*هيثم حسين
هل المحرّر هو المملي على الكاتب والروائيّ ما يجب وما لا يجب؟ هل هو مفترض الدقّة والأحقّيّة والصواب في ما يقترح؟ هل هو الجنديّ المجهول الذي يضحّي بفكره ويوظّف إبداعه في خدمة أشخاص آخرين؟ إن كان المترجم يوصف أحياناً بأنّه كمَن يتبرّع بدمه للآخر، وهو الذي يظهر اسمه على العمل تالياً كشريك في لغته التي ينقل إليها، فكيف قد يوصف المحرّر الذي يُحجب اسمه بالعادة ويبقى مجهولاً للقارئ؟ هل يكون بطلأً مجهولاً أم أنّه لا يتعدّى كونه حلقة مهنيّة في سلسلة صناعة الكتاب وإيصاله للقارئ؟ هل المحرّر الأدبيّ مندوب الناشر لضبط الكتاب المراد نشره وتشذيبه بما يتوافق مع رؤى الناشر وتوجّهاته أم هو الوفيّ للنصّ وصاحبه بعيداً عن إملاءات الناشر وتوصياته؟ عمل المحرّر لاحق لعمل الكاتب، ومكمّل له، فهل يمكن التعاطي مع المحرّر كقائد للعملية الإبداعية أو موجّه لدفّتها، واعتباره الأقدر على رؤية العمل بصيغته النهائية، حتّى أكثر من مؤلّف العمل نفسه؟ وهل يكون المحرّر مؤلّفاً يسدّ ثغرات المؤلّف الأصليّ ويصوّب اعوجاج عمله أو الهنات التي قد يكون غفل عنها في غمرة إبحاره في تحبيك تفاصيل نصّه؟
يختلف دور المحرّر الأدبيّ عن دور المدقّق اللغويّ، فالمدقّق اللغوي يراجع النصّ ويبحث عن الأخطاء اللغوية، ليصوبها، وقد يسهو في انغماسه في تقصّي الأخطاء وتصويبها عن كثير من النقاط الأخرى المتعلّقة ببنية النصّ نفسه، سواء كانت تلك المتعلّقة بالبناء الفنّيّ، أو بتركيبة الشخصيّات، ومواءمتها لواقع العمل الأدبيّ وخدمتها إياه، وانسجامها ضمن هيكليّة العمل ككلّ أو تلك المرتبطة بالبناء اللغويّ وإيقاع المقاطع وتقديم الفصول وتأخيرها، أو تصدير أحداث أو تعزيز شخصيات أو الحدّ من دورها وغير ذلك ممّا يتعلّق ببنية العمل.
يتفحّص المحرّر الأدبيّ النصّ من زوايا مختلفة، فمع اهتمامه بالأسلوب، وحرصه على اللغة وسلامتها، يحرص على إيصال العمل إلى صيغته النهائيّة، وإن اضطرّ أحياناً إلى إعادة بناء بعض المقاطع، أو حتّى بعض الشخصيّات، ويقدّم اقتراحاته لسدّ بعض الثغرات الفنّيّة هنا أو هناك في العمل. وقد يقترح إضافة محاور أو أفكار تضفي مزيداً من التشويق والإغناء على العمل الأدبيّ.
كما قد يقترح تغيير مصائر شخصيات بعينها، أو دفعها بهذه الوجهة أو تلك، بما يجده متوافقاً مع خطّ سيرها وتحرّكها طيلة الأحداث التي أوقعه الكاتب فيها، بحيث تكون أكثر قدرة على الإقناع، وتصل إلى درجة من التبلور الذي يفترضه المحرّر، ويراه الأنسب.
هناك أمثلة كثيرة في تاريخ الأدب عن محرّرين أصبحوا رموزاً في صناعة النشر، وآخرين اختطّوا مسارهم الإبداعيّ الخاصّ وحقّقوا إنجازات لافتة في عالم الأدب. من هؤلاء مثلاً الروائية الأميركية طوني موريسون (1931)، الحائزة جائزة نوبل للآداب سنة 1993، والتي تعدّ من أبرز الكاتبات بين السود في أميركا، إذ كانت قد عملت مستشارة ومحرّرة في إحدى دور النشر لسنوات، وذلك قبل أن تتفرّغ لعملها الخاصّ، وتجنح في عالم الأدب والخيال بعيداً عن عملها التحريريّ وترقيعها وترميمها لنصوص الآخرين، وبعيداً عن مناقشاتها الدائمة مع الأدباء، وإصرارها على البحث عن سبيل لتحقيق حلمها الشخصيّ لا أن تبقى جسراً للآخرين لتحقيق طموحاتهم وأحلامهم وذواتهم.
هناك فيلم “العبقري” للمخرج البريطانيّ مايكل جراندج تناول علاقة الكاتب الأميركيّ توماس كلايتون وولف (1900- 1938)، مع الناشر والمحرّر الشهير ماكسويل بيركنز؛ الذي نشر وحرّر أعمالاً لكتّاب بارزين منهم، إرنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد وغيرهما. وقد أبرز الفيلم الدور الكبير الذي لعبه ماكسويل كمحرّر في اختيار وانتقاء ما وجده مميزاً من آلاف الصفحات التي أعطاه إياها وولف، الذي كان يكتب بغزارة وفي مختلف الأوقات. كما يثير أسئلة عن دور المحرّر في تقديم الكاتب بصيغته النهائيّة، وتدخّله في توجيه جموح الكاتب أو ترويض جنونه، وتهدئة ثورته، ثمّ ترتيب أفكاره، بحيث يعمل المحرّر على صناعة شخصيّة الكاتب وكتابه في الوقت نفسه بالصيغة التي يرتئيها أنسب للتقديم والنشر.
الأرجنتيني ألبرتو مانغويل تطرّق في كتابه “مدينة الكلمات” إلى التشييء وتسليع الأدب والفنّ. أشار إلى أنّ في عالم الكتاب، تحدث عملية التشييء عبر تلاعب صناعيّ يعرَف باسم عملية التحرير التي رسخت مغالطات عديدة كانت موضع كثير من الأدباء والفلاسفة. ويذكر أنّ أخطر واحدة بينها هي تلك التي تفترض أن النصّ الأدبيّ “قابل للكمال”: أي بمعنى أن الكتابة يجب أن تتوق إلى نوع من النموذج البدئي الأفلاطونيّ، نموذج مثاليّ للنصّ الأدبيّ. ويشير كذلك إلى أنّ هذا يستتبع، من ثمّ، أنّ هذه الفكرة المثالية يمكن بلوغها بمساعدة اختصاصي، محرر يؤدّي دور ضابط إيقاع أو ميكانيكيّ يمكنه تحسين النصّ إلى “درجة الكمال” عبر مهارات قراءة احترافية. وبذا لن يعدَّ الإبداع الأدبيّ “عملاً قيد التطوّر” من حيث الجوهر، غير مغلق أبداً، غير حاسم أبداً، سيكبح لحظة نشره، بل نتاج شامل، بهذه الدرجة أو تلك، ينطلق به الكاتب، وينهيه محرّر، ويوافق عليه اختصاصيون متنوّعون في التسويق والمبيعات.
يورد مانغويل حكاية تذمّر الكاتب أنثوني بيرجس، في مراجعة لرواية د. هـ. لورنس “أبناء وعشاق” من عملية التحرير: وقوله: “أعتقد أنّه يجب تقريع ضرورات أعراف النشر الأنغلو – أميركي في هذه المرحلة، إذ أنّ المحرّر الذي يفتقر إلى الموهبة الإبداعية ويعوّض ذلك بذائقة فنّية قد مُجّد على نحو عير معقول. فبعضنا يرغب في معرفة ما كتبه توماس وولف قبل أن يفهمه ماكسويل بيركنز… ليس ثمّة محرّرون ينقّحون العلامات الموسيقيّة الأوركستراليّة أو اللوحات البانورامية، لمَ ينبغ إفراد الروائيّ ليكون هو الفنّان الوحيد الذي لا يفهم فنّه؟”.
ينوّه مانغويل – الذي يقرّ بدور محرّرين مساعدين له في أعماله – إلى أنه سيتجلّى عمل مثل هؤلاء المحرّرين على نحو أكبر حين ندرك أنّهم كانوا يصارعون متطلّبات التكتّلات المهنيّة الكبرى لإنتاج أدب فعّال في الصنعة، رائج المبيعات، بحيث يوفّق بين الصعوبة والافتقار إلى الخبرة، ويطالب بحلول لكلّ موقف سرديّ وتأكيدات لكلّ شكّ تخييليّ، ويقدّم صورة قابلة للفهم كلياً عن العالم الذي أقصيت منه التعقيدات، ولم يعد يستلزم أيّ تعلم جديد، مستبدلاً إياه بحالة من “السعادة” البلهاء. ويؤكد أنّه يتمّ تطويع الكتّاب والقرّاء عبر جعل الكتّاب يؤمنون بأنّ إبداعاتهم يجب أن تنقّح على يد شخص ذي معرفة أفضل، وعبر إقناع القرّاء بأنّهم ليسوا أذكياء بما يكفي لقراءة سرديات أشدّ ذكاء وتعقيداً.
يثير الحديث عن دور المحرّر الأدبيّ، كثيراً من التساؤلات التي تبقى قيد المقاربة والتجاذب، منها ما يتعلّق بماهيّة الكتابة نفسها وصلاحية المكتوب للنشر، وهل كلّ ما يكتبه الكاتب يصلح للنشر أم أنّ المحرّر الذكيّ يختار ما يفترض أنّه الأنسب والأفضل؟ ماذا لو اطّلع القرّاء على جميع الصفحات والمسوّدات التي يكتبها الروائيّ قبل تحرير عمله، هل سيصدم به وبتميّزه وعبقريّته أم أنه سيجده أقرب إليه لعفويته قبل أن يتدخّل مقصّ المحرّر ويقوم بتشذيبه وتهذيبه؟
____________
*المدن