ثمنها بمجموعها 2000 دولار.
قبل مغادرتي الكويت اتخذت إجراءً وقائياً أحرقتُ فيه ما اجتمع لدي من صور، ادخرتها كذكرى عطرة من رحلات أداء مناسك الحج والعمرة، خشية تسربها للمباحث، وكي لا يُتهم بعض الأشخاص الأبرياء من الأصدقاء بتهم باطلة فيقع ضحية، كما يحدث في كل موجات الاعتقال في بلادنا. هكذا بعد أربع سنوات يحل وعد المجزرة الثانية لبقايا ذاكرتي الموشومة، وبقايا أرشيفي الصغير جداً.
باتت هذه الحالة من عاداتي المزمنة، إذ طالما سارعت بتمزيق وحرق رسائل أو أوراق، حيثما كنت وكانت. وأحياناً بعد مضي سنوات في مناسبة ما أتذكر قضية هامة أوردتها رسالة من صديق، أو بعض الأوراق التي تتضمن موضوعاً يهمني اليوم، وأحتاج الاستناد اليها كوثيقة، فأفتش عنها لكن دون جدوى. يبدو أن أرشيفي كان ومازال ضحية كوابيس مدفونة في أعماقي، يعلنها صوت مخيف، كأنه يخيرني: “بين أن أُعدم أو أن أَعدم أرشيفي”.
بعد هذه المجزرة لبثت سنوات طويلة في المنفى أمتنع عن التصوير. ذاكرتي الجريحة تنزف حينما يدعوني أي شخص للتصوير، ولا أبالغ إن قلت إني مكثت عدة سنوات تنتابني حالة يمكن أن أنعتها بـ”فوبيا الكاميرا”، حتى انتقلت حياتي رغماً عني إلى طورها الوجودي الجديد تبعاً للطور الوجودي الجديد للعالم، الذي أنجزه الأنترنيت وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، وإنتاج هذه التكنولوجيا لعالم بديل، انهارت معه الكثير من الخصوصيات الشخصية، وأمست أكثر الأسرار سرية مفضوحة شئنا أم أبينا، ولم يعد منطق الحدود الحسية المادية فاعلاً، وإن ولدتْ في سياق عالمنا البديل حدود تشبهه، هي حدود رمزية لا مادية، ربما هي أقسى من الحدود المادية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *